عن الحل في سوريا/ سلامة كيلة
أثارت زيارة معاذ الخطيب لموسكو وما تسرب بشأنها من ملاحظات وانتقادات واسعة وهجوم شديد على الرجل، وتركز نقد الناقدين على “الحل السياسي” المطروح، الذي قال الخطيب إنه يتناول تنحية بشار الأسد.
لذا يصبح السؤال: ما هي الحلول التي يمتلكها كل هؤلاء النقاد؟ هل من حل بديل عن الحل السياسي؟
بالنسبة للحل العسكري فقد راهنت عليه بعض أطراف المعارضة، وكانت دائما تكتشف أن “حلفاءها” لم يقدموا “الدعم اللازم”، ولهذا تشعب الأمر وظلت الكتائب المسلحة مفككة ودون سلاح كاف، ومن ثم اخترقت جبهة النصرة الصورة وباتت تمتلك سلاحا ومالا فرض أن تتحول إلى قوة كبيرة، ثم أتت داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) وباتت تهيمن على كثير من مواقع الكتائب المسلحة و”المناطق المحررة”، وانسحب “جيش الإسلام” من محيط دمشق بقرار خارجي في وقت كان بالإمكان السيطرة على دمشق خلال ضعف السلطة نهاية سنة 2012، وقبل دخول قوات حزب الله والمليشيا العراقية والحرس الثوري الإيراني لكي يصبحوا هم قوة الإسناد للسلطة.
ومن ثم كان يجري التفاؤل بتقدم هنا أو هناك، أو “زحف” يوحي بأن الحسم قد بات ممكنا، لكن كان الأمر ينتهي دون تحقيق تغيير كبير. وقد أصبح الوضع مختلطا ومتشابكا بعد أن بات الصراع يجري على أكثر من جبهة، ضد السلطة وداعش، أو ضد السلطة وجبهة النصرة، أو الاحتكاك بجيش الإسلام وميله للهيمنة في وقت الصراع مع السلطة.
الآن، ربما تجري المراهنة على التقدم في جبهة الجنوب، درعا والقنيطرة، التي حققت إنجازات معقولة قد تشير -مع ما يتحقق في القلمون- إلى أن السيطرة على دمشق باتت ممكنة، لكي يحل الائتلاف الوطني حاكما جديدا، لكن هل يمكن ضمان ما يمكن أن تفعله جبهة النصرة في لحظة ما من هذا التقدم؟ هل هي مضمونة إلى حد الركون إلى التقدم (بغض النظر عن الموقف منها)؟
أرجو التفكير لأن ما حدث في مناطق أخرى يمكن أن يحدث هنا. ثم هل قرار الداعمين بالسلاح والمال هو إسقاط النظام؟ وبالتالي فإن هذا التقدم، إذا ما ظلت النصرة في “هذه الجبهة”، سوف يسهم في الحل السياسي الذي لن يختلف عما طرحه معاذ الخطيب.
ما يجب أن يُفهم هنا أن الحسم العسكري غير ممكن في ظل وضع سوري مشتت، ووضع إقليمي ودولي لا يريد انتصار الثورة، وهذا ما يطرح مسألة المراهنة على أن يتطور التدخل الأميركي إلى تدخل من أجل تغيير النظام، وأظن أن بعض أطراف المعارضة يعتقد ذلك ويراهن عليه بجدية، وكان منذ البدء ينتظر هذا التدخل، حيث أقام كل إستراتيجيته على أساسه، وما زال يتوهم بأن أميركا تناور للوصول إلى التدخل، ولكن الأميركيين غير مقتنعين بوجود معارضة يمكن أن تستلم السلطة.
وبالتالي ليس من الممكن إسقاط النظام عسكريا، بل الحل السياسي هو الباب الوحيد المطروح، كما كررت مرارا وتكرارا منذ سنوات، فأميركا تريد “الحفاظ على الدولة” وعلى مشاركة أطراف من المعارضة في حل يقوم على بقاء الدولة من أجل الحرب ضد داعش، وهي تناور مع إيران لترتيب توافق إقليمي، ربما يشمل تحقيق حل سياسي في سوريا.
الخيار الثالث الذي يحكم البعض في المعارضة هو استمرار الصراع بكل ما فيه الآن، إلى أن يأتي ظرف يفرض سقوط النظام. وهذا البعض أعمى، ويتجاهل ما يجري من قتل وتدمير وجوع وتشريد، أو لا يريد أن يرى كل ذلك. وفي الأخير لن يكون هناك سوى حل وحيد هو الحل السياسي، أو الميل لقبول إقامة دويلة في بعض مناطق سوريا، وهو أمر رديء، ويعبر عن موقف غريزي يريد إسقاط النظام بأي شكل من الأشكال.. وبالتالي فهو مدمر.
المسألة هنا تتعلق بما هو ممكن في الوضع السوري، حيث كان واضحا منذ البدء أن أمر الثورة السورية لن يختلف في الأخير عن مصائر الثورات في تونس ومصر واليمن، أي تغيير في السلطة وفتح أفق لتحقيق “مرحلة انتقال ديمقراطي”، حيث إن الوضع الذي خلقه الاستبداد الطويل لم يكن يسمح لثورة بأن تنتصر، بمعنى أن تسقط النظام السياسي أو السياسي الاقتصادي.
وما كان يبدو ممكنا، وما ظل ممكنا، هو أن يحدث “كسر” في بنية السلطة، بتحول جزء منها إلى قبول تلك المرحلة الانتقالية بعد أن تشبث الأسد (أو المجمع الأمني المالي، أي آل مخلوف وآل الأسد) بألا يحقق أي إصلاح سوى ذاك الذي لا يُصلح شيئا. فالمعارضة ليست في ترابط عضوي مع الشعب الذي جرى دفعه إلى حالة من “الجهل السياسي” بفعل الشمولية التي اتسمت بها السلطة.
ولذا كان واضحا أن الثورة ستكون في غاية العفوية، وبالتالي لن تفعل سوى خض السلطة وإضعافها، وربما تفككها كما أشرنا من قبل، ولن يكون هناك بديل قادر على قيادتها والاستيلاء على السلطة.
رهانات المعارضة كانت تحلق في فضاءات أخرى، حيث راهن بعضها على التدخل الأميركي تحديدا كما جرى في ليبيا، ولهذا تشكل المجلس الوطني استعدادا لاستلام سلطة لم يسقطها، بل كان يريد أن تسقط بفعل قوة إمبريالية لها حساباتها ومصالحها، وراهن آخرون على ضغوط تمارس على السلطة من أجل قبول حل سياسي يقوم على تحقيق مرحلة انتقال، وتركت الثورة تتطور وحدها.
أكثر من ذلك أسهمت أطراف في المعارضة في تشويه واقع الثورة والتخويف منها، وجرها نحو الأسلمة، ومن ثم فتح الأبواب لجبهة النصرة ثم لداعش، كما أسهم بعضها في زيادة مآسي الشعب، وفي دفع السلطة لتصعيد عنفها، على أمل أن “يرق” العالم لحال الشعب السوري فيتدخل عسكريا.
وتبين أن أميركا ليست معنية بالتدخل العسكري -وهو ما كررته مرارا- وغير معنية بالوضع السوري، الذي “باعته” لروسيا، وربما ستبيعه الآن لإيران، وأن هناك أطرافا إقليمية وعالمية تريد تحويل الثورة السورية إلى مجزرة نتيجة خوفها من المد الثوري الذي بدأ في تونس وتوسّع عربيا، ويهيئ الوضع الاقتصادي العالمي لأن يتوسع عالميا.
تلك الحالة أوصلتنا إلى الوضع القائم، حيث بات نحو نصف الشعب مهجرا أو لاجئا، ودمرت أحياء في مدن وقرى كثيرة، وهناك مئات آلاف المعتقلين ومئات آلاف الشهداء، والأسوأ من ذلك أن القوى الأصولية باتت تتصدر المشهد، حيث تمتلك المال والسلاح بدعم مباشر من دول إقليمية، وتعمل على فرض سلطة أكثر سوءا من سلطة النظام القائم، وهناك آلاف الشباب المقاتلين الذين لم يستطيعوا “الانتظام” أو “التشكل” في قوة كبيرة قادرة على تطوير الثورة ولجم الأصولية، كما انحصرت أهداف الثورة في إسقاط النظام، وهو الهدف الذي ظهرت استحالته.
كل ذلك رغم أن السلطة قد فقدت قوتها الصلبة وباتت تعتمد بشكل أساسي على قوى طائفية مستجلبة من لبنان والعراق وإيران، وحتى اليمن وباكستان وأفغانستان، وكذلك من روسيا وغيرها. لهذا بات مَنْ يتحكم في الصراع هو قوى إقليمية ودولية أكثر من القوى الداخلية، سواء تعلق الأمر بالثورة أو بالسلطة.
على ضوء هذا الوضع يُطرح الحل الممكن، وليس في مناكفة لا معنى لها سوى التعبير عن غياب العقل وتحكم منطق الصراع الغريزي، فالوضع يتسم بحالة استعصاء، مع دعم إيراني روسي للنظام، وتآمر على الثورة من “أصدقائها” المتخيلين، وما يحقق الاستعصاء هو مقدرة الشعب على الصمود، لكن ليس أكثر من ذلك. لهذا لا بد من حل يوقف الدمار والقتل والانهيار الاقتصادي، ويعطي متسعا لالتقاط الأنفاس من قبل الشعب.
لكن الحل هنا ليس بأي ثمن، هذا مهم، لأنه ليس من الممكن الوصول إلى وقف الصراع المسلح دون أن تنتهي سلطة بشار الأسد ومجموعته، فحتى وإنْ قبلت أطراف في المعارضة حلا لا يقود إلى ذلك فلن ينتهي الصراع القائم. هذا هو محور الحل الآن، وهو بالتالي يقوم على تطبيق جنيف1 الذي يفرض تشكيل هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات.
ونتيجة ذلك فإن “خطة دميستورا” فاشلة، حيث ليس من الممكن تهدئة المناطق هكذا، فما يوصل إلى التهدئة هو إزاحة بشار الأسد، أما ما يجري من توافقات مناطقية فقد أتت نتيجة الحصار الخانق الذي تفرضه السلطة على الشعب دون إدانة دولية أو اتهام بالإبادة الجماعية، وبالتالي فهي متنفس بسيط لا ينهي الصراع على الإطلاق.
الوضع بات يفرض حلا، وهو بيد القوى الدولية، لكن ليس من حل دون إزاحة بشار الأسد.
الجزيرة نت