عن الصداقة والعداوة/ ياسين الحاج صالح
إلى بكر صدقي
الصداقة والقرابة
لا يختار الإنسان أصدقاءه بكامل الحرية. يجدهم أو يجدونه، ويميل إليهم ويميلون إليه. لكننا نختار صداقة من نجده أو يجدنا بعد تعثر أولٍ أو ثانٍ تصطدم به معظم الصداقات. نبذل جهداً للتغلب على تعثر أو تعثرين، ولا نبذل جهداً للتغلب على تعثر آخر أو نصف تعثر. نرى الأمر مُستحِّقَاً للجهد في حالات، وغير مُستَحِّقٍ في حالات أخرى. نختار. الاختيار ليس بين صديق وعدو. هذا تمييز وليس اختياراً، فعل معرفة وليس فعل إرادة؛ نختار أصدقاءً من بين الأصحاب والمعارف والرفاق، فنميزهم عن معارف وأصحاب ورفاق لا نخصّهم بالمكانة نفسها. الاختيار هو بين بذل الجهد من أجل كسب صديق وبين عدم بذله، ذلك أن الصديق لا يكون صديقاً سلفاً ودوماً، يصير صديقاً باختيار بذل الجهد. وهو اختيار في مواجهة التعثر ورغم التعثر وضده. لماذا نبذل الجهد؟ لأن الصداقة تعود علينا بالخير، نتحسّنُ بفضل الصديق، نصادق أنفسنا بصورة أكثر تعافياً وأكثر حرية، وأقل أنانية. صديقي هو من يَصْدُقني، على ما يقول المثل، وهو يَصدُقني في ما يتعارض مع ما أحب أن أسمعه عن نفسي، فيساعدني على التغلب على ما لا أحب في نفسي، فيجعلني صديقاً لنفسي، أصدُقُها وأكاشفها، فتنشرح وتنفسح. الصديق بعبارة أخرى هو بمثابة ضمير إضافي، ويعزز فعل الضمير الداخلي. بضميرين نحن أرسخ وجوداً في العالم وتوجهنا أكثر سداداً. علاقتنا بأصحابنا ومعارفنا أكثر عرضية من أن تؤثر على علاقتنا بأنفسنا. تنتهي الصداقة، مثلما ينتهي الحب، حين يؤدي المضي في أي منهما إلى تدهور العلاقة مع النفس، فيكره الواحد منّا نفسه أو يفقد ثقته بها.
في كل حال نحن لا نَرِثُ الأصدقاء، نَرِثُ آباءنا وأمهاتنا، وإخوتنا، لكن الصداقة ليست وراثية. أَرِثُ القرابة أيضاً، لكن قريبي ليس صديقي لمجرد أنه قريبي. وينبغي أن ينجح في امتحان خاص كي يكون صديقي: أن يخرج من القرابة ويصير غريباً، ثم أن نبذل الجهد معاً من أجل الصداقة.
هناك صداقة بالفرض أيضاً. لا تستطيع فرض نفسك صديقاً لأحد، ولا يمكن لأي كان أن يفرض نفسه صديقاً لك. إن بدأ الأمر كذلك، تسقط الصداقة المفروضة عند أول عثرة.
بخصوص العداوة أيضاً قد نميز بين عداوة بالوراثة وعداوة بالفرض وعداوة بالاختيار. العدو الوراثي تركة تُخلِّفُها لي العائلة أو العشيرة أو الإثنية أو الطائفة أو الدين أو الأمة. يُفترض بي أن أكرهه وأعاديه لأنه ليس منّا، أو لأنه من آخرنا المعادي: من العائلة الأخرى المنافسة في القرية أو الحي، أو من العشيرة الأخرى المنافسة في المنطقة، أو من الإثنية الأخرى التي تكرهنا، أو من الطائفة الأحرى التي تعادينا، أو من الدين الآخر المنافس، أو من عدونا الوطني… العدو بالوراثة يمكنه أن يكون عدواً بالدم أو عدواً بالهوية. لا تقوم الأمم والجماعات الدينية، ولا حتى العشائر غالباً، على روابط الدم، لكنها قد تعمل على أن تكون كذلك، وعلى أن تكون العلاقة بيننا دموية (دمنا واحد) ومع العدو دموية (بيننا حساب دموي). يقول مثل شعبي متداول في بعض المناطق السورية: «عدو جِدّك ما بيودّك!». هذا يمكن أن يكون شعاراً للعداوة الوراثية إن فهمنا عدم المودة كعداوة، بحيث يكون عدوي عدواً لحفيدي أيضاً. لكن يمكن أن نفهم المَثَل بصورة مخففة، تفسح مرتبة لعدم المودة، دون أن تبلغ درجة العداوة. مع الزمن، خلال جيل أو جيلين آخرين، قد تنحل مرتبة «ما بيودّك» في حياد، أو حتى في صداقة، لكنها قد تثبت على جفاء، أو تترفع إلى عداوة. على أن المَثَل، حتى في صيغته المخفّفة، يُبقي المودة وانعدامها رهن علاقات القرابة، أي الوراثة.
عدوي الموروث ليس عدوي لأنه سيءٌ حتماً، ولكنه سيءٌ لأنه عدوي، لأنه منهم. وقد نكتشف أن العدو بالهوية أو بالوراثة شخص جيد في الواقع، وليس غير سيء فقط، ويحصل أن نصادقه أو نحبه. هذا موضوع لصراعات مأساوية في القديم والحديث، يتواجه فيها الالتزام القرابي أو الدموي الموروث مع اختيار وجدان الفرد أو قلبه. قصة روميو وجولييت مثال مشهور. وهذه موضوعة حاضرة في شعر محمود درويش، قصائده عن ريتا الحبيبة التي تفصلها عنه بندقية.
هناك عدو بالفرض، ليس موروثاً، لكنك لم تختره أيضاً. اختارك هو. وهو يبذل كل جهد كي تختاره عدواً، فتحبَّ عداوته وتخلص لها. لكن عدا أن رفض الفرض دفاعٌ عن حرية الاختيار، فإن اختيار العدو بالذات قد يفوق في أهميته اختيار الصديق. ذلك أن العدو بالاختيار (مقابل العدو بالفرض أو بالوراثة)، هو ما يُعرِّف من تكون. أختار أن أعادي من تعود عداوته عليَّ بالخير، من تتحسن ثقتي بنفسي وبأصدقائي بسحب الثقة منهم والثقة بمعاداتهم، أو أصير صديقاً أفضل لأصدقائي ونفسي حين أعاديه. عبر حسن اختيار العدو، أُعزِّزُ أثر الصديق كضمير آخر، كمرشد في الحياة.
اختيار العدو مهم أيضاً لأن الأسوأ من وجود الأعداء (مما لا يبدو أنه يمكن اجتنابه) هو عدم التمييز بين الصديق والعدو. ليس فقط لأن من شأن عدم التمييز أن يُفوِّت نفع الصداقة وتجنب ضرر العداوة فقط، وإنما لأنه يمكن أن يكون مدخلاً إلى علاقة مختلة مع النفس، قد تبلغ أن يصير المرء عدو نفسه وصديق عدوه.
الصداقة والرفقة
يمكن التفكير في شؤون الصداقة والعداوة في شرطنا السوري الذي قد لا يتميز اليوم بحدّة عداواته واضطراب صداقاته فقط، ولا بعدم التمييز بين الصديق والعدو أحياناً، وإنما كذلك بالتباسات في مراتب الصداقة والعداوة وتقلبات حادة بينها. هذا شرط حرب متعددة المستويات، حرب أهلية في جانب منها، وشرط دمٍ في كل حال. الديناميكيات العامة الفاعلة ضمن هذا الشرط تدفع باتجاه صداقات الدم وعداوات الدم. لكن إن أمكن للعداوات أن تكون دموية، فالصداقات الدموية هي القرابات، وإن تكن قرابات متخيلة. الحرب هي الشرط الذي يحوّلُ الصداقة إلى أُخوّة، والخصومة إلى عداوة، والروابط المجردة إلى روابط عضوية. في شروط الحرب تتعرض الصداقة لضغط شديد من جهتين، العداوة والقرابة.
قد ندرك ذلك، لكن أوضاعنا السياسية، ولا أتبنى بحال نظرة كارل شميت التي تردُّ السياسة إلى التمييز بين الصديق والعدو، تدفع في هذا اتجاه الشميتي. شميت كان مُقرَّبَاً من النازيين الذين أولوا «العِرق» مكانة عليا في سياستهم، أي أذابوا الصداقة في القرابة وفي الدم. يدفع الدم نحو الدم، والعنف الدموي يدفع نحو الروابط الدموية. (كان شميت أقرب أيضاً إلى إلحاق السياسة بالسيادة. السياسة مساحة للتقارب والتصادق والتخاصم بين متعددين، ولقواعد مطردة تضمن المساواة بينهم، بينما السيادة مجال العنف والواحدية، والاستثناء. سياسة شميت عملياً هي الحرب).
بيننا من يتمردون على مطابقة الصداقة والدم، وهم ليسوا قلّة. لكن بقدر ما تمكن الملاحظة، فإن المتمردين يجازفون بعزل مزدوج: من روابطهم الدموية التي تأخذ عليهم انشقاقهم أو عدم موالاتهم، أو قلّة «الدم» في سياستهم؛ ثم من تفاعل الانشقاقات المتقابلة على نحو يعطلها كلها، فيدفع نحو القرابة ويضعف الصداقة أكثر من العكس. انشقاق منشقين عن روابط مقابلة وراثياً هو طلب مبدئي للصداقة، لكنه يرفع الكلفة النفسية الاجتماعية لانشقاقنا نحن عن رابطنا الوراثي، لأنه يؤسس رابطاً آخر مستقلاً يقتضي منا استقلالاً ذاتياً مسبقاً أو استعداداً له، فنفضل إنكار الانشقاق من طرف العدو الوراثي كي نتحرر من عبء الصداقة والاختيار، والاستقلال. أُنكِرُ خروج اليهودي الإسرائيلي من رابطته كيلا تهددني صداقته، وهو يفعل مثل ذلك كي يُنكر صداقتي، كي يقول إنه لا شريك له بين الفلسطينيين، على ما تواتر على ألسنة مسؤولين إسرائيليين. هنا رفضٌ للسياسة ذاتها، كمجال مُحتمَل للصداقة، لمصلحة السيادة والحرب. يُظهِرُ الإسرائيلي حيال الفلسطينيين وجه السيادة المميت حصراً، وليس وجه السياسة المحايد، دع عنك وجه الصداقة الباسم. وقد يصل الأمر إلى اغتيال الفلسطيني الذي ينفلت من مبدأ العداوة الوراثية ويفتح باباً للسياسة، وربما يعرض استعداداً للشراكة على أساس المساواة والصداقة.
«سورية الأسد» حتى قبل الثورة والحرب العامة اليوم هي إطار مضاد للانشقاق، يوهن الثقة الاجتماعية، ويقوي الدموي والعضوي على حساب المتخيل والمجرد، فيُضعف فُرَص الصداقة. ليس الانشقاق من الروابط العضوية غائباً، لكن نميل إلى إنكار الانشقاق المقابل أو التقليل من شأنه، من أجل خفض كلفة الانشقاق على النفس. ننفي انشقاقهم عن جماعتهم كيلا ننشق نحن كثيراً عن جماعتنا، وعلى هذا النحو لا تلتقي الانشقاقات، ولا تتكون لها مساحة عامة مشتركة، إلا في نطاقات ضيقة. ولعله لذلك لم تكد تظهر في سياق الثورة السورية والحرب مرتبة رفقة الدرب، الشراكة في قضية والنضال معاً، مما كان ممكناً حتى ثمانينات القرن العشرين، ومما تقوم عليه الأحزاب السياسية عندنا وفي كل مكان. الرفاق هم المناضلون المشدودون إلى مثال يلغي فوارق المنبت والأصل بينهم، ويوسعها مع الواقع القائم، ومع القرابة، فيوفر مساحة شراكة وإطاراً محتملاً للصداقة. لكن الرفقة لا تقتصر على المنظمات السياسية، إنها «المجتمع المدني»، إطار تولد وتفاعل الروابط الطوعية غير الوراثية، بما في ذلك الأحزاب السياسية. كمساحة اجتماعية عامة تشجع على مزيد من الانشقاق عن القرابة، الرفقة سُحِقَت سياسياً في سورية في مسار العقد الثاني من حكم حافظ الأسد، وهو ما قوض الركيزة الاجتماعية للصداقة، وكان ملائماً جداً للقرابات الفعلية والمتخيلة. الخوف الذي يدفع الناس إلى الانكفاء على الحياة الخاصة وحصر الثقة في القريب تتأذى منه القرابة أقل من غيرها.
أعتقد أن بعض أعنف المنازعات السياسية النفسية في «سورية الأسد» تعود إلى انسحاق الصداقة تحت ضغط القرابة، بفعل زوال الرفقة كمساحة سياسية وعامة جوهرياً. إطلال الدولة الأسدية على السوريين بوجه السيادة الواحدي والعنيف (التمييزي والقائم على الاستثناء أيضاً)، لا بوجه السياسة التعددي المنفتح على التسويات وعلى صداقات ممكنة، يقوم لدينا بما قام به من دور في ألمانيا النازية: تدني كثافة التفاعلات الاجتماعية وصعود القرابة مُعرَّفَةً بالعرق والدم، وانحدار التقاربات الأخرى، وصولاً إلى الهجرة. كان مستحيلاً أن يستمر ما كان من تواصل فكري وشخصي بين وولتر بنيامين وكارل شميت، أو بين حنة آرندت وهايدغر. بنيامين انتحر على الحدود الفرنسية الإسبانية وهو يفر من النازيين، وآرندت نجحت في الفرار وعاشت لاجئة في الولايات المتحدة.
سياسة العداوة
وغير زوال الرفقة كمساحة عامة وبيئة للصداقة، فإن في التحيّل للعيش والاستعداد للتلون والتراجع عن حقك أمام تهديد من لا تعرف، وتجنب قول الحق في الشأن العام (وهي خصال لا يُستغنى عنها في شروط مجتمع المراقبة والخوف) ما يقوض بدوره أرضية الصداقة. الأولوية للحياة وضروراتها، لا للصداقة والتزاماتها الأرفع. الصداقة تعيش بصعوبة في شروط موت السياسة. هذا يمكن أن يكون خلاصة مكثفة لسيرة الحكم الأسدي.
القصد أن الصداقة والعداوة لا تقاربان من مدخل سلوك الأفراد وطباعهم فحسب. في الدولة التي تستطيع أن تحصي على الناس أنفاسهم صارت الصداقة شأناً سياسياً، لا ينحصر في النطاق الخاص. العداوة شأنٌ سياسيٌ بقدرٍ أكبر بعدُ، بقدرِ ما إن انزلاقها المحتمل إلى العنف والقتل يؤهلها بيسر للاستثمار السياسي. في مجالنا اليوم تبدو العداوات رصيداً أسهل توظيفاً في النطاق السياسي من الصداقات التي تبدو، بالأحرى، بديلاً عن السياسة أو منافساً لها. حتى أن ما لدينا من أجسام سياسية يبدو متكوناً حول المعاداة المشتركة لعدو، وليس حول الصداقة والثقة. هناك سياسة بلا رفقة، لا تتشكل حولها مجتمعات فرعية يوحدها هدف سياسي، فترتقي بمنتسبيها فكرياً وسياسياً وأخلاقياً.
هذا مصدر ضعف جوهري لكل ما شهدنا من هيئات سياسية ظهرت بعد الثورة، وإن كان لا يقتصر عليها. كقيمة وكقوة سياسية، تبدو العداوة اليوم أقوى من الصداقة، ويبدو العداء قوة جامعة وموحدة أكثر من الصداقة. هذا وضع انقسامي نَشِط، مرتبطٌ جوهرياً بفشل التطلع التغييري للثورة، وبصعود انفعالات كره النفس والغير. ليست المسألة أننا لا نصادق غيرنا في مثل هذه الشروط، بل لا نكاد نصادق أنفسنا، نهرب منها أو نكرهها. وقد نتآلف مع كارهين آخرين كي نستطيع العيش مع كرهنا. هذا مسلك تدمير ذاتي، لسنا أول من جَرَّبَه ولن نكون الأخيرين. لكن في هذه الأزمنة الصعبة تبقى الصداقة، والرفقة كبيئة لها، هي السند الأقوى لنا كأشخاص، والسياسة الأنسب. هذا صعب، لكنه الصعب المؤسس، المولد للقيمة، بقدر ما إنه متولد هو ذاته عن التمرس بأوضاع غير مؤاتية، قابلة لذلك للصمود والدوام. فالصديق هو السند عند الضيق. في شروط مؤاتية أكثر، فرص الصداقة مبذولة بوفرة، لكنها لذلك بالذات يمكن أن تكون مبتذلة، لا تصمد أمام الصعاب.
من شأن مساحات للصداقة والثقة، وإن تكن صغيرة، أن تكون شبكات حماية اجتماعية ونفسية في شروط مثل شروطنا، تناثر المجتمع واللجوء، فتقوم تالياً بدور سياسي حيوي. وهي أجدى من مساحات قد تكون أكبر، لكنها فوقية، تخلو من الرفقة؛ وأجدى بطبيعة الحال من الاستسلام لنزعات معادة النفس والتدمير الذاتي التي ترتدي حجاب معاداة الأشباه.
«الفرِند» والخلّ الوفي
على أن ما يتحدى الصداقة في مجتمعاتنا في الراهن لا يقتصر على دولة الخوف والتجسس، ولا على شروط اللجوء والتناثر، ولا على ازدهار نزعات التدمير الذاتي. هناك اليوم تأثير ثورة الاتصالات ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعرض تأثيراً متناقضاً. من جهة توسع دوائر اتصالنا بقدر كبير وتسهل الاتصال وتكثف شبكاته، وتخلق تقاربات وشبكات دعم ومساندة، وتوفر فرص حصول على معلومات أساسية، كان من شأن غيابها أن يجعل أوضاعنا أسوأ بكثير. في الوقت نفسه ينزع هذا الاتصال إلى إضعاف التواصل الشخصي والمباشر بين الناس خارج النطاق العائلي، وإلى التوسع على حسابه حتى في المساحات المتضيقة لهذا التواصل المباشر. يغدو المركز هو فاعليتنا الفردية أمام شاشات حواسيبنا، تغزو تفاعلاتنا المباشرة المتراجعة، هذا بينما كان يفترض بالتواصل الاجتماعي أن يسهل حياتنا الواقعية في مجتمع وأنشطة حية، لا أن يكون بديلاً عنها. هذا استلاب: تسود الأدوات على الأحياء، وتنتج عبرهم فاعلية خاصة لا يتحكمون بها. والثورة الاتصالية هي، على نحو مفارق، ثورة في العزلة والعيش وحيدين.
تساعد وسائل التواصل الاجتماعي في قيام مجتمعات افتراضية، تعوض جزئياً عما فقدناه من مجتمعات واقعية في حالتنا السورية. لكن علاقة هذه المجتمعات الافتراضية بمجتمعات واقعية من الأصدقاء والمعارف، والرفاق، تناظر علاقة الفرِند على فيسبوك بالصديق. ليس الفرِند صديقاً، هو أقرب إلى تبذيلٍ للصداقة، حتى وإن كُنّا لا نقبل عقيدة الخلّ الوفي التي تقرر أن الصديق مستحيلٌ مثل الغول والعنقاء، على ما يقرر مثل عربي قديم.
عالم التواصل الاجتماعي في صيغ تفاعلنا معه اليوم، ينزع إلى تمييع مفاهيم الصداقة والعداوة، وإضعاف التمييز بين الصديق والعدو. وهذا، مرة أخرى، أسوأ من وجود العدو ذاته. في هذا العالم فرصٌ للمراقبة والترصد، تقوِّضُ الثقة بين الناس، وتحاكي مفعول دولة التجسس والرقابة. وهو يبدو مضاداً بالقدر نفسه للثقافة وما تقتضيه من تروٍ وإمعانِ نظر، وللتذكّرِ بسرعةِ إيقاعه وموجاته المتتابعة التي تمحو لاحقتها السابقة وتُنسيها، وكذلك لعالم الحياة الواقعي وفُرَصِ تلاقي غرباء.
عوالم الاجتماع الافتراضي هذه حديثة، عمرها أقل من جيل واحد، لكنها مثل عوالم الاجتماع الواقعية في حاجة مستمرة إلى إصلاح. وليس مدار الإصلاح هو «حماية الخصوصية» حصراً، بل لعله تسهيل حياتنا الخاصة والعامة معاً، وحماية الصداقة التي هي الجسر الأمتن بين الحياتين.
موقع الجمهورية