عن العلاقات السيئة والمديدة بين العرب والغرب/ حسام عيتاني
ليس هناك في قاموس انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية مفردة أو ممارسة لم تشهدها البلدان العربية التي تعيش حالياً حروباً أهلية. وللقاموس هذا تاريخ ومؤلفون وأصحاب وأهل.
نشرة أخبار تلفزيونية واحدة تكفي لمعرفة الفارق الشاسع بين المواثيق والمعاهدات العالمية وبين ما يجري في الواقع. التدمير المنهجي للمجتمعات والتغيير القسري للتركيبات السكانية تمهيداً لتغيير هويتها السياسية وما يرافقهما من أعمال قتل واسعة النطاق، على ما نشهد في سورية والعراق، الإعدامات الكثيفة للمدنيين في السجون والبراري سواء بسواء، الترحيل الجماعي والتطهير الطائفي والعرقي لمناطق بعينها، الاعتماد على فرق موت محترفة، اللجوء إلى الاغتصاب كسلاح في الحرب واستعادة مفردات السبي والأنفال، نهب الآثار وتفجير ما لا يمكن نقله وبيعه في الخارج، وغيرها الكثير تقول كلها إن الانهيار الحاصل في هذه المنطقة من العالم تخطى بأشواط بنى مشاريع الدول الوطنية وأطاح بإمكان ترميم ما تهدم.
والجلي أن العالم، أي الغرب ممثلاً بحكوماته الأوروبية والأميركية الشمالية – حيث ينحصر أثر باقي مكونات العالم المعاصر الآخر في ميادين بعيدة عن السياسة- غير معني بتطبيق ما اعتبر نفسه رائداً في وضعه من تشريعات وأخلاقيات تحكم العلاقة بين الفرد والجماعة من جهة والسلطة القائمة من الجهة المقابلة، في زمني الحرب والسلم. بل أنه لا يبدو ككيان قابلاً للتأثر بالأهوال الجارية على بعد مئات قليلة من الكيلومترات عنه. فلا صور الآلاف من السجناء الذين قضوا تحت التعذيب وهربها «قيصر»، قد صدمته أو حملته على اتخاذ إجراء ملموس واحد، ولا موجة اللجوء التي بدأها السوريون الهاربون من جحيم الحرب والمخيمات أقنعته برفع مستوى تدخله إلى ما يزيد عن أعمال الإغاثة بل إن استقباله اللاجئين وضع في خانة الإحسان والشفقة، من دون النظر إلى الأسباب التي ولدت هذه الموجة ولا إمكان عكسها.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يُفترض أنه ضم الدروس المستخلصة من فظائع الحرب العالمية الثانية، لا يبدو قابلاً للتنفيذ في بلادنا. ثمة قدر من «السينيكية» في مقاربة الأزمات الحالية تتراوح مبرراتها بين الانكفاء الأميركي الاستراتيجي عن المنطقة بعد صدمتي أفغانستان والعراق والفشل المدوي فيهما، وبين تغير طبيعة المصالح الأميركية هنا وهبوطها في لائحة المؤثرات على الأمن القومي الأميركي إلى مراتب جد متدنية.
لا يرمي هذا الكلام إلى وسم الغرب مرة جديدة بالسمة الاستشراقية أو الكولونيالية ولا يسعى إلى اجترار أي حديث عن عطب غربي أصلي ومؤامرة مستمرة منذ أيام الاسكندر الأكبر، بل يحاول أن يقول إن الشكل الحالي من تعامل الغرب مع انهيار مجتمعات ودول المشرق العربي ينتج أساساً من أزمة عميقة في النموذج الغربي الديموقراطي الليبرالي ذاته.
علامات الأزمة هذه لا تحدها المعاناة الاقتصادية التي اتخذت منحى مزمناً في أوروبا منذ منتصف العقد الماضي ولا التقلص المستمر في القاعدة الانتخابية التي يتضاءل اهتمامها بطروحات أحزاب لا تفرق برامجها عن بعضها بشيء يذكر وحيث لم يعد من السهل التمييز بين يمين الوسط ويسار الوسط، وغير ذلك من آليات تجديد النخب السياسية، بل تصل إلى أعماق المجتمعات الغربية ومعنى الديموقراطية والسلطة والفوارق الطبقية فيها التي تتزايد على نحو لا سابق له، بحيث تبدو الآمال التي طرحتها مشاريع ليندون جونسون ببناء «المجتمع العظيم» على سبيل المثال، شديدة البعد عن الواقع الحالي.
جمود النظام السياسي واستعصائه أمام طموحات التغيير حتى عندما يحملها رئيس تخلى عن أداء مهمات تقليدية في السياسة الخارجية أو على الأقل بدل تبديلاً ملموساً أساليب مقاربتها، ليركز على الوضع الداخلي مثل باراك أوباما، واقترابه الدائم من حالة شلل ناجمة عن استقطاب لا فكاك منه بين الجمهوريين والديموقراطيين في الولايات المتحدة وبين تنويعات تقترب من هذا النموذج أو تبتعد عنه، في أوروبا، يساهم في رسم بعض وجوه المشكلات متعددة المستويات التي بلغها الغرب وتشمل بين ما تشمل العلاقات مع العالم غير الغربي والاقتصاد والثقافة.
من هذه الظاهرة المركبة، لا يلاحظ العرب سوى الجانب الذي يمسهم مساً مباشراً والمتعلق بقدر كبير من اللامبالاة الغربية بأحوالهم الراهنة وبما ترى الدول العربية محقة أنه انحياز ضد مصالحها وانتقل من التأييد الكامل لإسرائيل بمبررات حل المسألة اليهودية ولو على حساب الفلسطينيين والعرب إلى الانفتاح على إيران في ذروة هجومها الامبراطوري على العرب واستغلالها الفراغ السياسي والاستراتيجي الذي يتخبطون فيه منذ عقود.
لكن في المقابل، يحق للغرب القول إن صداقة العرب معه، خصوصاً على مستوى الشعوب، لم تكن يوماً بالمستوى الذي يبرر لهم لومه على تخاذله حيالهم. فلا هم بنوا تحالفاً استراتيجياً معه ولم يتخلوا عن العداء له أولاً ضمن أيديولوجيا معاداة الاستعمار ثم بسبب القضية الفلسطينية وأخيراً بفعل الإسلام الجهادي، ولا هم يشاركونه الرؤية إلى العصر وقضاياه.
قد يبدو الغرب أوضح اليوم في نبذه العرب وقضاياهم واعتبار المساحة التي يقيمون عليها مصدر تهديد أمني لا أكثر. لكن الوضوح هذا يشكل قمة علاقات سيئة شملت جميع النواحي التي قد تتفاعل فيها شعوب ودول، وعلى مدى عقود على الأقل، منذ بداية ظهور العرب كقوة مستقلة سياسياً في هذه المنطقة.
خراب هذه المنطقة ليس وليد عنصر واحد ولا يتحمل مسؤوليته فاعل مفرد. كذلك عواقبه ستكون عريضة.
الحياة