عن الثورات والشعوب وما نغفل عنه
منال الشيخ
(سيتحسن الأمر في ما بعد حين تتعلّم كيف تختزل كل شيء وتصنفّه كما ينبغي) مفستوفيلس- فاوست.
في الفترة السابقة وتحديداً خلال الأيام الأولى لثورتي تونس ومصر، لم تكن لدي الرغبة اطلاقاً في الكتابة عنهما بأية طريقة، لأنني كنت مأخوذة بمتابعة هذا الانفجار الهائل الذي حصل في نفس الفرد العربي. كنت متخمة بلهفة ملاحــــقة الأخبار وكل التفاصيل الصغيرة بحيث لم تنتبني لحظة الشعور المعــــهود بجوع للكتابة. ولكن هذه النعمة لم تدم على ما يبدو، خاصة بعد بدء أحداث ليبيا مباشرة، التي كانت مفاجأة بالنسبة لي وغير متوقعة، إذ لم تكن ليبيا في قائمة توقعاتي يوماً لأسباب كثيرة وربــــما أهمها سبب وجيه، غير غائب عن وعينا نحن كشعوب، وهو تهميــــش الشعب الليبي وغياب حضوره على كل الأصعدة واختصاره الكامل بشخص العقيد القذافي. مما جعلنا في كثير من الأحيان نذكر فقط اسم العقيد كي نشير إلى ليبيا.
وتحولت متابعتي ولهفتي إلى قلق متواتر نظراً لأخذ بعض هذه (الثورات) منحى آخر عبر العنف والمواجهة المسلحة، كما يحدث الآن في اليمن وسورية وخوض الحرب على مستوى دولي مثلما يحدث في ليبيا، وبدأت أفتقد رهبة الحضور الشعبي السلمي التي اتسمت بها ثورتا تونس ومصر.
أحداث كثيرة وتغيرات أكثر وتفاصيل أكثر وأكثر طرأت منذ 14 يناير أو ‘جانفييه’، كما أحب أن اسمعها من الأخوة التونسيين. وكان أهم هذه التغييرات، التي أمد الله بعمرنا لنراها في يومنا هذا، هو كسر حاجز الخوف، أو بالأصح هاجس الخوف! الخوف في حالات كثيرة يكون مفروضاً من الطرف الآخر بالترهيب والترويع وممارسة التعنيف المباشر وغير المباشر على المتلقي. ولكن تغذيتها تأتي من ‘الطرف الخائف’ بالحفاظ على مستوى مؤشر الهاجس في داخله وتعيين اتجاه وحيد له وهو إلى الأعلى وليس إلى الأسفل، كما هو متوقع في كثير من السلوكيات السلبية المكتسبة للفرد. ما حدث إذاً منذ اندلاع شرارة الثورة في تونس هو خلل طبيعي في مستوى مؤشر هاجس الخوف ونتيجة لهذا الخلل تعيّن مرونة في اتجاه هذا المؤشر وهكذا أصبح بامكان ‘الفرد’ أن ينقلب على ثوابت ترسّخت منذ عقود في نفسيته. أقول ثوابت هنا لأن الخوف كان هو القاعدة و’التمرد’ هو الاستثناء. مصطلح ‘التمرد’ أو ‘المتمردين’ الذي استفز البعض في تصريح الشاعر السوري أدونيس، بوصف ما يحصل في سورية على أنه تمرد وليس ثورة، لم أجد فيه ما يحطّ من قدر ما يحدث هناك على الأراضي السورية، أو الايحاء بعكس مفهوم الثورة. فإن أي خروج على الثوابت والقواعد هو بمثابة تمرد! بغض النظر عن المعنى المُعجمي للتوصيفَين فأنا مع توصيف ‘التمرد’، فتدجين عقل الفرد البشري لعقود وطمس شخصيته ومحو حضارته وسلب كل حقوقه في الحياة الكريمة وسحب وسادة الأحلام من تحت رأسه لتسقط أفكاره مثقلة بالحرمان والفقد على بلاط أجرد، كلها تربي مارد التمرد في داخله وعلى أكمل وجه. وهذا المارد إذا ما اكتمل وحان موعد الولادة فحاله حال أية ولادة أخرى، إما أن تقتل صاحبها لعسر الولادة، كما حصل في حالة الشهيد وايقونة الثورة التونسية محمد البوعزيزي، أو تكون ولادة يسيرة. ولكن ليست هناك ولادة من دون نزف دماء أو فقدان خواص كان يتمتع بها الكائن قبلها ومنها الكثير: فقدان شيء من نضارة العمر لأنك تهب من عمرك لهذا الوليد ‘المارد/ الثورة’ وظهور بعض الكرمشات على البطن وتغير في الأوعية الدموية للساقين والأحشاء والسهر على راحة الوليد ورعايته والحفاظ عليه إلى أن يشتدّ عوده، وهكذا كان ‘المارد/ الثورة’ في البلدان العربية. فلقد ولد هذا المارد ولادة عسيرة نظراً لاحتقانه في بطن الحلم وجاء ناقصاً، غير مكتمل ويحتاج إلى قدر كبير من العناية والتطبيب حتى يبلغ الحلم، ولكنه لم يمت رغم احتقان وضعه الجنيني طوال تلك العقود كلها.
ووسط ذهولنا وفرحنا بولادة هذا (المارد/ الثورة) وانغماسنا بأحلامنا الطامعة، الشرهة لتنفس الحرية تناســـينا تماماً أن البعض يعاني عقماً أصيلاً، وبالتالي لا يمكنه الحمل أو حتى التفكير في ذلك. هذه الشريحة من المجتمع تمثل نصفه إن لم يكن أكثر وتختلف نسبتها من بلد إلى بلد آخر، وهنا أتحدث عن البلدان العربية تحديداً، نظراً لتشابه ظروفها السياسية وبناها الاجتماعية.
ما حركني حقيقة لإثارة هذا الموضوع هو ما يحدث في سورية تحديدا، ولأني زرت سورية كثيراً أراني أقرب إلى المجتمع السوري منه إلى المجتمع المصري أو التونسي، ولأني استقي معلوماتي على الأرض من أصدقاء مقربين من داخل سورية حيث تتباين آراؤهم بين متضامن ومشكك وآخر خائف من القادم. كانت زياراتي مكثفة واندمجت مع شريحة من المجتمع السوري وفهمتها جيداً جداً. النظام لا يكذب حين يقول: هؤلاء قلة، مندسون! وهنا يقصد بالثوار أو المتمردين كما يصفهم البعض عندما يحملون السلاح وينزعون من التظاهر صفة السلمية، أرجو أن لا تتسرع بالحكم على تأييدي لهذا الكلام قبل التوضيح.
في مجتمعاتنا العربية ونظراً لنهج السياسة التي اتبعتها الأنظمة ولعقود أفرزت عينات مختلفة ومتنوعة من الفكر البشري وفئات وشرائح لو صنفناها لوجدناها مثل تقاسيم لعبة السلم والثعبان. فهناك من هو في القمة دائماً وعلى كل المستويات وهناك من في القعر، أما من يحتل الوسط فهم متباينون في آرائهم المضطربة والخائفة في كثير من الأحيان، وغالباً ما تأتي الأفكار والحركة من الاضطراب والتباين.
لم اصدم بموقف الكثير من الفنانين السوريين، الذي جاء مخيباً لآمال الكثير من المثقفين العرب والشارع العربي، لأني أتفهم جيداً هؤلاء. في المجتمع السوري كما في المجتمعات العربية الأخرى ولا تختلف كثيراً عنها، هناك شريحة كبيرة تفضل الحكم الديكتاتوري مع الاستقرار الأمني والمعاشي على الحكم الديمقراطي مع غياب الاستقرار والأمن، ولا يغيب عن أذهاننا هنا التجرية العراقية وما تركته من انطباع سيئ في ذهن الفرد بسبب النتائج المروعة لخيار الديمقراطية المستورد والمنقوص والمأزوم بحفنة من المسائل الشائكة غير القابلة للحل لأسباب كثيرة ليست معرض حديثنا هنا. وربما يكون من المناسب جداً أن أجتر رأياً من أم إحدى زميلاتي وهي حال لسانها وحال لسان شريحة غير مستهان بها حين قالت: حكم ديكتاتوري أحسن من حكم ‘مخربط’! وهنا ‘المخربط’ تعني به العشوائي ولا يحقق أهدافهُ في تكوين وتأسيس دولة متينة كما حدث في العراق. وهناك فئة منتفعة من وجود هذه الأنظمة اقتصادياً واجتماعياً، وهي فئة لا يستهان بها أيضاً، ومنهم التجار والمستثمرون وغيرهم اضافة إلى شريحة مهمة جداً، يتغافل الكثير عنهم أو الحديث عنهم، وهي الفئة التي تمارس الدعارة بكل أنواعها وبكل السبل وفي كل المجالات الحياتية الاجتماعية منها والسياسية والثقافية وغيرها.
أتحدث عن الدعارة كمهنة بأشكالها المختلفة والمتفشية في مجتمعاتنا العربية وبشكل لا يخفى على الجميع، ولكن الحديث عنها أصبح من باب المحرمات، ولكن هذا واقعنا ويجب أن نواجه ذلك. لقد وفرت الأنظمة العربية التي رحلت، وبعض من التي تنتظر دورها في الرحيل، البيئة المناسبة لممارسة الدعارة وبأرقى مستوياتها حتى أصبح من يمارسها يحس أنه يمارس وظيفة وطنية ترقى بمستوى البلد ثقافياً وسياحياً واقتصادياً. والكثير منهم بعد مغادرة النظام، في مصر وتونس على الأقل، بدأوا يحسون بالرعب من الآتي ومن فزاعة الدولة الاسلامية التي يرعبون بها كل الشعوب لمجرد أنها تريد أن تتنفس الحرية، لتظهر تصريحات كثيرة وردود أفعال لهذه الفئة بأنهم فقدوا حريتهم مع رحيل هذه الأنظمة، متناسيين تماماً أنهم لو كانوا أحراراً في عهد تلك الأنظمة لما لجأوا إلى ممارسة الدعارة على أشكالها، لأن الاكتفاء الذاتي واحترام النفس البشرية تجنبه أن يبيع نفسه وهذا ما يتجلى في المجتمعات المتقدمة، حيث لا تمارس فيها الدعارة وتعتبر جريمة في حق الفرد لأن من أبسط حقوقه في وطنه اكتفاءه الذاتي في اسوأ الظروف. مثل هذه النماذج لا تنطبق عليها حالة ‘متلازمة ستوكهولم’ لأن هذه المتلازمة تكون نابعة من مشاعر انسانية حقيقية على اضطرابها، ولكن من بُرمجت حياته ولعقود على هذا النهج الانتهازي لا يجد ضيراً في أن يجيز أو يؤيد ‘قتل’ أو ‘حرق’ الفئة التي وجدت في ‘التمرد’ طريقاً لها لطلب الحرية بحسب مفهومها.
سورية من أكثر البلدان التي اشعلت وستشعل الجدل في ذلك، ليست كل سورية درعا، ولن أقول مع الأسف، لأن كل فرد حر باختيار طريقه الأمثل في راحة نفسه. مما كنت ألمسه في زياراتي المتكررة للشام تحديداً ومدينة حلب التي هي اشبه بمدينة مغلقة ومحرمة على الأفكار والتجديد والحداثة رغم جمالياتها، أكاد استشف أن الأغلبية بالفعل ضد العنف وسفك الدماء ولكنهم ليسوا ضد النظام أيضاً. هذا أمانهم الذي تعودوا عليه منذ قرون وجُبلوا أن يمشوا – جنب الحيط – وهذا خيارهم، وهذا لا ينفي اطلاقاً ظهور تلك الفئة الباحثة عن التغيير والحرية، حتى لو كانت قليلة في نظرهم ولكن حركتهم كانت مدوية وهزت أسس النظام حتى لو بالفرقعات الاعلامية، كما يحب النظام السوري أن يسميها.
إن تجاهل هذه الشرائح الواسعة من المجتمع واختصار المرحلة القادمة بفكر الثورة والثوريين لن يصلح من الأمر شيئاً سوى أن يعيدنا إلى عهد فرض السلطة بالانقلابات العسكرية أو الانقلابات الداخلية الغامضة.
باستثناء ثورة تونس التي كانت تقريباً باجماع الشعب ما عدا الأجهزة والمؤسسات الموالية لنظام بن علي، لا نستطيع القول ان مصر، وهي أكثر من 80 مليون نسمة كلها كانت مع الثورة أو مع رحيل نظام مبارك أو مع التغيير، وكما قال أحد المثقفين المصريين: ان مصر ليست ميدان التحرير فقط، فالصعيد وحده كفيل بمواجهة الميدان! والصعيد الذي كان غائباً عن أحداث الثورة فئة لا يستهان بها طبعاً كما لا يستهان بمدن مصرية كثيرة كانت هادئة وبعيدة كل البعد عن الأحداث، ويبدو أن هذا ما تجلى في نتيجة الاستفتاء على الدستور، الذي شارك فيه أكثر من 18 مليون مستفت، والبعض أدلى بصوته من دون أن يعرف ما معنى الدستور أو فحوى التغييرات التي حصلت فيه والبعض الآخر أختار (نعم) أو (لا) اتباعاً لقناعاته الدينية والسياسية ولاعتبارات اجتماعية، والبعض وفقاً لأحلام رآها مشروعة تماماً لغد أفضل، وبالمحصلة الكل أدلى بصوته لغد أفضل من وجهة نظرهِ وهكذا يخرج البعض للميدان من جمعة إلى جمعة والبعض الآخر يمتنع لنفس السبب. المشكلة ظهرت حين فُقد التفهم والتفاهم بين هذه الفئات وأصبح الثوار يحسون بشيء من العزلة، واعتبار أي موقف غير مساند لموقفهم هو بمثابة محاربة لهم أو اجهاض لثورتهم. وهذا في حد ذاته احساس مشروع لمن دفع حياته وراحته ثمناً للحرية والتغيير، ولكن الأمر عندما يتجاوز الحد المعقول ويصير هاجساً مضاداً ومغلقاً على الآخر، يصبح أمر رعاية الوليد وتطبيبه معقداً وصعباً، في حين نحن بحاجة إلى كل الوسائل الناجعة من أجل رعاية الوليد والحفاظ عليه حتى إن كانت احتمالات اصاباته بفيروسات وأمراض تعرضه بانتكاسات بين الحين والآخر واردة جداً بل أظنها حالة صحية لابدّ منها من أجل إعادة بناء خلاياه من جديد.
علينا أن نستوعب أن هناك شريحة واسعة من الأقباط في مصر كانوا يجدون ملاذهم الآمن مع النظام السابق، مع شريحة أوسع من المسلمين على حد سواء، وليس بالاستيعاب فقط بل بالتفهم وتقدير مخاوف هؤلاء من القادم المجهول، كما لا نغفل أن سورية كلها ليست ‘درعا’ فقط وتتمتع بكل الأطياف والأعراق، ومن لديهم الرغبة ببقاء النظام مع أن نبذ العنف والسعي للحرية لا يتنافيان مع الاحتفاظ بولائنا للنظام من عدمهِ. وهنا تكمن المشكلة الحقيقية لفكر الفرد ‘العربي’ أنه لم يرد في قواميس الأنظمة العربية مشاركة الشعوب مخاوفها ورغباتها، ومن أبشع قواعد الأحزاب الحاكمة هي: نفذ ثم ناقش! رغم أن الشرط الأول هو المعمول به فقط. فهل سيستطيع الفكر الثوري القادم ترسيخ مبدأ المشاركة؟
ثورتنا/ ماردنا ولدَ خديجاً وسيحتاج الكثير من العناية المركزة للعبور به إلى بر الأمان، حيث سيبدأ في ذلك البر تعلمه أولى أبجديات الحرية.
‘ كاتبة عراقية
القدس العربي