صفحات الثقافة

قليلٌ من الحكمة كثيرٌ من المايونيز

 

ساجي

دمشق هي كابول. كابول راقصةٌ بريةٌ تهزّ ردفيها على رأس القرن الإفريقيّ في الزاويةِ الوحشيةِ من حلمٍ أسود.

أسود: كلمةٌ ليست عنصرية. إنها التعبير ما بعد الحداثيّ عن عالمٍ يتبرّز إنسانيته.

وحشيّة: كلمةٌ ليس لها علاقةٌ بالآدميين. هي محض جهة بين الشرق والغرب.

وحلم، كما تعرفون، كلمةٌ خاليةٌ من الكحول.

دمشق – كابول، وبالعكس. رحلةٌ ممتعةٌ على متن الخطوط المتقاطعة العابرة القارات حيث جهنم على مرمى حجر. من يريد أن يحجز تذكرةً ممهورةً بالختم الدائريّ الأحمر وفي مركزهِ يلمع هلالٌ كنصفِ مؤخرة أو كضلعٍ ناقصٍة من دائرة الأحوالِ المدنية؟ نقدّمُ وجبةً جاهزة من أنثى زهور الكتّان كلعنةٍ لنسيانٍ موقت، بلغة قبائل الفاليوم، حيث يمكنكَ أن تسترخي وتشاهد أحلامكَ مباشرةً على شاشةٍ مصلية عالية الدقة. سنمنحكَ فرصةً فريدةً لرؤية الله من النافذة الزجاجية ملوِّحاً لكَ فوق الغيوم عميقاً وحيداً سعيداً بإصبعه الوسطى.

شروطٌ مناسبةٌ لكتابةِ قصيدةٍ حداثية من لحم ودم وبراز، وليس كرغبةٍ تستمني وقتها الطائفيّ، ولا كهذيانٍ بريانيّ بالكاري الأحمر والعصارة الصفراوية. قصيدة بحجارة حقيقية وشواهدَ شاهقة. قصيدة بسيلانٍ لغوي لا يشفى، ووجعٍ يدوزن أعصابه على مقام مارش سماعي يبدأ عادةً بنغماتٍ ثلاث: ألف لام ميم، أو بإيعازاتٍ ثلاثة: أح تنين تلات…

دمشق هي كابول. يمكنكَ أن تبدأ هكذا. كابول تُساحِقُ مقديشو برمّانتين من نحاسٍ أحمر، والعاهرات الثلاث يمارسن رقصة الـ HIV من دون أيِّ تحفظٍ طائفي أو عرقي. فضيحةٌ حضارية، وشمٌ كيميائي على بطةِ ساقٍ أموية، غسيلٌ وسخ غير صالح للنشر، عنةٌ ديموقراطية، احتشاءٌ في “قلب العروبة النابض”، والحرية كلمةٌ تلمع كنظيرٍ مشع، ووجعٌ مديدٌ مديدٌ مديد، مسيطرٌ كحكومة ظلّ، والجميع ينعمون بنومٍ مغناطيسيّ هادئ.

فلتذهبوا إلى جحيمٍ رامبوية، أو إلى جنةٍ معرّاوية، أو هاجروا إلى الحبشة، “ففيها ملكٌ لا يُظلمُ عنده أحد”.

النجاشي – الله – اسمٌ يرنّ كخزفٍ صيني، قيشاني. هل ثمة علاقة؟ أتذكركَ مع الضحكة السينمائية الأكثر إيروتيكيةً وهي تقيء الجنس! حتى لو خرجنا عن الموضوع، فكلّ الكلمات سوف تذهب في النهاية إلى النهر العظيم الذي يئنّ في أحشاء العاهرات الثلاث. يبدو أنّ المسألة تحتاج إلى فتوة.

يغرق في كرسيّه، في المكتب، حيث تفيض التقوى مع رائحة المسك المبرَّد، وحيث يجتمع الأنبياء عادةً، يربت على لفةٍ تنام فوق الخشب المعجون بالصلوات، يستلّ القرآن من بين العهدين، ويفتح “مريم”. يحدّق في كأس القهوة، و”يوسف”، و”كشفتْ ساقيها”. يغلق الكتاب، وبضربةٍ واحدة يقطع رأس سيجاره. يمسك القلم ويطلق النار: الخروج على… يعني ثورة. الخروج عن… يعني انشقاقاً. الخروج من… يعني حياداً سلبياً. الخروج في… تحتمل الوجهين. الخروج إلى… تبدو هي الحل.

توقيع: المدير العام لدار الإفتاء والعقارات الوقفية. ختم.

* * *

قال لي السيد س الذي ليس له علاقةٌ بعلاقتي مع السيدة ع التي دائماً تترحم على زوجها الذي بدأ علمانياً في فترة الطفح القومي، ثم أصولياً في فترة الاغتصاب القصير الأمد، ثم يسارياً راديكالياً في مرحلة المراهقة الثورية، ثم عاد إلى الأصولية الليبيرالية كنوعٍ من زواج المتعة، ثم انقلب ماركسياً وطنياً يؤمن بسدّ الذرائع، وانتهى به الأمر مفرَّغاً حزبياً إلى جوار الرفيق الأعلى. لا يهمّ. فالسيد س بوصفه رجلاً من رجالات المرحلة، وس، كما هي ع، تعني رياضياً لا على التعيين، المتحول س المتحول ع إلخ. قال لي بعدما قرأ معلقتي: إمممممم. ثمة الكثير من براز الذباب على نظارتك. إذاً… وكنتُ أتسول الانتظار الهاتفيّ. إذاً لا يمكن نشرها. أنتَ تعرف أننا دخلنا مرحلة التكريس، وهذا يعني التفرّغ والتفريغ و”الاتجاه شرقاً”. وشرقاً “مابو ربيعي”.

* * *

ليس من خيار إلا أن تشدّ حبال حنجرتكَ، وتفرد شراعَ حنككَ، وتطلق الريح. تجلس لتحلل الوضع. تشرب قهوتكَ على أنغام الفوسديكا وموسيقى الحجرة الفولاذية وتبصق كلماتكَ الإستوائية في العصر ما بعد الفاغنريّ، حيث يبدو أن ثمة “ألف شمس مشرقة” في انتظارك. في دمشق في كابول في مقديشو حيث التجلّي الأنعم الأجمل الأوحد الذي يبدو لكَ محبوباً للرصاص، هو عندما يكون قلماً.

 

* * *

التناص

“قلب العروبة النابض”: تعبير يقصد به دمشق؛ “ففيها ملكٌ لا يُظلَم عنده أحد”: حديث نبوي؛ “كشفت ساقيها”: آية 40 من سورة النمل، والمقصودة بلقيس؛ “الاتجاه شرقاً”: توجه حكومي برز في بداية الثورة السورية؛ “مابو ربيعي”، مقطع من أغنية شعبية غنتها فيروز ايضاً؛ “ألف شمس مشرقة”: رواية للكاتب الأفغاني خالد حسيني.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى