عن العدالة والمساءلة في سوريا
وائل السوّاح
في ختام روايته الفذة “الجريمة والعقاب،” يكتب دوستويفسكي ما يلي: “ولكن تلك هي مقدمة لقصة جديدة – قصة الانبعاث المتجدد لرجل، قصة ولادته من جديد وعبوره من عالم إلى عالم وابتدائه لحياة أخرى.” في هذه الفقرة يلخص دوستويفسكي فلسفته من أن العقاب ليس فقط لإحقاق الحق للضحية وإنما لإحقاق الحق للمرتكب نفسه.
بيد أن العقاب من هذا المنظور لا ينبغي أن يكون عملا انتقاميا، بل محاولة للمصالحة. أحد أهم تجليات هذه العلاقة بين العقاب والغفران يتجسد في فكرة العدالة الانتقالية، التي تقوم على إيجاد وسائل خلاقة لمواجهة إرث انتهاكات حقوق الإنسان في فترة من الفترات التي تشهد حكما دكتاتوريا أو افتتالا أهليا، لتجاوز تلك الفترة عن طريق محاسبة المسؤولين الفعليين والبحث عن الحقيقة والاقرار بالذنب والمصالحة الشاملة، وتهدف إلى إطلاق المصالحة المجتمعية الشاملة لكي تتمتع الأجيال القادمة ببيئة اجتماعية وأخلاقية سليمة وغير مشوهة بأحقاد أو مساعي للثأر.
على أن ذلك لا يبدو سهل المنال. فإن انقسام السوريين بات أعمق من أن تردمه كلمات مهما بلغ نبلها وطيبها، من دون إرادة سياسية قوية وواضحة لمكونات الثورة السورية. . والأدهى هو الخراب في البنية المجتمعية والأخلاقية الذي قسم السوريين عموديا، وبشكل يزداد عمقا ومأساوية بشكل يومي، خراب صار يبرر القتل ويسمح للسوريين في الشماتة بعضهم من بعض حتى في مسائل كالموت والمصائب الكبيرة. ولنا في الانقسام حول مقتل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي مثال قريب وواضح.
لا أمل يرتجى من النظام الحاكم في دمشق، فمن الواضح أنه قرر أن يمضي في لعبة تدمير البلاد إلى النهاية، وهو ما تبدى بوضوح في مقابلة الرئيس بشار الأسد الأخيرة لمحطة تلفزيون محلية. ولعل لسان حاله يقول: “ليس لدي ما أخسره أكثر.” وربما وقَرَ في روعه أنه في أسوأ الأحوال قادر على تقسيم البلد واللجوء إلى منطقة تحميه اجتماعيا وسياسيا. ارتكب النظام وأجهزته من المجازر ما لم يعد يجدي معه صلح حقيقي بينه وبين السوريين، فقرر الاستمرار في لعبة القتل والتدمير.
ولكن النظام ليس كتلة صماء، ولعل فيه بعض الأفراد الذين يعون أنهم قد وضعوا أنفسهم في خندق مواجهة أخلاقية وسياسية وعسكرية مع أغلبية السوريين وأن استمرار هذاالوضع ليس في صالحهم ولا في صالح أبنائهم وباقي السوريين. إن وجود هؤلاء الأفراد ضروري لحوار حقيقي من أجل نقل آمن للسلطة، يقوم على أساس الحرية والعدالة والمساواة.
بيد أن اللاعب الأهم هنا هو قوى الثورة والمعارضة السورية. يعلم الجميع أن الثورة لم تبدأ طائفية ولا إسلامية منغلقة، ولكنها شرعت بعد نحو السنة من انطلاقها تنحو هذا النحو الذي يدفع نحو خراب في البنية المجتمعية والأخلاقية، قسم السوريين عموديا، وشوه لغة التخاطب فيما بينهم. هذا اللاعب يجب أن يتنبه منذ اللحظة أن هدف السوريين لا يمكن أن يكون إسقاط النظام فحسب، وإنما إسقاط النظام كشرط لبناء سوريا العدالة والحرية والمساواة. ويتعين على المعارضة أن تعلم أن هذه العملية البنائية تقتضي مرحلة تقوم على أساس العدالة الانتقالية.
يشعر السوريون أنهم مهملون وأن العالم قد خذلهم وتركهم لمصيرهم يواجهون أحد أسوأ أنظمة القمع في العالم. وهو الشعور نفسه الذي سبقهم إليه شعوب كثيرة. ولا تزال الذاكرة القريبة تحتفي بانتهاء الصراع الدامي الذي أودى بحياة عُشر سكان راوندا في حرب أهلية وصلت فى ذروتها إلى مجازر جماعية وتطهير عرقي، ربما كان أسوأ أشكال المجازر في التاريخ المعاصر.
على أن الروانديين أيقنوا في لحظة محددة أن مستقبلهم ليس في قتل بعضهم بعضا، وإنما في بناء دولة حديثة تقوم على أساس المواطنة والحداثة والتنوع. لقد تمت محاكمة عدد كبير من الرؤوس الكبيرة المسؤولة عن القتل والتدمير، ولكن عامة الروانديين استبدلوا المسامحة والمصالحة بالانتقام، وهم اليوم قد تجاوزوا محنتهم الرهيبة، وبنوا دولة جديدة حققت المصالحة الوطنية وكتبت دستورا جديدا وبنت اقتصادا ينمو باستمرار. وتأتي رواندا فى مقدمة الدول الجاذبة للاستثمار المباشر فى القارة الأفريقية. وليست راوندا استثناء، فقد حدثت هذه التجربة في العديد من البلدان من مثل جنوب أفريقيا والأرجنتين وشيلى والبوسنة والهرسك.
ليست العدالة الانتقالية في مصلحة الضحايا فحسب وإنما في مصلحة الموالين أيضا، الذين تكمن مصلحتهم الحقيقية في إعادة دمجهم بمجتمعهم، واعترافهم بأفعالهم يساعدهم على إعادة احترامهم لنفسهم، وحتى قبولهم بالعقوبة في حال وقوعها ستمكنهم من تحررهم من العبء الهائل الذي سيحملونه إلى آخر العمر.
ومن هنا تكمن أهمية الحوار مع عناصر في النظام لا توافق على الطريقة الدموية الهمجية في إدارة الأزمة.
تلك هي رسالة دوستويفسكي.
المدن