عن الرّقة.. كلام غير حيادي
تُلخّص الرّقة، كمدينة وكمحافظة، أغلب أسباب الثورة على النظام. مُهملة، مضطهدة، منهوبة، مُحتقرة، منسيّة. لذلك، يليق بها اليوم أن تزغرد للحرّية والكرامة، وأن يرفض أبناؤها سطوة شيخ عشيرةٍ منتفع هنا ومسؤول إداري أو أمني هناك لكي يكونوا مجرّد ثقل ميّت يرجح كفّة الطغيان. يليق بالرقّة أن تثبت عزّة نفس أبنائها ورفضهم ﻻمتهان الكرامات وسرقة الحقوق والحرّيات. لهم من الحقّ ما لكلّ السوريين، وعليهم من الظلم ما على كلّ السوريين، وربما أكثر قليلاً.
في حراك الرّقة تشديد وتأكيد على الرابط الذي يجمعها بباقي أرجاء سوريا. رابط الأخوّة، رابط المساواة..
…
“داور وخذني شوفير أبو البيك آب.. عالرقّة ودني آني غريب بهالبلاد”
هذه العبارة من إحدى أغاني المرحوم أسعد الجابر، ابن حارتي، المطرب ذو الصّوت الشجيّ الحزين. ﻷسعد الجابر أيضاً صيغة سوريّة لأغنية عراقيّة الأصل يقول فيها “جنّة جنّة جنّة.. سوريا يا وطننا”. نفس الأغنية التي طالما سمعناها، وسنسمعها، من المتظاهرين في حمصنا الجريحة.
…
أؤكد لكم أنني ﻻ أمزح فيما سوف أقول: اﻻسم الرسمي للدوّار الواقع أمام مبنى “أمن الدولة” في الرّقة هو “ساحة الحرّية”. (الرابط هنا)
…
عند مدخل المدينة الجنوبي ساحة ضخمة، ساحة الرئيس، يلتقي فيها الشارعان الآتيان من الجسرين القائمين على نهر الفرات، ويخرج منها شارع هشام بن عبد الملك، المتجه شرقاً حتّى باب بغداد، وغرباً يذهب شارع آخر باتجاه حيّ الثكنة والمشفى الوطني.
سيلاحظ الداخل في الساحة، عدا التمثال الضخم في المنتصف، بناءين ضخمين. الأول، في الجهة الجنوبيّة للساحة، هو المركز الثقافي، بناء ذو هيكل ثقيل من الباطون بُني في منطقة ترابيّة رخوة (سرير النهر فعلياً) ما أدى إلى خفوس قسم كبير منه تحت الأرض. بدأ بناءُ هذا المركز في عهد محمّد سلمان، المحافظ ذو السطوة الأمنيّة التي ﻻ ترحم سابقاً، وزير الإعلام لاحقاً، و”المُعارض تحت سقف الوطن” حاليّاً، واستغرق بناؤه زهاء عشرين عاماً قبل أن يكتمل، وقبل أن تطبع مؤثرات الرطوبة آثارها على جدرانه بعد أقل من عام على افتتاحه.
في الجهة الشماليّة الغربيّة للساحة نجد “دار الحكومة”، وهو بناءٌ شاتمٌ للعقل والمنطق ببذخه وفخامته في محافظة نزح الآلاف من سكانها هرباً من الجوع ضحايا نكبة الزراعة والجفاف (كلّف بناؤه 332 مليون ليرة سوريّة).
تحتضن هذه الساحة عادةً المسيرات المؤيّدة، المرخّصة أصولاً والعفويّة جداً..
في الجهة الشرقيّة للمدينة، خلف السور الأثري وبجانب المنطقة الصناعيّة، نجد حيّاً اسمه “الرميلة”. يفتقر هذا الحيّ المنكوب لأدنى درجات التخديم، فأولويات البلديّة والمحافظة ﻻ تمرّ إطلاقاً باعتبار قاطنيه بشراً ذوو حقوق وكرامات. ﻻ صرف صحّي في أغلب مناطق الحي (أو لم يكن هناك صرف صحي حتى وقت قريب جداً)، ﻻ تعبيد للشوارع الموحلة صيفاً شتاءً بالمياه الآسنة. لعلّه الحيّ الوحيد الذي، رُبّ ضارّة نافعة، لم يكن يتمتّع بتشفيطات أبناء المسؤولين بمارسيدسات الصمود والتصدّي.
في هذا الحيّ تعيش عائلةٌ اشتهرت عنها قبل سنوات حكاية تلخّص، باعتقادي، الحسّ الإنساني للمستضعف. في إحدى الليالي، استفاقت الزوجة لتجد زوجها ذاهباً راجعاً في الغرفة وهو يدخّن سيجارة “الحمراء” ويهمهم ويضرب أخماساً بأسداس، فسألته عمّا به وردّ عليها أن جارهم قد توفّي قبل ساعات، وﻻ يمتلك مالاً “يُعزّي به” جيرانه (أي، حسب تقاليد المنطقة، أن يُطعم الجار أهل العزاء وضيوفهم غداءً). أشارت الزوجة إلى البرّاد المتهالك وقالت له: “إنه فارغ بكل الأحوال وﻻ يلزمنا، احمله وبعه”. فعلاً، رمى الرجل بقايا سيجارته وحمل البراد وذهب به، وعاد بعد برهةٍ من الزمن ببعض المال الذي اشترى به عدّة كيلوغرامات من “اللحم بعجين”.
نسبة كبيرة من مظاهرات الرّقة خرجت من الرميلة..
…
اعتُقل خالد الحاج صالح منذ يومين في الرقّة. خالد عمره 13 عاماً.. من المُراهق هنا؟
…
أواخر التسعينات، على جدار إحدى المديريات، كُتب بشكل فنّي: “ﻻ للطائفيّة، لا للإقليميّة، ﻻ للعشائريّة.. نعم لللحمة الوطنيّة”، على الجدار المقابل، وهو جدار يستر أرضاً خالية، كُتب:”عشيرة (….) يقولون نعم وألف نعم لمسيرة التطوير والتحديث…”
المشترك بين الكتابتين هو أنهما من تنفيذ نفس الخطّاط..
…
اعتقلوه مرّة ومرتين وثلاث، ولم يسكت. هدموا بيته، ثم وضعوا شجرات الزيتون في أرضه هدفاً لحقدهم، ولم يستسلم. دافع عن المستضعفين والمظلومين بتفانٍ وإخلاص، ودفع من جيبه ومن مساعدات المتضامنين كفالات من اعتُقل بتهمة “التظاهر بدون ترخيص” ولم يمتلك ثمن الكفالة، ثمن حرّيته النسبيّة.
قبل يومين أعادوا اعتقال أبو سارة، المحامي الرقّي الشهم عبد الله الخليل.
سوريا التي أريد تشبه، إلى حدّ بعيد، عبد الله الخليل: شجاعة، متضامنة، كريمة، جريئة، ثابتة، معطاءه، منحازة للضعيف والمحروم والمظلوم. ربما لهذا السبب يقبع عبد الله الخليل في زنزانة. سوريا معتقلة أيضاً. لكن الإفراج قريب حتماً.
…
http://www.syriangavroche.com/