عن الاستعصاء السوري!
أكرم البني
ثمانية أشهر مرت على بدء الاحتجاجات الشعبية في سوريا، ولا يزال الاستعصاء سيد الموقف ولا يزال المشهد يتكرر ويكتظ بصور مظاهرات تمتد وتتسع وتجر وراءها مزيدا من الضحايا والجرحى والمعتقلين، وقوات أمنية وعسكرية تنتشر في كل مكان ولا توفر وسيلة من وسائل القمع والتنكيل لمحاصرة حراك الناس وإجهاضه!
العجز عن الحسم صنعه تصميم أهل الحكم على منطق القوة والغلبة وإنكار أسباب الأزمة مع الترويج لفكرة المؤامرة ورفض الحلول السياسية التي ترضي الناس وتخفف حدة التوتر والاحتقان، خاصة وأن لديهم كثيرا من الثقة بأن الأساليب الأمنية والقمعية المجربة قادرة على الحسم وسحق الحراك الشعبي وإعادة زرع الخوف والرعب في المجتمع، وفي المقابل ثمة عزيمة لا تلين يظهرها المحتجون في الدفاع عن مطالبهم في الحرية والكرامة، وهؤلاء لم يعد لديهم ما يخسرونه، خاصة وأن الأسباب والدوافع التي حركتهم باتت أكثر حضورا وتأثيرا، يعززها إدراك عام، بأن ما يحصل هو لحظة للتغيير يصعب تكرارها أو فرصة تاريخية نادرة يجب أن لا تضيع للخلاص من منطق القوة والتمييز والغلبة، وبأن أي توقف أو عودة إلى الوراء هو الطامة الكبرى ويمكن الدولة الأمنية من تثبيت ركائزها وتحكمها بمصائر البلاد والعباد ويضع الأجيال القادمة في شروط أسوأ بكثير مما هو قائم الآن.
وما يطيل أمد الأزمة ويتركها عصية على الحل عدم حصول تحول نوعي ولأسباب متعددة في موقف الكتلة السلبية أو الصامتة التي لا تزال مترددة وتحجم عن تثقيل كفة المحتجين، صحيح أن الحملات العسكرية والأمنية على اتساعها وشدتها لم تتمكن من كسر شوكة الحراك الشعبي وإطفاء جذوته، ولم تستطع أن تثن المتظاهرين عن الخروج إلى الشارع والتعبير عن شعاراتهم ومطالبهم، وصحيح أن المحتجين كسروا جدار الخوف وأن هناك أعدادا تزداد كل يوم تظهر تعاطفها ومساندتها لهم، وتنحاز على الأقل أخلاقيا مع هذا المتظاهر الأعزل ضد عنف أعمى لا يعرف حدودا أو ضوابط، لكن الصحيح أيضا أن هناك بقايا خوف من طراز مختلف لا تزال معششة في النفوس تبقي الكثيرين أسرى الصمت والسلبية، منها ما يثار عن غموض البديل ووجود فئات شعبية تفضل أن تبقى في موقع المتحفظ والمراقب إذا لم تطمئن على أن حقوقها ستكون مصانة مع التغيير، وبعضها لا يزال يصدق وعود النظام ونياته الإصلاحية ويخشى مما يشاع عن وجود قوى إسلامية متطرفة أو سلفية تتحين الفرصة للاستحواذ على السلطة والإجهاز على المجتمع وفرض أجندتها عليه.
يزيد الأمر تعقيدا، حال المعارضة السياسية التقليدية التي لا تزال في غالبيتها عاجزة عن المبادرة وغير قادرة على مواكبة انتفاضة الشباب وتمكينها، ربما لأن ما حصل فاجأها ولا تعرف إلى الآن سبيلا لملاقاته والتفاعل معه، وربما بسبب طابع قيادتها الهرمة التي أدمنت خطابا سياسيا عتيقا وتحكمها الحسابات الضيقة وتصرف قواها في مناقشات ومنازعات لا طائل تحتها، دون أن نغفل أن أهم أسباب استمرار إخفاقها في توحيد صفوفها وتواصلها مع الانتفاضة الناهضة، يرجع إلى تركيز الجهود الأمنية لخنق دورها وقطع الطريق على أية إمكانية لرفد الحراك الشعبي بالخبرة والمعرفة، وحمايته من التطرف والحفاظ على تطلعاته الديمقراطية من الضياع.
ربما يكمن أحد أسباب كسر الاستعصاء السوري في تطور أشكال التدخل الخارجي إلى أن تصل ربما لما يشابه الوضع الليبي، أو أن يغدو الدور العربي عاملا حاسما في تعديل التوازنات والتأثير على مجرى الأحداث، ولعل المبادرة العربية تشكل خطوة على هذا الطريق، إذا لم تكتنفها مناورات السلطة ومحاولاتها توظيف الغطاء العربي للتوغل أكثر في الحل الأمني طلبا للحسم، ما يرجح فشلها والاستعاضة عنها بخطوات أوضح قد تأتي بالتنسيق مع المجموعة الدولية.
إن خصوصية موقع النظام السوري، ونوعية تحالفاته، إقليميا وعالميا، ودوره المتشابك مع الكثير من الملفات الشائكة والحساسة، وتقدير المصلحة الإسرائيلية، والتحسب من حصول هزة في أسباب الاستقرار السياسي في المنطقة يفسر حذر وتردد الأطراف الدولية والعربية على حد سواء في اتخاذ موقف حاسم من التغيير في سوريا بالمقارنة مع الثورات العربية الأخرى، الأمر الذي يترك الباب مشرعا أمام أصحاب الخيار الأمني، إن لجهة حجم القوة المستخدمة أو لجهة التغطية والفرص، وتاليا لإطالة أمد الأزمة وزيادة حجم التكلفة وأعداد الضحايا.
من جهة أخرى فإن إصرار السلطة على خيارها الأمني وطابع العنف والتنكيل المفزع، قد يبدل المشهد حين يفقد قطاع من المحتجين صبره ويلجأ إلى حمل السلاح، يعزز ذلك أعداد تتزايد كل يوم من العسكريين الفارين والمنشقين، ما ينذر بحرف الانتفاضة عن سلميتها ويفتح الطريق أمام مسار جديد قد تكتنفه تطورات غير محمودة، منها حصول تفكك لمؤسسات الدولة وإشاعة الفوضى، ومنها تنامي صراعات أهلية تأخذ طابعا طائفيا متخلفا، يعيد بناء الاصطفافات بصورة غير صحية ويضع البلاد على مشارف مرحلة شديدة الخطورة.
لكن ربما تفاجئ الانتفاضة الجميع كما فاجأهم صمودها واستبسالها حين تظهر قدرة وكفاءة على كسر المشهد الرتيب ليس باللجوء إلى السلاح بل بتطوير وتصعيد أشكال نضالها، كما الحال في دعواتها للعصيان المدني أو للإضراب العام، ما يساعد على شل الخيار الأمني وتعزيز عجزه وفشله وفتح الطريق لمعالجات سياسية تؤسس لمرحلة انتقالية يتشارك فيها كل المعنيين بمشروع التغيير الديمقراطي في نقل البلاد من الدولة الأمنية إلى الدولة المدنية.
إذا كانت الأزمة حصيلة تنامي وتداخل مجموعة كبيرة من المشكلات المزمنة والتي لم تجد طريقها إلى الحل، فما تعانيه بلادنا هو أزمة شاملة وعميقة تطاول مختلف حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وتستعصي معالجتها دون نزع أسبابها المتنوعة، فالعنف ليس بأي حال طريقا للخلاص، بل حافزا لمفاقمتها، ويزيدها مفاقمة الإصرار على إنكارها والهروب من مواجهتها.
ما تمر سوريا به اليوم يشبه لعبة عض أصابع ورهانا على عامل الزمن، لكن الزمن لم يعد يعمل لمصلحة النظام، فخسائره تتوالى وتتضح مع كل يوم يمر معالم الإنهاك والتفكك في صفوفه، ما يرجح تقدم أدوار أوضح للأطراف العربية والعالمية، قد تفضي إلى كسر الاستعصاء ووضع البلاد على أبواب مرحلة جديدة عنوانها البدء بتفكيك آليات القمع والسيطرة السائدة وقلب الشروط الأمنية التي خنقت لأمد طويل حقوق الإنسان والحياة السياسية في البلاد وإرساء قواعد الحياة الديمقراطية.
* كاتب سوري
الشرق الأوسط