عن السوريين الذين أخذهم البحر
أعرف الأسماء كلها
رستم محمود
هؤلاء العشرات من الأكراد السوريين، الذين غرقوا في العبّارة التركية، التي كان يُراد بها نقلهم إلى السواحل اليونانية. هؤلاء أعرفهم جميعاً، ليس بشكل شخصي مباشر، لكنهم بالضبط، نماذج عن الكثيرين من أقرانهم، وهذه حكاية نموذجية، حدثت لكل منهم.
الشباب
أحدهم كان يسمى دلو والآخر سردار والآخر آذاد، وأسماؤهم تعني على التوالي، في لغتهم الكردية العاشق والقائد والحر. لكن حكايات وجودهم منذ الولادة كانت بالضبط على التناقض مع ذلك. فكل منهم عقب سيرة سنوات فتوته الأولى في الشمال السوري، شاهد نفسه أعزل أمام أسئلة الحياة الكريمة كلها. فلا فرص للعمل متوفرة، ولا أماناً شخصياً مقابل آلة العنف التي تسمى أجهزة أمن الدولة، وبينهما قلق عميق في الهوية واغتراب وهشاشة لا توصف في مواجهة المقبل من الأيام. ربما أحدهم باع بيت أبيه وأسكن عائلته في بيت مستأجر، واعداً إياها بإرسال ما يلزم حين الوصول إلى البر الأوروبي، وربما آخر ترك صديقته التي عرفها منذ الثانوية، ووعدها بإرسال ما يلزم لتلتحق به، والمسكينة أكلت أظافرها خوفاً عليه من أمواج البحر ومن الفتيات الأوروبيات و»كيدهن» الذي لا يقاوم، أما آخرهم فربما فر من الخدمة هرعاً، من قتل مدني بريء، أو هرعا من أمور كثيرة قتلت فيه نفسه، حين أوجعته أول لطمة على وجهه من يد الضابط المسؤول عنه في وحدته. هؤلاء الشباب، ومن شابههم، لا شيء يربطهم بمكانهم الأول سوى الذاكرة المريرة، ولا انتماء لهم ولا أمل. لم تكن الأرض التي ولدوا فيها وطناً، كانت شيئاً من تراب وصخر، صلبة ومن دون رحمة، بالضبط كالموج الذي ابتلعهم مع ذاكرتهم.
الأطفال
لافا وشفان وفرهاد.. إلخ، كانت أسماؤهم «معطيات» لا يمكن فصلها عن لحظاتهم الأخيرة. فـ»لافا» (واسمها يعني «التضرع») لم يعنها ذلك على مناجاة خشب السفينة ليصعد بها إلى الأعلى، بقيت مع الأطفال كلهم في الدرج السفلي من السفينة. كانت منذ سنتين فقط، قد شاهدت حفراً على خشب درجها المدرسي «أحبك لافا… s« وحين دققت في أسماء طلبة الصف كلهم، لم تجد إلا واحداً يبدأ اسمه بحرف السين، كانت تنافسه على المركز الأول في الصف، لكن منذ أن شاهدت تلك العبارة على المقعد، كانت تتقصد أن لا تأخذ العلامة التامة في جميع المواد، حتى لا تزرع حزناً في قلبه. على خشب السفينة حفرت الحرف الأول من اسمها ومن اسمه، فلعله يكون قادما مثلها في المركب نفسه عما قريب، ويبحث عنها. شفان (واسمه يعني «الراعي»)، ترك سهوب الخرفان التي كان يسهو معها في ضيعته، وهاله مدى شبه امتداد البحر الأزرق بالسهول البنية في ضيعته. قبل صعود المركب سأل والدته: أمي هل تعرف الخرفان السباحة؟ ضحكت الأم: كان جدك يقول إن الحيوانات كلها تعرف السباحة، إلا الحمار فإنه يغرق، لذا أسموه حماراً. أمي وهل سنربي الخرفان في ألمانيا؟ لا. يقولون إن الناس هناك تربي الكلاب في المنازل. لكن لماذا لم تقولي ذلك، كنت سوف آتي بكلبي معي؟ يا بني لقد بعنا كل الخراف لنركب السفينة، هل كنت تريدنا أن نبيع ثيابنا لنركب الكلب معنا؟ حين طفا شفان على الموج، أراد العدو والعودة الى الخرفان والكلب والبيت. لكن البيت كان بعيدا للغاية هذه المرة، غرق في المنام.
الوالدين
عبد السلام وسلطانة، عاصم وجمانة، رسول وفيروز، وعيسى ومريم وعماد وقمر..الخ. أكثر ما كان يثير غيرة سلطانة هو جميلة بنت غربي اللحام، فهذه التي كانت تأتي كل صيف مع أولادها من ألمانيا، وهي التي كانت زميلتها أيام المدرسة، كانت تثير غيرتها بشكل بالغ، فثيابها وثياب أولادها مميزة، وتجتمع نساء الحارة حولها، يتبادلن صور مطبخها وشرفتها وصالونها، موبايلها الجديد الذي كان مثار تعجب الجميع في الصيف الأخير، وكذلك قيادتها للسيارة من دون وجل. منذ الصيف الأخير قررت سلطانة أن تهاجر الى ألمانيا مهما كان الثمن، فالحالة مع جميلة لم تعد تحتمل، خصوصا وأنها في دعوة الغداء الأخيرة في بيت سلطانة لم تتناول سوى السلطة، فهي كانت تقول للمجتمعين بأن الوجبات الشرقية لا تناسبها. زوجها عبد السلام أراد إقناعها أكثر من مرة بان بيع البيت وأدواته قد لا يكفي ثمن الطريق، لكنها قررت أن تبقي خمسة من الأولاد وتأخذ ثلاثة منهم فقط معها أول مرة، وجرى ما جرى. جمانة زوجة عاصم كانت تريد أن تخلص من بيت «الإحمى» فحسب، فلا يعقل أن يعيش ثلاثة وعشرون فرداً في بيت واحد، ولسنوات وسنوات. أخذت قرضاً على راتبها وراتب زوجها وباعت ذهب العرس وقررت الرحيل. وكذلك كانت الحكايات البسيطة لفيروز ومريم وقمر ورسول وعيسى وعماد وخلات وخليل وفاطمة ودعاء وزهرة وسليم وابراهيم..الخ. هشاشة بالغة وقلق عميق في الحس، يدفع لاستسهال الهروب، والخلاص الفردي.
المهرِّب
اسمه ماجد بركي، هو من مدينة عامودا، عُرِفَ رمزاً لمجموعات المهربين منذ عشرات السنوات، حققت عائلته ازدهاراً اجتماعياً واقتصادياً من خلال عمله، كان العشرات من شباب البلدة يحسدونه ويجدون فيه مثالهم وأمنيتهم لتحقيق الأهداف والمرامي الشخصية، فمنزله وأملاكه وعلاقته ومظهره كان يثيرهم للغاية. لم يثر لغطاً ورفضاً من أي جهة، من خلال أعماله «اللاشرعية»، والخطرة للغاية، في عملية تهريب المهاجرين غير الشرعيين، فبالرغم من الحوادث الكثيرة مثل هذه، إلا انه بقي على نشاطه. لا وجهاء المدينة التاريخيون ولا شعراؤها الحديثون الكثر، لا تقاليد المدينة العريقة ولا سطوة روحها استطاعوا أن يوقفوا ماكينة ماجد بركي وعلاقاته الأمنية والمالية، والتي دفعت لإغراء آلاف الشباب لركوب الموج، فغرق منهم من غرق، من دون أي مسؤولية أخلاقية أو حس إنساني، كان ماجد بركي تعبيراً واضحاً ومعياراً مباشراً، لخساسة لعبة الحياة في إحدى أعرق بلدات الشمال السوري.
في أواسط القرن العشرين، كان ثمة شاب يسمى «محمدي آغا» كان مثالاً ونموذجاً لشباب البلدة والمنطقة وقتها، لفتوته وحُسنه وخلقه، كان نموذجاً لأمنيات الفتيات وصداقة الفتيان. حينما اندلعت النار في دار سينما عامودا عام 1961، في الحادثة الشهيرة، حيث كان مئات الأطفال يشاهدون فيلماً وثائقياً عن المناضلة الجزائرية «جميلة بوحيرد»، وقتها وقف آلاف شباب عامودا حول بناء السينما من دون أن يتجرأ أحد منهم على الاقتراب من لهب النيران. وحده ذلك الشاب الوسيم أخذته النخوة، وأنقذ عشرات الأطفال واسُتشهد.
على درب سِيّرتيّ ماجد بركي ومحمدى آغا، يمكن فهم سيرة سوريا كلها.
المستقبل