صفحات الرأي

عن الإحباط/ عناية جابر

تحمس البعض في بداية حراكات الربيع العربي لظنهم ربما ان الجماهير العربية قررت أخيرا ان تثور على حاضرها الاستبدادي وان تدخل عصر الديمقراطية العصري. تحمسوا حين رأوا الناس تنزل إلى الساحات تحتلها وترفع شعارات إسقاط النظام.

أراد هذا البعض ان يساهم بما ملكت إيمانه في هذه الثورة فقام يحمسنا على المشاركة والانخراط في صفوفها للتعجيل بنجاحها وإسقاط الرؤوس المستبدة في مجتمعاتنا.

وبقدر ما كانت تغوص البلاد في حروب شبه أهلية أو أهلية واضحة غاص هؤلاء بنظرية المؤامرة المقلوبة. فبدلا من اتهام القوى العظمى على جاري العادة قام هؤلاء الكتاب والثوريون باتهام الأنظمة المستبدة نفسها بالقيام بتأليف وصنع الحركات المتطرفة والنفخ بأتون الطائفية لكي تحمي نفسها. الأنظمة تتآمر على الثورات الشعبية كما يقولون.

في البدء كانت الثورة ثم ولد الكون بحسب هؤلاء.الثورة أصل وكل ما عداها فروع . كأن المجتمع ولد حول الثورة أو بعدها. أما اليوم وبعد ان تفجرت المجتمعات العربية كلها من الداخل وصار الكل مشتبكا مع الكل انتبه بعض البعض الى حالة الاستعصاء التي تعيشها مجتمعات الجماعات الطبيعية، الطائفية والعائلية والعشائرية، فدخل في إحباط عظيم. بينما يستمر بعض البعض في الخوض بالثورة على أساس أن الثورة سيرورة طويلة جدا لم يكن ما وقعنا عليه غير المرحلة الأولى منه التي سوف تترك المجال لمراحل مبهجة وأكثر بياضاً.

وسواء انطلق المراقب ‘الثوري’ من الأسباب السياسية أم من الأسباب الإقتصادية العميقة فإنه ينطلق من فرضية ضمنية تقوم على اعتبار البلاد تامة الإجتماع. كما اعتبر المسألة مسألة داخلية بحتة ومنفصلة عن الكون المحيط، هذا إذا لم يكن يعتبره عاملا مساعداً. وهنا ربما مكمن العلّة. لأن المعطيات التي تؤدي الى نشوب انتفاضات شعبية تختلف باختلاف الحالة بين المجتمع التابع وبين المجتمع المستقل. فنقل التجارب التاريخية السابقة أو الأجنبية أو الإستئناس بقياساتها كان يمكن أن يكون إيجابياً لو لم تكن هذه المجتمعات تابعة وخاضعة.

على اي حال وأيا يكن أمر التبعية للخارج ومدى استقلالية الداخل، فنحن إزاء مجتمعات من طبيعة المتحدات الأهلية الكلية، أي أن المجتمع ليس موحد النسيج الإجتماعي بل ‘بيت بمنازل كثيرة’ على حد قول المؤرخ كمال الصليبي. هذه المنازل تتنازع منذ التاريخ السيطرة على الموارد الطبيعية القليلة الشحيحة. وحتى عندما تعاظمت هذه الموارد وصارت نفطأً بدل الماء والكلأ فإنها لم تستطع أن تغيّر في طبيعة هذه المنازل التي بقيت تتصارع على حصتها منه. ومن هنا فإن كل مطلب يستهدف التغيير السياسي في البلاد لا يفهمه أعضاء المنازل إلا استهدافاً لحصتهم من هذه الموارد كمجموعة كاملة لا كأفراد. وكل فرد منهم يستشعر الخطر العام حتى ولو كانت حصته من حصة الجماعة لا تتعدى الوظيفة العادية في سلك التعليم أو الدرك.

وانطلاقاً من هذه التركيبة الإجتماعية ينقسم الناس طبيعياً وتلقائياً لا إلى مع أو ضد التغيير بل إلى مع أو ضد هذا ‘المنزل’ أم ذاك. تستبد بالناس فوراً نعرة رابطة الدم أو الدين أو المذهب أو العرق وينخرطون بمعركة الدفاع عن جماعتهم لا عن تغيير ظروف الحكم السياسي. ذلك ان القرابة نظام حياتهم الكلية. فعبر شرايينها التراتبية يتم توزيع ‘المغانم’ والحصص الناتجة عن تحصيل الغلل والريوع. ومفتاح الحصول على حصة أكبر هو السيطرة على الملك لكي تتنعم الجماعة بموارده و’لذاته’ على حد قول العلامة إبن خلدون.

موقف الفرد إذن ليس فردياً إلى الحد الذي نظن. بل هو محكوم بظروف عيشه بحصة الجماعة أو المتحد الذي ينتمي إليه. ومن هنا فإن تعلقه به وتعصبه للجماعة التي ينتمي اليها ليس مبنياً على ‘تصوراته’ عن الكون، عن قناعاته ووعيه، عفوية كانت أو مشغولة، بل عن ارتباطات حياتية متصلة بمصالحه المعيشية المباشرة. فكلما كبرت حصة الجماعة كلما كان الفرد فيها مطمئناً الى سلامة غده ومستقبله. وكلما ضعفت أو تناقصت كلما نضبت أسباب الإزدهار الاقتصادي لديه. من هنا ارتباطه الوثيق بمتحده القرابي ومن هنا الاستماتة بالدفاع عنه وليس لأسباب إيمانية غير مفهومة على الدوام.

الفرد يعرف بالسليقة والممارسة مصالحه وكيفية الوصول الى شبكة العلاقات البشرية القرابية التي تؤمن له هذه المصالح فينخرط بها لا إيماناً بدينها الظاهر بل بدينها الباطن، العيش. ففي المتحد القرابي ما قبل الطائفي لم يكن العامل الديني العامل الرئيسي للتجمع البشري. روابط الدم وحدها تقوم باللازم وتكفي لكي يتعصب الناس لجماعاتهم تماما كما يتعصب الناس لطوائفهم.

نظام الحياة العامة وكسب العيش منظمان على نحو لا يتيح للأفراد أن يصلوا الى غاياتهم البدهية الا عبر المتحدات القرابية. فلا يختارون الانتماء اليها طوعاً بل مرغمين. نظام الحياة العامة لم يستطع أحد ان يتجاهله الا ودفع ثمنه تهميشاً عن السلطة ثم عن الموارد كتحصيل حاصل.

يظن أنصار الربيع العربي أو أنصار ‘الإنتقال اليمقراطي’ أن السلطة في بلادنا هي ادارة الشأن العام أي هيئة ادارة شؤون الناس كمجتمع بينما يرى الناس بمنازلهم الكثيرة اليها بصفتها وسيلة خاصة للحصول على موارد المجتمع والسيطرة عليها أو على اكبر قدر منها. والاختلاف كبير بين النظرتين. فإذا صحت النظرية الأولى يصح معها أن تثور ‘الناس′ على ‘النظام’ السياسي أي على الفئة التي تدير السلطة. اما إذا صحت الثانية فإن الثورة على السلطة هي انتفاضة على القرابة الحاكمة بمجموعها ومن هنا الانقسام العامودي الذي يلي الانتفاضة.

في الحالة الأولى، السلطة العامة، انصار السلطة في المجتمع أقلية أما في حالة السلطة القرابية فلا أحد قليل والكل قوي. ومن هنا الحروب الأهلية المدمرة. الاستعصاء التغييري ناتج إذن عن طبيعة التركيبة الاجتماعية ذاتها لا عن ظروف الانتفاضات والرغبات الثورية. فإذا ركبتم الثورة عليكم ربما أولا معرفة أي منقلب اجتماعي تنقلبون حتى لا يصيبكم الإحباط. فالإحباط، في حالة الجهل بالإجتماع، لايساوي شيئاً امام التدمير المجتمعي الكبير الذي يكون قد ساهم البعض، بكل براءة، في إشعال شرارته وإذكاء ناره.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى