عن التغيير أو الإصلاح في سوريا
ابراهيم الأمين
يرغب كثيرون في سوريا، وفي العالم العربي، وفي العالم أيضاً، في حصول تغيير في سوريا. ونقطة التقاطع بين هؤلاء جميعاً، هي التخلّص من النظام في سوريا، وإطاحة حكم حزب البعث. البعض لديه مطالب مشروعة داخل سوريا، من محاربة الفساد إلى الحد من سطوة السلطات الأمنية، إلى تجاوز حزب البعث كممرّ إلزامي الى السلطة، ومزيد من حريات الصحافة والتعبير والتجمّع، وانتخابات تسمح بتداول السلطة على المستويات كلها.
قسم آخر، خارج سوريا، يريد التخلّص من النظام الحاكم، لأسباب أخرى. بعض الحكومات تريد مدّ نفوذها الى قلب سوريا، وبعض الأحزاب ترى في سوريا عدواً مانعاً لتحقيق برامجها، وفئة تكره سوريا لأنها وقفت الى جانب خصومها في دول المنطقة، من لبنان وفلسطين الى العراق ومصر. أما القسم الثالث، فيهتمّ لأمر آخر، إذ حال النظام الحالي في دمشق دون تحقيق مشاريعه السياسية والاستعمارية، من الولايات المتحدة ودول الغرب الأوروبي، وصولاً الى إسرائيل التي ترى في النظام السوري عدواً مباشراً وراعياً لكل أعداء إسرائيل، ولا سيما حركات المقاومة في لبنان وفلسطين.
منذ اندلاع الانتفاضات الشعبية في تونس، ثم انتقالها، ونجاح ثورة مصر، وما يجري الآن في اليمن وليبيا والبحرين، تدور مناقشات حول ما يمكن توقع حصوله في سوريا، علماً بأنه يجري أيضاً الخلط بين التقديرات الواقعية والتمنيات، ولا سيما عند خصوم النظام الذين يريدون فقط سقوط بشار الأسد ونظامه. وفي هذه الحالة، يجب التوقف بقوة عند مصلحة الولايات المتحدة الأميركية والغرب وحلفائهما بين العرب، الذين يهتمون بأمور لا تتعلق البتة بمصالح الشعوب المنتفضة.
في حالة سوريا الراهنة، ثمة غالبية كبيرة تريد تغيير الواقع القائم، وهي غالبية تأخذ في الاعتبار الواقع السياسي الإقليمي والتنوّع السياسي والطائفي في سوريا، كما تأخذ في الاعتبار أنه لا يمكن مقارنة بشار الأسد بحسني مبارك أو معمّر القذافي أو زين العابدين بن علي، وإن كان في سوريا من يرفض مبدأ المقارنة باعتبار أنه آلية لتقليص طموحات التغييريين، علماً بأن الشعار الغائب عن التحركات، التي جرت في أكثر من منطقة سورية منذ أسبوع، هو شعار إسقاط النظام، مع تركيز على رغبة في إصلاح كبير، وهو أمر يتعارض مع هواجس مَن هُم خارج سوريا الذين يريدون أمراً مختلفاً، تماماً كما ترغب قوى مثل 14 آذار في لبنان، وسلطة رام الله في فلسطين، وأنصار الاحتلال الأميركي في العراق، وفريق الانتهازيين في السعودية ودول عربية أخرى، وبقايا نظام حسني مبارك في مصر.
هؤلاء يقتربون في مواقفهم، وفي رغباتهم حيال سوريا، من الموقف الأميركي والغربي الأوروبي، والإسرائيلي. وهم يرفضون تقدّم المشروع الذي تؤدي فيه سوريا دوراً مركزياً. ولم يكترث هؤلاء يوماً لواقع سوريا الداخلي، أو لحاجات شعبها، لكنهم استفاقوا عندما صاروا في نزاع وجودي مع النظام في سوريا.
لذلك، فإنّ المرء هنا لا يمكنه مجاراة هؤلاء، بحجة أنهم يدعمون الديموقراطية، بل إن المراقبة الموضوعية النزيهة تحتّم الاستنتاج بأن ذرائع هؤلاء هي تماماً من نوع: كلام حق يراد به باطل. ومعنى ذلك أنه لا يمكن مجاراة هؤلاء في كل ما يقولونه، ولا يمكن تبنّي أي موقف يتّخذونه، أو يعملون على فرضه كأمر واقع، بل بالعكس، يمكن السير في مواجهة هذا المنطق، لا بقصد الدفاع عن النظام في سوريا، بل لفضح هؤلاء الراغبين فقط في وصول حكم الى سوريا، يكون جزءاً من معسكر الاستسلام.
وللمناسبة، فإنّ بعض هؤلاء يساهمون اليوم في دعم «أعمال مدفوعة الأجر» في بعض المناطق السورية. وقد تبيّن لجهات عليمة تورّط شخصيات من فريق الرئيس سعد الحريري في الشمال والبقاع بتمويل أنشطة تركز على حصول تحركات تستهدف حزب الله في سوريا، ولا سيما بعدما تردّد أن ثلاثة شبان سوريين قالوا إنّهم تلقوا أموالاً من ناشطين في تيار «المستقبل» مع كمية من صور للسيد حسن نصر الله وطُلب إليهم إحراقها خلال تجمع كان مقرراً في منطقة سورية قريبة من الحدود مع لبنان.
لكنّ هناك قسماً آخر من المعنيين بالتحرك داخل سوريا، يجب التعامل معهم بطريقة مختلفة. وعلى النظام هناك، قبل أي أحد آخر، النظر الى المطالب المشروعة لهؤلاء ووجوب تلبيتها، من خلال توسيع دائرة المشاركة في الحكم، ومكافحة الفساد والترهل، وإلغاء منطق المحسوبية وإزالة القمع الأمني، وجعل الحريات شرطاً للحياة الحرة الكريمة.
ويمكن النظام في سوريا الاستفادة من نقطة مهمة، وهي أن المطلوب تحقيق نقلة تطويرية نوعية، وخصوصاً أن الرئيس بشار الأسد ليس موضع كراهية من شعبه، وأن موقف الحكم من الصراع مع إسرائيل يلبي الحاجات الوطنية السورية لكل الشعب السوري. كذلك، فإن عدم خضوعه للسياسات الأميركية والغربية، وتحمّله كلفة المقاومة لها، يحاكيان الوطنية السورية، ولطالما شعر المواطن السوري بفخر أكثر من غيره من أبناء شعوب المنطقة.
لكنّ زائر دمشق أو المتعرف إليها يسمع باطّراد مطالب عديدة، بعضها يشمل تغيير النظام برمّته، أو الدعوة الى دستور جديد يفرض تداول السلطة على المستويات كلها، وبعضها الآخر ربما يكون سقفه أقل ارتفاعاً، إذ يكفي طلب فصل إدارة الدولة عن حزب البعث وإسقاطه كممر إلزامي للعبور الى المواقع الأمامية في السلطات كلها، وضرورة إلغاء الاقتصاد الموازي المتفلت من الضوابط والمتناقض تماماً وطبيعة دولة الرعاية في سوريا، حتى بات هو المسيطر فعلياً على قطاعات الإنتاج الرئيسية في الاتصالات والطاقة وفي التجارة الحرة، حيث انتهت عملية خصخصة هذه القطاعات لمصلحة أفراد قريبين من النظام، فيما حرم أبناء الشعب السوري من حق التملك. أما في مجال الحريات، فيمكن أي مواطن سوري التحدث طويلاً عن الصحافة الرسمية، التي تعكس صورة لا علاقة لها كثيراً بحقيقة البلاد وهموم الناس، حتى النظام نفسه لم يعد يستفيد منها، بينما يقود تطور آليات التواصل بين الناس الى مرتبة جديدة، يبرعون فيها كأفراد، لكنها تظل مخالفة للقانون. ولا أحد يفهم سبب عدم إنتاج قانون جديد للإعلام، يتيح للناس التفاعل، إلا إذا كانت هناك خشية من تحوله الى سلطة رقابة فعلية على الإدارة العامة، وخصوصاً أن المشكلة أصابت قطاعات حساسة، مثل قطاعي التعليم والصحة، إذ دخلت سوريا مرحلة الترهل في هذه القطاعات الحكومية، لما يقدم للمواطنين من صورة كاذبة تصوّر الحل جاهزاً عبر القطاع الخاص.
ثمة فارق كبير بين ما تريده أميركا وإسرائيل من سوريا، وما يريده شعبها من نظامه، والفارق الأساسي بين النظام السوري وبقية الأنظمة في المنطقة هو انتسابه إلى الممانعة. لكن الاعتقاد بأن هذا الموقف قد يحول دون انتفاضات الكرامة والخبز والحرية هو اعتقاد خاطئ، لأن ما حصل ويحصل في الدول العربية يؤكّد استحالة بقاء الأمور كما هي في سوريا أو في أي بلد عربي آخر على صعيد الحريات والسياسات الاقتصادية.
الأخبار