عن السجون والحرّية والوطن/ حسين غرير
سُئِلتُ عدّة مراتٍ بعد خروجي من السجن، وخاصة بعد وصولي إلى تركيا: «هل تشعر بالحرية الآن؟». كان جوابي أنّي أشعر بالأمان من غدر النظام، لكنني بعيدٌ جداً عن الشعور بالحرية، ولم ألمسها حتى. في الحقيقة، شعرت مرة واحدة بالحرية المطلقة لمدة نصف ساعة. عندما كنت أسبح في البحر قبل أسبوعين، صادفتُ بضع سمكات بحجم الإصبع أو أكبر قليلاً، وقنديل بحر بحجم العين البشرية. غطست باتجاههم، حاولت إمساك السمكات لكن السرب فرَّ من بين أصابعي، وعاد للتجمع بعيداً عني. ذهبت إلى القنديل فلم يجفل مني ولم يهرب- يقال إنه بلا عقل- لمسته بإصبعي ولم أصدق نعومته، واستمرَ بالحركة كأن شيئاً لم يكن. أحببت اللعبة، ذهبت إلى السمكات مرة أخرى، ثم إلى القنديل ثم إلى السمكات.
لم يكن هناك زمان ولا مكان، أصبحت خارجهما تماماً. لا أستطيع أن أقول إنني شعرت باللحظة وكأنها أبدية، وبالمكان كأنه لا نهائي. تماماً لم يكن هناك زمان ولا مكان، تلاشى كل شيء. بقيت أنا والسمكات والقنديل ونجم البحر والأشنيات والصخور الصغيرة في حالتنا الوجودية البسيطة -إن صح التعبير-. شعرت بالحرية من كلّ الأشياء، من كل الرغبات ومن كل المخاوف، من الماضي والمستقبل، من العنف والحب. بقيت بحالتي الوجودية المفتوحة، ربما هي لحظة انعتاقٍ نادرة. عندما خرجت من الماء عادت القيود تكبلني من جديد، ولا أستطيع الفكاك منها، أو ربما لا أريد.
تركتُ خلفي في السجون وأقبية المخابرات أحباءَ وأصدقاءَ احتلوا جزءاً من عقلي وقلبي، لا أعرف مصير العديد منهم. تركت آلاف المعتقلين يئنون تحت وطأة الخوف والقلق، إن لم يكن على مصيرهم فعلى مصير عائلاتهم، أمهاتهم وآبائهم وزوجاتهم وأخوتهم وأخواتهم وأطفالهم. ألم يكن يكفي أن أقول «عائلاتهم» دون أن أعددهم واحداً تلو الآخر؟ لا! لا يكفي. هؤلاء هم حياة المعتقلين ومصدر أكبر مخاوفهم وأوجاعهم. وأزيد أيضاً، تركت خلفي المعتقلات اللواتي لم أقابلهن في السجون، لكنّي كنت أسمع أخبارهن ومعاناتهن التي تجاوزت كل تصور، وكل ما تعرضنا له نحن المعتقلون الذكور. حتى في سجن دمشق المركزي، وهو سجنٌ مدني، يُعاملَن معاملة سيئة لا تشبه معاملتنا نحن. التضييق والإهانة وشح الموارد، والأمَرُّ من ذلك، تنكر المجتمع والأهل لبعضهن.
تركت آلاف المعتقلين يئنون تحت وطأة الخوف والقلق، إن لم يكن على مصيرهم فعلى مصير عائلاتهم، أمهاتهم وآبائهم وزوجاتهم وأخوتهم وأخواتهم وأطفالهم.
فلنخجل من أنفسنا نحن السوريون عندما تبيع بعض زوجات وبنات المعتقلين والشهداء أجسادهن لتحصيل ثمن الدواء والطعام والسكن لهن ولأطفالهن. لنتوقف عن ملامة هذا وذاك، رغم كل المسؤولية التي يتحملها الغرب والشرق والشمال والجنوب. فإن كنا نحن لا نهتم كفاية بآلام بعضنا، فمن يهتم؟ المعتقلون ليسوا مناسبة إعلامية، وليسوا بحاجة لمؤتمرات تكلف آلاف الدولارات، هذا إن حصلوا على مؤتمر. أبو الزين كان بحاجة لخمسين دولاراً فقط، لتغطية نفقات السفر لزوجته وطفلته التي لم يرها منذ ولدت قبل عام ونصف العام. حدَّثني أحمد، الذي كان يوزع المعونات على العائلات المحتاجة في إحدى المناطق، أنه ذهب ليعاين واقع إحدى الأسر التي طلبت الإعانة. استقبلته سيدة شابة، زوجها مختفٍ، ولديها طفلين، وعندما أخبرها أنه سجّل اسمها وسوف يأتي دورها خلال أيام قليلة، تركته لدقائق ثم عادت شبه عارية، وقالت له: «ألا يمكن أن نحصل على كأس واحد من الرز الآن؟ الطفلان لم يأكلا منذ ثلاثة أيام». وكم نستسهل، نحن السوريون، إطلاق الأحكام الأخلاقية من خلف حصوننا.
آلاف الدولارات صُرفت على التبضع من أشهر الماركات العالمية في «جنيف2» ولم يُطرَح ملف المعتقلين حتى وقتٍ متأخر. وعندما طُرح وطلبت قوائم الأسماء احتار المفاوضون بمن يتصلون ليحصلوا عليها! ملايين الدولارات تُصرَف على الدورات التدريبية التي تدر أرباحاً طائلة على القائمين عليها، كذلك ملايين أخرى على مشاريع لا أحد يفكر بمدى جدواها. كثيرون منخرطون في اللعبة نفسها: السوريون منهم بحاجةٍ لأن يقولوا لأنفسهم إنهم يفعلون شيئاً، وهم كذلك بحاجة لكسب لقمة العيش، وغير السوريين منهم (أي الممولين) بحاجةٍ لأن يقولوا إنهم يقدمون الدعم للسوريين المساكين، وكذلك هم بحاجةٍ لصرف الموازنة للحصول على غيرها في العام القادم. وهكذا تدور الملايين أقلَّ بكثيرٍ من الجدوى الممكنة، وبعضها يذهب في سبيل الترفيه عن النفس بعد يوم عملٍ «شاقّ».
المعتقلون ليسوا مناسبة إعلامية، وليسوا بحاجة لمؤتمرات تكلف آلاف الدولارات، هذا إن حصلوا على مؤتمر.
يوجد في مدينة غازي عينتاب التركية وحدها حوالي ثلاثمئة منظمة سورية حسب معلوماتي. وكذلك حسب معلوماتي، يعمل في هذه المنظمات أكثر قليلاً أو كثيراً من ألف شاب وشابة سوريين. الأغلبيةُ الساحقة منهم موظفون، التطوّع يطلُّ برأسه بخجلٍ في غازي عينتاب. يوجد أيضاً في المدينة نفسها حوالي أربعمئة ألف سوري وسورية، لم تستطع المنظمات فعل شيءٍ كثيرٍ لتخفيف معاناتهم، ولا هي استطاعت استثمار الموارد البشرية الهائلة تلك. والمفارقة أن دوائر معارف العاملين في المنظمات نادراً ما تتقاطع مع دوائر السوريين الآخرين، كأن كلاً يعيش في عالمه (حسب معلوماتي طبعاً). لا أحاكم أحداً ولا يحق لي، وخاصةً فيما يتعلق بحق الإنسان في كسبِ قوته، إلا أنه يمكن للمسألة أن تُدار بشكل مختلف ومجدٍ لحرية وكرامة عموم السوريين.
التضامن قبل التدريب!
للمنظمات السورية، وللسوريين العاملين فيها همومهم، في غازي عينتاب وغيرها من المدن التركية. وكذلك الأمر بالنسبة لجميع السوريين في تركيا. لا أحد يعلم مصيره بعد بضعة أشهر، وأحياناً في اليوم التالي! لا يتمتعون بحقوق اللاجئين، بل يتمتعون أكثر بكرم الضيافة. ويترتب على الضيف آداب تختلفٌ عن الواجبات، والمضيفُ يتكرم على الضيف أكثر مما يحمي حقوقه. إن كان للسوري أطفالٌ، وهذا هو الغالب، فالمستقبل مخيفٌ أكثر بالنسبة له. آلاف الأطفال والشباب خسروا سنواتٍ من تعليمهم، وكثيرون خسروا فرص التعليم أصلاً! إنهم مقيدون في تركيا. وإن حالف الحظ بعضهم واستطاعوا إلى الهجرة إلى أوروبا سبيلاً، ونجى من الذل والإهانة طوال الطريق الموصل إلى الكرامة، فهو غريبٌ في ذاك البلد. سوريٌ غريبٌ بكرامة، لكنه ما زال مقيداً بإقامة مؤقتة لا تسمح له بالتنقل بحرية، وهو واقع تحت ضغط الاندماج، وماذا إن لم يستطع الاندماج؟. هذا مفهومٌ من وجهة نظر الدول الوجهة، لكنه من غير المفهوم لماذا تستمر معاناة السوريين إلى الآن، بل وتتفاقم كل يوم؟
لا أبالغ ولا أدعي إن قلت أنّي كنت أشعر بالحرية أكثر في سجن عدرا المركزي، لكن الشعور بالأمان كان معدوماً.
بات العالم كله حلقات اعتقالٍ بالنسبة للسوريين، من الزنازين الصغيرة في سجون المخابرات، إلى الغرف الأكبر في السجون المدنية، إلى السجن الكبير: سوريا الأسد. خارج سوريا الأسد يطمئن السوري على حياته، وقد يحقق قدراً من الكرامة إن كان خارج المخيمات، وبالأخص مخيمات لبنان والأردن. ويتفاوت مستوى ما يشعر به من كرامة حسبَ السجن الذي يختاره، أو يختاره له القدر. فكيف أشعر بالحرية خارج وطني؟ لكن هل هناك حرية في وطني؟ وأزيد أن السياسيين والمنظمات مُكبَّلون برضى الدول والمنظمات الدولية الراعية والداعمة، أو الدول التي لجؤوا إليها. لا أبالغ ولا أدعي إن قلت أنّي كنت أشعر بالحرية أكثر في سجن عدرا المركزي، لكن الشعور بالأمان كان معدوماً. أستطيع الآن التحرك في مساحاتٍ أكبر بما لا يقارن بكل تأكيد، وأستطيع أن أعبِّر كيفما أشاء. بالمناسبة، لقد حذرني بعض أصدقائي من قول ما أؤمن به، لأن ذلك قد يُغضب بعضاً من الثوار، إسلامييهم وعلمانييهم! لا أعلم لماذا كنت أشعر أنّي حرٌ هناك أكثر!
لكن ما هو الوطن؟ طُرِحَ هذا السؤال في جلسة نقاش حذرة في سجن عدرا. هل هو المكان الذي ولِدَ فيه الإنسان وأمضى سنوات طفولته، وحيث تنتمي عائلته؟ أم هو المكان الذي يكون الإنسان فيه محفوظَ الكرامة؟ أم هو الجماعة البشرية التي يعي الإنسان انتماءه لها، وحيث وجدت هذه الجماعة يكون الوطن؟ لا شك أنه لا توجد إجابةٌ شافية على هذا السؤال. لكن الرضيع يشعر بالأمان على صدر أمه، ربما يشعر أن جسدها الكبير امتدادٌ لجسده، يجعله ذلك يشعر بالقوة أكثر، أي بالأمان أكثر. ربما يسعى الإنسان لامتلاك الأراضي لتكون امتداداً راسخاً لجسده ولوجوده، ربما يسعى الإنسان للبحث عن الانتماء ليكون ممتداً أكثر، أي آمناً أكثر. حتى اللامنتمون هم أنفسهم منتمون إلى اللاانتماء، لذلك يحوّل الملحدون الإلحاد إلى دين جديد قد يكون أكثر تطرفاً، وأكثر رفضاً للآخر من الأديان الأخرى.
حيث ينشأ الإنسان ويتواصل لغوياً- بالمعنى الواسع للكلمة- مع محيطه، يتشكل وعيه لذاته وللعالم من حوله، وتتشكل ذاكرته. يصبح بعضاً من المكان والجماعة، ويصبحان بعضاً كثيراً منه. يُنشئ الروابط المتينة معهما، ويصبحان امتداداً له. لكن الإنسان فردٌ متفرّد، يشبه الجميع لكنه ليس أي أحدٍ آخر. لكن، عندما يحاول المكان والجماعة ابتلاع فرادته وحرمانه من حريته، يشعرُ بالاغتراب في وطنه وقد يثور، وقد ينتزع نفسه منهما إلى مكانٍ آخر وجماعةٍ أخرى، حيث يمنّي النفس بممارسة فرادته، لكن الفرادة تصبح اغتراباً. إنه لا يستطيع ممارسة ذاته الفريدة أيضاً، لأن بعضاً منه لم يعد هنا بل هناك، لقد أصبح فريداً جداً!
ربما فهمت لماذا كنت أشعر بالحرية أكثر في السجن: يبدو أني كنت منسجماً مع ذاتي أكثر من الآن!
وطني حيث أستطيع ممارسة ذاتي بفرادتها وامتدادها في المكان والجماعة، حيث أكون حراً وحيث تكون ذاكرتي. حيث أنسجم مع نفسي ببعضها الذي لا يشبه شيئاً آخر، وببعضها الذي يشبه كل شيء حولها حتى حجرها ورملها وماءها. ربما فهمت لماذا كنت أشعر بالحرية أكثر في السجن: يبدو أني كنت منسجماً مع ذاتي أكثر من الآن! فهل أعود؟ إن وطني هو سوريا وبين السوريين حيث يوجد بعضٌ مني. إن وطني هو سوريا الحرية حيث أمارس فرادتي مع السوريين المتنوعين الفريدين. الفريدون- حتى بالمعنى الجماعي- بقدرتهم على البقاء والحياة رغم كل شيء، الفريدون الذين كتبوا في جيناتهم تاريخ آلاف السنين.
هل سوف أشعر أنني في وطني عندما أعود إلى سوريا، إن كان إلى المناطق المحررة أو إلى دمشق بعد سقوط النظام؟ هل سوف يقبل كثيرٌ من السوريين فرادتي وفرادة كثيرين آخرين؟ لا ألمِّح إلى الإسلاميين فقط هنا، بل إلى العلمانيين أيضاً، فالسؤال يطرحه كثيرون من كِلا الطرفين. إنَّ سوريا الحرية فقط هي وطني ووطن كل السوريين، سوريا بدون الأسد أو أيّ أسديةٍ أخرى.
هي ثورةٌ وقد بدأت، وليستعدّ المثابرون للفرح.
موقع الجمهورية