عن الأسلحة والكتب
عبد العزيز آل محمود
في يناير عام 1958 وصلت رزمة مغلفة ومختوم عليها “سري جداً” إلى مبنى المخابرات الامريكية CIA مرسلة من المخابرات البريطانية. كان بداخلها فلمان مصوران يحويان صفحات كتاب بعنوان “دكتور زيفاغو” باللغة الروسية للكاتب بوريس باسترناك .
كان الكتاب قد منع في الاتحاد السوفييتي فتقدمت المخابرات البريطانية إلى نظيرتها الأميركية باقتراح طباعة الكتاب وتوزيعه خلف الستار الحديدي في الدولة التي صدر فيها ومنعته خوفاً منه.
وضعت المخابرات الأميركية خطة تقوم على توزيع الكتاب على أكبر عدد ممكن من المواطنين الروس بشكل سري أملاً في أن تنتقل هذه النسخ من شخص إلى آخر لتأليب الشعب على حكومته. ولم تتوقف المخابرات الأميركية عند النص المطبوع، بل إنها دفعت باتجاه إنتاج فيلم الدكتور زيفاغو الذي نجح نجاحاً كبيراً، ودفع بالكتاب وصاحبه لاحتلال مركز الصدارة في الأدب الروسي.
كان الهدف من كل ذلك هو جعل المواطن السوفييتي يتساءل عن الأسباب التي دفعت بحكومته لمنع كتاب لكاتب مرموق من النشر والتوزيع، ويبدأ في وضع علامة استفهام عن الطريقة التي تعامله بها، مما يولّد نوعاً من الشك وعدم الاحترام بين المواطن والنظام السوفييتي في ذلك الوقت.
لم يكن كتاب دكتور زيفاغو هو الوحيد، ولكنه كان الأهم، فقد قامت مخابرات الكتلة الغربية بتوزيع حوالي 10 ملايين مطبوعة بكل الأشكال، تتنوع بين الرواية والشعر وأسلوب الحياة الغربي والموسيقى في داخل الاتحاد السوفييتي لضرب مصداقية نظام جامد قاس لا يقدس حرية البشر ولا كرامتهم.
نشرت هذه القصة يوم 6 نيسان/ أبريل 2014 في صحيفة الواشنطن بوست بعد أن رفعت السريّة عن الوثائق التي كتبت حول هذا المشروع الأدبي السري، وإن أبقت على أسماء العملاء السريين الذين عملوا بجد لتسريب نسخ من كتاب الدكتور زيفاغو إلى الآلاف من المواطنين السوفييت بكل طريقة ممكنة.
شاركت في هذه العمليّة الضخمة عدة أجهزة مخابرات مع المخابرات الأميركية وهي المخابرات الهولندية والفاتيكان الذي كان غطاء رائعاً لتوزيع مثل هذا الكتاب على الزوار الروس في المناسبات الدينية وغيرها، بالإضافة إلى المخابرات البلجيكية التي أوعزت للحكومة بإصدار 16 ألف تأشيرة دخول إلى بلجيكا لمواطني الاتحاد السوفييتي لحضور معرض الكتاب ليكونوا حملة لهذا السلاح السري إلى خلف الستار الحديدي.
أليس غريباً أن تبذل كل هذه الدول كل هذا الجهد من أجل كتاب؟
دأبت الكثير من الأنظمة الشمولية على تتبع خطى بعضها في منع الكتب ومصادرتها وحرمان شعوبها من أي رأي يخالف توجهاتها وأيدولوجيتها، ولا تدري أنها بفعلها هذا تصنع سلاحا فتاكا وتضعه في يد أعدائها ليقاتلوها به .
نشرت صحيفة كرونيكل أوف هاير إديوكيشن المرموقة قصة أخرى عن الشاب جوزيف شكشفيلي الذي كان يدرس اللاهوت عندما وقعت في يده عدة نشرات سرية للمفكر الشيوعي فلاديمير لينين. فقرر الشاب أن يتحول إلى الشيوعية تاركاً خلفه كل ما له علاقة باللاهوت ولم يلتفت إليه طوال السنوات التي بقيت من حياته.
لقد غير الشاب جوزيف شكشفيلي اسمه ليصبح جوزيف ستالين، أي الحديدي، وعمل في الصحافة ليكسب عيشه، فكان عليه أن يحرر مذكرات السياسي الألماني بسمارك خلال التحالف الألماني الروسي حين جاء على فقرة في آخر الكتاب يحذر فيها بسمارك الألمان من خشيته من أن تتراجع ألمانيا عن تحالفها مع روسيا وتهاجمها.
شطب جوزيف ستالين هذا التحذير بقلمه المشهور، وحين سأله المحرر عن سبب ذلك كان رده: ولماذا تخوفهم؟ دعهم يحاولون!
لقد حاول الألمان فعلا احتلال روسيا في الحرب العالمية الثانية وكانت النتيجة مقتل حوالي 30 مليون شخص أغلبهم من الروس، ذهب فيها المجد للشاب الذي شطب التحذير الألماني من كتاب مفكرهم، ولم يسأله أحد عن مسؤوليته في قتل كل هذا العدد من البشر!
سيبقى الفكر سلاحاً فتاكاً في هذا العالم، تحسن استخدامه الأمم والأنظمة التي تحترم حرية شعوبها، أمّا تلك التي مازالت تعيش متقوقعة خلف ستارها الحديدي فستكون معرضة له، هشةً أمامه، راكعة لسطوته.
العربي الجديد