عن الثورات ومساراتها المتعثّرة وأكلافها الباهظة
ماجد كيالي
هل نحن إزاء خريف عربي آخر؟ وهل خيّبت ثورات الربيع العربي، التي اندلعت في بعض البلدان العربية، الآمال المعقودة عليها حقاً؟ أو هل ما حصل يستحق فعلاً كل تلك التضحيات؟ هذه أسئلة تطرح نفسها اليوم بإلحاح بعد تبيّن مرارة التجربة، وثقل الواقع، والتعقيدات الكامنة في عملية التغيير.
ثمة عاملان أساسيان يقفان وراء طرح هذه التساؤلات، أولاهما، يتعلّق بالشبهات التي باتت تحوم حول السياسات التي انتهجها تيار بعينه، بعد صعوده الى السلطة في البلدان المعنية، ولاسيما في تونس ومصر، والتي باتت تثير المخاوف بشأن ميله لاحتكار السلطة، ووأد العملية الديموقراطية، التي تتأسس على دولة المواطنين، وضمان الحقوق والحريات للجميع، والفصل بين السلطات.
أما العامل الثاني، فهو مرتبط بما خبره السوريون، من آلام ومآسي ورعب وعنف وخراب عميم، مع مصرع عشرات الألوف منهم، ودمار أحياء بأكملها، وكوارث عامة، نتيجة ردة الفعل غير المسبوقة من قبل النظام، الذي لم يترك وسيلة إلا واستخدمها لوأد هذه الثورة، من الشبيحة إلى البراميل المتفجرة، ومن الاعتقال العشوائي الى القتل الجماعي، هذا فضلاً عن إثارة الانشقاقات والاحترابات الأهلية. لذا فإذا كانت الثورة السورية بمثابة ثورة مستحيلة، وإذا عرفت فيما بعد باعتبارها الثورة المدهشة، فقد بيّنت مساراتها ووقائعها بأنها الثورة الأصعب، والأعقد، والأبهظ ثمناً.
مع ذلك فإن الأمر لا يتعلّق بخريف حاصل، ولا بربيع خائب، أما بالنسبة للأكلاف في الأعمار والعمران، لاسيما في سوريا، فهي لا شك باهظة جداً، وإذا كانت حسبة هذا الأمر من الناحية السياسية والتاريخية مقبولة، فربما يصعب تقدير ذلك من الناحية الأخلاقية، لاسيما مع سؤال أهم يطرح نفسه، وهو هل من الأخلاقية رهن السوريين لتسلط فرد لعقود من الزمن؟ أو هل من الأخلاقية حضّ السوريين على القبول بحياة الامتهان وفقدان الحرية بالنظر للكلفة التي ستنجم عن السعي إلى ذلك؟
القصد، أن التساؤلات المطروحة تتعلق بطبيعة إدراكنا للثورات، لماهيتها، ودورها، وتداعياتها، لاسيما بخصوص أن هذه الثورات ليست خياراً بين خيارات، فمن يعتقد ذلك مخطئ جداً، لأنها بذلك تغدو مجرد إنقلاب، عسكري أو حزبي، لانتفاء صفتها العمومية كثورة، والتي تكتسبها أساساً من طابعها الشعبي. وفي الواقع فإن الثورات هي بمثابة طريق اضطراري، أو إجباري، يسلكه عامة الشعب، بعد أن تعذرّت الطرق الأخرى، لكسر الاستعصاء في التاريخ، أو لفتح الأبواب أمام التطوير والتغيير؛ وهذا بالضبط ما فجّر ثورات الربيع العربي. فوق ذلك، فإن الثورات تأتي مفاجئة وعفوية وصادمة، وتكون كلفتها باهظة، في الأرواح والممتلكات، وأيضاً، هي تنطوي، أغلب الأحيان، على هدم وفوضى، لذا فمن المفهوم أن ليس ثمة ثورات نظيفة، ولا كاملة ولا عاقلة تماماً.
ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني بأن الثورات ليست مجرد عملية انقلابية تغيّر في أشهر وقائع ومفاهيم وعادات فرضت في قرون أو عقود، حتى لو استطاعت إسقاط نظام ما في غضون أسابيع أو أشهر. فالثورة تحتاج، لفرض قيمها وفتح عملية التغيير، إلى مسار قد يستغرق سنوات أو عقود. كما يعني ذلك أن هذا المسار لن يكون سهلاً ولا مستقيماً، وأنه فوق هذا وذاك، قد يشهد انتكاسات أو تراجعات، مثلما حصل في كثير من تجارب الثورات في العالم، وضمنها الإنكليزية والفرنسية، فالأولى قامت ضد الملكية لكنها أنجبت الدكتاتور كرومويل. والثانية قامت باسم الحرية وتمخّضت عن امبراطورية نابليون الأول ثم الثالث، وهي على العموم احتاجت إلى قرابة قرن لترسيخ قيمها. لذا فإن الحديث عن ربيع ناجز، أو عن خريف جائز، إما سابق لأوانه، أو أنه يعكس نزعة رغبوية، لأن أهمية أي ثورة إنما تكمن بطابعها الشعبي، وبكسرها الاستعصاء في التاريخ وفتحها على مسارات التغيير، مع التأكيد بأن ثمة ثمن لكل ذلك.
والأمر الذي ينبغي ملاحظته في هذا السياق أن الثورات الحاصلة قطعت مع حقبة الاستبداد، فما عاد من المشروع، ولا من المقبول، الحجر على أي تيار سياسي، لا إسلامي ولا قومي ولا يساري ولا ليبرالي ولا علماني، وهذا ما يفسّر ما يجري اليوم، من تصارع أو تجاذب سياسي، في مصر وتونس. وما لاشك فيه أن التصارع من حول مضامين الدستور، ومستوى الحريات، إنما يعني دخول تلك المجتمعات إلى السياسة، كما يعني التربية على الصراع بالوسائل السياسية، وإن تضمن ذلك في هذه المرحلة (الانتقالية) نوعا من العنف اللفظي أو الجسدي، الذي ينتمي إلى الحقبة الاستبدادية السابقة.
***
من معضلات ثورة السوريين المدهشة أنها جاءت مفاجئة وعفوية وتفتقد للتنظيم ولرؤية سياسية واضحة ومحددة بشأن المستقبل، ما عكس جوع السوريين المزمن إلى الحرية والكرامة والتخلص من الإستبداد، بأي شكل وبأي ثمن.
هذا كله كان يمكن تفهمه في البدايات، إذ شكّل، في حينه، عامل قوة وإجماع عندهم، لكن بعد كل هذا الزمن، وبعد كل تلك التضحيات بات يثقل على ثورتهم، ويشكّل عامل إعاقة لها، وتشكيك بصدقيتها.
المشكلة أن الأطراف التي حاولت طرح ذاتها كإطار سياسي للثورة السورية لم تنجح في اثبات ذاتها، لا على صعيد بلورة صيغة تنظيمية، ولا على صعيد انتاج الخطابات السياسية، ولا على صعيد قيادة الحراك الجماهيري في الداخل. وفي كل الأحوال فقد ظل ثمة مسافة واسعة بين الفعاليات الثورية في الداخل، المدنية والعسكرية، وبين الاطارات السياسية، على تنوعها وتنازعها وتضارب مواقفها.
وبالطبع فإن هذا ينطبق على الاطار الأساس وهو المجلس الوطني، وبعده الائتلاف الوطني، بسبب تفشي المنازعات وتضارب الأهواء فيما بين الأطراف المكونة لهما، الأمر الذي بات يضرّ بالثورة السورية وبصدقيتها ويبعث على الإحباط في صفوف جماهيرها.
حقاً، لا شيء يحول دون حسم هذا الأمر، لاشيء يحول دون تشكيل هذه الثورة لهيئاتها الخدمية والمدنية لتأمين حاجات الناس في المدن المحررة، بما في ذلك تشكيل هيئة أو حكومة مؤقتة، فمن غير المعقول تشكّل قيادة عسكرية للثورة في حين ان هكذا هيئة أو حكومة لم تتشكّل بعد. ومن غير المعقول الإنهماك بالمؤتمرات والاجتماعات والمناقشات والاختلافات، وترك السوريين في فراغ سياسي، فما بالك بتركهم يبحثون عن لقمة خبز أو نقطة مازوت في المناطق “المحررة”، علماً أن الحدود مفتوحة من تركيا إلى حلب.
لمرة واحدة مطلوب من كل الاطراف تناسي أنانياتهم وأجنداتهم الخاصة، فشعبهم يستحق منهم ذلك، بعد كل ما أبداه من صمود وتصميم وتضحيات.
المستقبل