صفحات الرأي

موقع مسيحيّي حلب الريادي في حركة التنوير العربية


كرم الحلو

اذا كان للمسيحيين العرب أن يشعروا بالغبن والمرارة ازاء الجحود والتهميش، اللذين يُواجهون بهما رغم كل اسهاماتهم في بناء الحضارة العربية وتضحياتهم من اجل تقدم العرب وارتقائهم. فلمسيحيي حلب ان يشعروا بغبن ومرارة مضاعفين نظراً لموقعهم الرائد والمميز والتاريخي في النهضة العربية الحديثة، وما يتعرضون له راهناً من تهجير واضطهاد واتهامات تصل الى حد التشكيك بالهوية والانتماء، فقد افادت الاحصاءات أن تسعين في المئة من هؤلاء قد هاجروا، بينما لم يتورع أحد قادة الفصائل الاسلامية الحلبية المسلحة في حديث لـ”الحياة” 30/10/2012 عن اتهام المسيحيين الحلبيين “بأنهم ليسوا سوريين فعليين … وليست لديهم روابط بالبلاد … وعندما يحدث شيء سيفرون لان الغرب والنظام يقولان لهم انه في حال سيطر الثوار فسيقتلونهم”.

بالعودة الى التاريخ، نرى ان عدد المسيحيين في حلب كان يعادل ربع سكان المدينة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وانهم كانوا يقطنون احياء خاصة، لها بوابات تقفل عشية كل يوم اتقاء للسطو والسرقات. ومن هذه الاحياء حي “الصليبة” الذي كان يقطنه أغنياء المسيحيين، والذي تميز بـ”شيوع الروح الغربية فيه، عبر العلاقات التي ربطته على نحو اجتماعي عميق بالجاليات الغربية”. وفي رأي المؤرخ الحلبي كامل الغزي ان هذا الحي تأسس في القرن الخامس عشر، فيه “عدة دور عظام ذات بهاء وجمال يدلان على ثروة اهلها وما كان عليه تجار حلب من النجاح والرباح والغبطة ورخاء المعيشة في ذلك العهد”. وثمة اتفاق بين المصادر التاريخية على أن النهضة التي عمت بلاد الشام في القرن التاسع عشر كان بدؤها في حلب في القرن الثامن عشر، ففي اوائل هذا القرن، كما يقول البرت حوراني، نهض عدد من المسيحيين في حلب للتعمق في علوم اللغة العربية على يد مشايخ الدين الاسلامي، وقد كتب بعضهم النثر والشعر الصحيحين بشغف، ومنهم امتدت شعلة الادب العربي الى لبنان، ولهؤلاء الفضل في النهضة الادبية في لبنان، في رأي مارون عبود حيث يقول:”عن حلب الشهباء اخذ لبنان لغة الضاد”.

ومسيحيو حلب رواد الطباعة العربية، فقد انشأ المطران اتناسيوس الدباس أول مطبعة عربية في حلب سنة 1702، ومنها قدم الى لبنان عام 1722 المسيحي الحلبي عبد الله الزاخر “ابو الحرف المطبعي العربي” كما لقبه مارون عبود، فأنجز مطبعة الشوير عام 1723. ونعرف ما للطباعة من اهمية اذا علمنا ندرة الكتب واقتصارها على النخبة من الدارسين في تلك الآونة.

واهتم المسيحيون الحلبيون بالمدارس، فبادروا إلى إنشائها بينما كان الشرق يغط في ظلام الامية، فأسس الموارنة المدرسة المارونية سنة 1666 وكذلك انشأ الاورثوذكس سنة 1800 والبروتستانت سنة 1848 والفرنسيسكان سنة 1859 مدارس تعلم فيها العديد من ابناء حلب.

وما يزيد من مكانة مسيحيي حلب في النهضة الثقافية في بلاد الشام نبوغ عدد منهم واسهامهم الكبير في ارتقاء اللغة والادب العربيين، ومن هؤلاء المطران جرمانوس فرحات، الذي الف في الصرف والنحو، وسعى لجعل العربية قريبة المنال بعيدة عن التعقيد، وقد كان لهذا الاسقف الفضل الكبير في ترسيخ العربية وتغلبها على السريانية في عصر غلبت فيه العجمة العربية.

وعرفت حلب نهضويين مسيحيين لهم اسهامات جلّى في حركة التنوير العربية. من هؤلاء رزق الله حسون الذي انشأ في الآستانة أول صحيفة عربية عام 1855، وصفه فيليب طرازي بامام الصحافة العربية بلا مراء وقد نادى بالحرية ودان الاستبداد في كتاباته دون هوادة، و”قضى ردحاً من الزمن يرسل شعاع الحرية الى ابناء سوريا من اعظم عاصمتين اشتهرتا بالنظم الدستورية اي لندن وباريس” على حد تعبير فارس نمر. ومنهم جبرائيل دلال، من اوائل شهداء الليبرالية العربية وشاعر قصيدة “العرش والهيكل” التي ضمنها خلاصة الفكر الليبرالي، وكانت السبب في سجنه واعدامه. ومنهم ايضاً عبد الله مراش، المثقف الموسوعي الذي وصفه ابراهيم اليازجي بـ”كوكب المشرق الطالع في سماء المغرب” لجرأته النقدية وثقافته الشاملة. ومنهم كذلك الرائدة النسائية مريانا مراش التي كانت اول امرأة عربية تنشر افكارها في الصحف، وقد كتبت مقالتها الأولى في مجلة “الجنان” البيروتية عام 1870 حيث دعت بنات جنسها الى الانخراط في نهضة المجتمع العربي وتقدمه، وهي اضافة الى ذلك اسست في بيتها أول صالون ثقافي في الشرق العربي كان يلتقي فيه كبار ادباء عصرها ومفكريه، وذلك في سبعينيات القرن التاسع عشر، وايام كانت المرأة العربية محرومة من كل حقوقها الانسانية.

اما المسيحي الحلبي فرنسيس المراش 1836 1874 فقد كان من دون ريب طليعة الليبراليين العرب والمؤسس لحقوق الانسان الطبيعية في الفكر العربي قبل الاعلان العالمي لحقوق الانسان باكثر من ثلاثة ارباع القرن، اذ نادى بابطال الرق على اساس الحق الطبيعي قبل أن تنتهي حرب تحرير العبيد في اميركا، وكان اول من نادى بالمساواة السياسية المواطنية، وأول من اقر بحقوق الفئة البائسة في السياسة والاجتماع، واول من اعترف بحق المرأة في اختيار زوجها في فكرنا العربي الحديث. فضلاً عن ذلك كان من المنادين بمرجعية العقل وبحرية الرأي والتفكير، في وقت كانت تنيخ فيه قيود شتى على الفكر حتى في الغرب الاوروبي.

ولم يقف المسيحيون الحلبيون عند هذا الحد، بل رفعوا شعار الوطنية اللا طائفية والقومية العربية الجامعة لكل الطوائف والمذاهب على أساس حضاري، ولهم في حب حلب وانشدادهم الى ترابها قصائد عصماء ونصوص ادبية خالدة.

ألهذا يكافأ مسيحيو حلب اليوم بالتهجير والتهديد والتشكيك بالهوية؟ هل يدفعون الآن ثمن قيادتهم لحركة التنوير العربية؟ هل هي أحكام متأخرة بحق جرمانوس فرحات ورزق الله حسون وجبرائيل ونصر الله دلال وفرنسيس ومريانا وعبد الله مراش؟

في رأينا ان الذين يهددون مسيحيي حلب اليوم ويهجرونهم ويتهمونهم في هويتهم وانتمائهم انما ينقلبون على كل ارث النهضة والتنوير. ويعملون على اعادة احياء فكر القرون الوسطى الظلامي في وقت يتجه فيه العالم العربي نحو تصفية إرث الاستبداد المشؤوم ومعانقة نور الحرية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى