عن الكتاب ونوستالجيا المكتبة.. شهوة شراء الكتب في زمن الكتاب الالكتروني
ابراهيم درويش
كلنا نعرف المقولة المعروفة ‘وخير جليس في الزمان كتاب’، والكتابة عن الكتب لون خاص في الادب العربي، ومديح الكتاب والكتابة معروف في حياتنا، وعندما نريد ان نؤكد على اهمية الكتاب نستشهد بالاية الكريمة ‘اقرأ’ فالقراءة فعل يرتبط بالكتاب، وقرآننا العظيم اسمه الكتاب، واشير اليه في القرآن على انه ‘الكتاب المبين’ اكثر من مرة مع اوصاف اخرى.
وحول نسخ الكتاب قبل اباحة طباعته باستخدام المطابع الحديثة برزت صناعة النسايون (اصدر المفتي العثماني فتوى باباحة طباعة المصحف)، ومهنة النسخ والوراقة، والفن الاسلامي في جزء منها فن كتابة او خط وابداع يعمل على تحويل الحرف العربي الى زحرف، لون، مساحة، صورة فضاؤها الورقة والحجر، وسعف النخيل واحيانا العظام، و ‘الكتاب’ قبل جمعه كتب بهذه الطريقة.
ولا يزال بعض المتصوفة في تركيا او هكذا نقل لي من يعتبرون نسخ القرآن بالدواة والريشة عبادة. وعندما نتحدث عن فن الكتابة الابداعية نعود الى عبدالحميد الكاتب وابن المقفع، ونتحدث عن الجاحظ شهيد الكتاب، ونقرأ قصصا عن عالم سحري يدور حول الكتاب والكتابة والمكتبة، والملاحظ ان سحرية الكتابة تنبع من ثلاثة حروف يتمحور حولها فعل الكتابة والصناعة ويتولد منها كل لون اي انها تجمع كل ما يمت الى فعل الكتابة، والكاتب والمكتوب، وفعل التواصل، وفعل الجلوس والتحضير للكتابة، والمكان الذي يحفظ فيه الكتاب سواء كان فضاء واسعا او خزانة يحفظ فيها الكتاب كالجواهر والاحجار الكريمة، واحيانا يحفظ للزينة. والكتاب في علاقته مع الانسان، يكون عنوانا للثقافة او الجهل، للفضيلة والسلطة، فمن يحمله دون معرفة هو كالحمار يحمل اسفارا. والقصص كثيرة عمن كانوا يلوثون ثيابهم بالحبر حتى يعدو من الكتاب هناك بيت شعر يشير الى قصة رجل جاهل كان ثوبه ملوثا بالحبر حيث لفت نظره اخر ‘لا تجزعن من المداد فإنه عطر الرجال وحلية الكتاب’ فرد عليه ‘حمار في الكتابة يدعيها كدعوى آل حرب في كتاب’. ومن سمات الكتاب هو الترحال، حيث تنتقل المعرفة من كتاب الى كتاب بالبيع او النسخ او السفر المادي والمعنوي، وتتصارع الكتب بينها من خلال توارد المعاني، والكتاب مثل البضاعة يكسد ويشتهر، وشهرته او شهرة كاتبه تجعله مجالا لكي يحاول الجميع الانتساب اليه، فالتاجر الذي لا يهمه الا المال كان يعمد لنسبة اي كتاب لعالم مشهور حتى يكفل بيعه وتوفير الارباح له. وحب الكتاب هو من الايمان، وعلاقة الانسان بالكتاب قد تكون بيولوجية نسبية، فهناك من طلق حب النساء وعاش عازبا، واعتبر من العلماء العزاب، وحتى في هذه الحالة فعلاقة العالم مع ابنائه الكتب مثل علاقة الاب مع ابنائه، حب وكراهية وغضب وسرور، وفرح بالنجاح وحزن للفشل، وطلاق وهجر، وهناك حكايات عن ادباء كانوا يصنفون الكتب الى انواع من ناحية الترتيب، فمنها من يحتل المرتبة الاولى ‘القرآن’ بالنسبة للمسلمين فهو في الواجهة كي تلمحه العين اولا، وهو في تشيكلاته، وطبعاته الفاخرة وجلده النفيس، وزخرفته، العالية وخطه الذي كان كبار الخطاطين يتنافسون على صب روحهم الفنية في تشكيل حرف وبناء رؤيته البصرية دائما في الواجهة، وزينة البيت وحبة العين والروح، وفي المعنى التراتبي كانت هناك كتب للحاجة فقط، اي لليوم الاسود.
حياة في الاقبية
وهناك من الكتب ما كتب عليها منذ الولادة الموت وتدفن وهي حية حيث تقبع في الاقبية وتتحمل البرد والجوع وتقاوم العث والغبار قبل ان يحن عليها من يخرجها من عتمة الاقبية وزمن الحرمان، واليوم هناك من يقول انه عثر على كتاب قيم يعلوه الغبار في مكتبة كذا وكذا، ولكن الهجر والغضب كان يقابله الحرص على الكتاب والعمل على ان لا يقع في يد قطاع الطريق فكم من عالم سرقت كتبه وتركته بدون حبيب، وقد يضطر الاب لان يبيع ابناءه الكتب ساعة الفاقة وهو بهذا كان يفارق ابناءه. وكان كمن يبيع كتابه في سوق العبيد كي يستعبده من كان يدفع اكثر فيه في المزاد العلني. والكتاب قد يكون نقمة على كاتبه فلا يجلب اليه الا القتل- الاعدام والسجن، والتعذيب، والنفي، وكان العالم يعاقب في الماضي بمصادرة كتبه ومن منهم من صودر دواته وحبره، فالمصلح العظيم ابن تيمية عندما سجن في قلعة دمشق حرم من الدواة والحبر، ولكنه تحدى سجانيه عندما اخذ يراجع القرآن ويستلهم نوره قبل ان يموت وتخرج كل دمشق في وداعه الا اعداءه ممن وشوا به عند السلطان حيث خافوا السحل من الجماهير الحاشدة. ويصف المؤرخون عرس العالم العظيم كيف لم يطبخ الطباخون في ذلك اليوم وخرجت النساء يرمين الورود على كفنه، تسامح الشيخ الكبير في يوم فرحه مع بدعة من البدع التي حاربها. والايام المشهودة للعلماء في موتهم تحفل بها الكتب التي تقول انه خرج الف الف ومئة الف في وداع الفقيه او المحدث او الاديب، وفي حالات اخرى كان الناس يذهبون تحت جنح الظلام لوداع عالم مات وقد غضب عليه السلطان. ولا تسل عن قصص حفلات الاستقبال للكتاب التي لا تضاهيها حتى اليوم كل حملات التسويق للكتب، اقرأوا قصة استقبال ابو علي القالي في الاندلس وقارنوها مثلا بالترويج لكتب اليوم.
قوافل الكتب
ومن العلماء من كانوا يحملون كتبهم على الجمال حيث يصف المؤرخون المكتبة المتحركة على ظهور الجمال بقولهم وحمل كذا الف الف كتاب معه في رحلته. الكتاب في وجه اخر قد يكون محلا للنقمة لانه لم يجلب لصاحبه الشهرة، وقد يعاقب بالحرق في لحظة من لحظات الاسى والاحباط كما فعل اخونا المبدع ابو حيان ولكننا كنا محظوظين لانه ترك لنا المقابسات والامتاع والمؤانسة وكتبا اخرى. في قصص اخرى كان الغريم يلجأ الى تسميم الكتابة لقتل عدوه. ولا حاجة لنا للقول كم من العلماء من باع كل شيء كي يحصل على كتاب وكم قطع من الاميال والفيافي والقفار كي يظفر برؤية كتاب. ولان صاحب الكتاب هو للابدية، وصاحبه محكوم بالموت، فقدره الموت في اية لحظة، ولهذا يعزم على تخبئته احيانا في جدران البيت كما في مكتبات تمبكتو. يقاس الواحد منا بعدد ما يشتري من كتب، فللكتب مهرجانات، وللكتب مفسرون لانها تأتي احيانا بعجمة، ومن يفك حرفه يعتبر مترجما له، وللكتب برامج تلفزيونية واذاعية وافلام، ومن يحرق الكتب فإنه يعيد الانسان الى بدائيته وحيوانيته، ومن يحرق الكتب يذكر العالم بحرق الساحرات في اوروبا هذه التي تصنع وتنتج من الكتب ما لايحصى مع انها في القرون الوسيطة لم تكن تملك الكثير منها، وفي رواية ان كل الكتب التي كانت تملكها هذه القارة الواسعة في ذلك الزمن كانت تحمل على عربة واحدة، ولم تكن تتجاوز الالف كتاب، قد يكون هذا مبالغ فيه لكنه اشارة لقلة وظلمة الفكر في اوروبا.
يقلب الحياة
الكتاب يغير حياة القارئ، كثيرون منا يقولون ان هذا الكتاب غير حياتي واخر دمر حياتي، واخر فتح قلبي وعقلي، ابن سينا قال انه لم يفهم كتاب ما بعد الطبيعة لارسطو على الرغم من قراءته له اربعين مرة باعترافه الا بعد ان قرأ شرح المعلم الثاني له ـ الفارابي. ولا تغير الكتب حياة انسان واحد بل تغير العالم، والكتب كثيرة واهمها الكتب المؤسسة للاديان ـ القرآن- الذي ثور الحياة الثقافية وسقطت دول وامبراطوريات تحت تأثيره وتغيرت مجتمات وامم عندما وصلت اليها تعاليمه. كما ان لكل ثورة معاصرة كتابا ولكل تمرد ‘قرآن’ ولكل حركة ادبية او فنية كتابها الاساسي. وقديما قالوا عن احياء علوم الدين الذي حل من خلاله حجة الاسلام ابو حامد المسألة العويصة عن علاقة الحقيقة بالشريعة ‘بيع اللحية واشتر الاحيا’، واللحية هي عنوان الرجولة والوقار. الكتب قد تكون وسيلة الحروب الباردة، وغسل الادمغة تستخدمها وكالات الاستخبارات، والمخابرات الامريكية معروفة في هذا الاتجاه مع العالم العربي، بشراء كتاب ونشر كتب تخدم الرأي الامريكي، وبهذه المثابة قد يكون الكتاب عميلا مثلما يكون وطنيا، وثائرا على الاستبداد مثل كتاب الكواكبي او ثائرا على التقليد كما هي رسالة التوحيد،لمحمد عبده التي لم يكتب مثلها منذ اكثر من قرن ـ رأيي-، ويدعو للتحرير- قاسم امين- ويدعو للشك ونقض التراث كما في حالة طه حسين، ولا اريد هنا ادخل في مجالات الكتب ومحتوياتها فهو موضوع اكبر من هذه المقالة وانا مهتم بفضاء الكتاب واهميته في العصر المعلوماتي.
حرق المكتبات
كلنا نحب الكتب، ونحزن عندما نقرأ عن مأساة بغداد التي حرق المغول كتبها ورموها بدجلة الذي اصبح ماؤه اسود من الحبر الذي رمي فيه. وحزنا عندما احرق اهل بغداد الذين خرجوا في نوبة من نوبات ‘فوضى العامة والرعاع’ المكتبة الوطنية في بغداد درة المكتبات التراثية العربية والتي احتوت عصارة قلوب وعقول العلماء عبر العصور وما قدمه العلماء والمحققون العراقيون من خدمة للتراث الاسلامي والعربي. لكن الباحثين عن انتقام انتقموا من عصر صدام بحرق المكتب، وكان الاولى حرق قصوره، لكنهم ارادوا ان يتركوها للنخبة الجديدة والجنود الامريكيين كي يطأوا ارضها ببساطيرهم. واريد ان اذكر هنا ان من قصص الاطفال الجميلة التي قرأها ابناي اكثر من مرة وحفظاها ‘امينة مكتبة البصرة’ التي كتبتها ورسمت صورها جانيت وينتر وقالت انها قصة حقيقية من العراق، اسم امينة المكتبة عالية محمد بكر التي انقذت كتب المكتبة العامة في المدينة بعد ان بدأت اخبار الحرب تصل اليها وخافت ان يصل حريق الحرب لها. وهي قصة جميلة، مؤثرة للاطفال والكبار. المكتبة اذا هي الفضاء والمساحة التي تعيش فيها الكتب وهي مساكنها. والمكتبات مثل المعابد، اجمل البنايات اقيمت لها، وعندما نتحدث عن المكتبات المهمة في تراثنا العربي، نشير الى المكتبة الظاهرية، ودار الكتب المصرية والاسكندرية الجديدة اما القديمة فقصتها معروفة والجدل حول نهايتها بين اتهام المستشرقين ودفاع المسلمين، وفي الغرب المكتبة البريطانية ومكتبة الكونغرس ولكل دولة لها مكتبتها الوطنية، التي تحفظ تراث ابنائها وتحاول استيعاب ما يمكنها من تراث الانسانية، اضافة للمكتبات الخاصة للعلماء.
سرقوا المكتبات
ولعل ما حدث من كارثة وسرقة للتراث الفلسطيني، في نكبة فلسطين واهلها، ما يقطع نياط القلب، فما حدث لمكتبة العلامة عبدالله مخلص الذي كان صديقا لاحمد تيمور باشا صاحب اليراع وزعيم ميدان الكتابة، محزن فقد سرقت مع كل المكتبات الخاصة في حيفا ويافا وعكا، ونفس الامر يقال عن مكتبة خليل السكاكيني الذي مات كمدا بعد ضياع بيته في القطمون في القدس، ومكتبته العامرة بالكتب، والسكاكيني واسعاف النشاشبي ـ ابو الفضل- من الشخصيات التي لا تتكرر وهما مع مخلص من ابطالي الذين يعيدون لي دائما ذلك الزمن الجميل عندما كانت القدس عاصمة للثقافة والادب والفن، ولكنها ايام لن تعود، وهناك افلام قدمت في الفترة الاخيرة عن سرقة المكتبات الفلسطينية. وقد يكون من الكليشيه هنا ان نعيد الكلام المنمق من ان المكتبة هي عنوان رقي الامم، لكنه امر مهم ان تكون المكتبة في المدرسة والجامعة والمكتبات المتنقلة، امس كنا في حفل توزيع جوائز للمنجزين من المعلمين المسلمين في بريطانيا، وقالت الجمعية الخيرية التي دعمت الحفل ان عملها في دعم المشاريع التعليمية في العالم الاسلامي غير حياة الكثير من الاطفال، واشارت المؤسسة وهي ‘مسلم ايدز- العون الاسلامي’ ان المكتبة المتنقلة في البوسنة وهو المشروع الذي دعمته غير حياة اطفال لا زالت اثار الحرب تظلل حياتهم. في مشهد اخر لا تزال المكتبات المتنقلة على الحمير تصعد الجبال في عدد من دول امريكا اللاتينية خاصة بوليفيا وبيرو كي توصل الكتب الى القرى النائية.
اين نحفظ الكتب
حق القراءة يجب ان يكفل للجميع، وتوفير الكتاب بالاسعار المعقولة مهمة وطنية، وبناء المكتبة كفضاء يدخله كل المواطنون ويقرأون فيه فرض على الدولة، ويجب ان لا يكون مجرد عرض تمارسه زوجات الرؤساء لدعم برامج الكتاب للجميع كوسيلة للتغطية على فساد الحاكم ونخبته. وقد عرف اندرو كارنيغي رجل الاعمال الامريكي اهمية المكتبة حيث انشأ ما بين عام 1883 ـ 1929 2009 مكتبة ما بين عامة وخاصة في امريكا وعدد من الدول من بينها استراليا وكندا وبريطانيا، وقد وضع كارنيغي ما يسمى ‘شروط او صيغة كارنيجي’ والتي تقوم على انه يدعم بناء المكتبة في حال قدمت الهيئة ادلة مقنعة ان المجتمع المحلي او الجامعة بحاجة ماسة اليها، كما ان عليها ان تقدم المبنى لها، وان توفر 10 بالمئة من الميزانية السنوية لادارة المكتبة وان تقدم خدماتها مجانا للعامة. المشكلة اليوم لم تعد في المكان او البناء لكن في زيادة التعداد ‘السكاني’ للكتب حيث لم تعد المساحات المخصصة لها قادرة على استيعابها، والوسائل الجديدة التي يحاول المسؤولون فيها وخبراء المعلومات التغلب عليها من خلال حفظها على ميكروفيلم- التي لها منافعها ومضارها من ناحية تآكل الشريط بعد فترة من الزمن وقد يتم اصلاحه احيانا، وقد لجأت بعض المكتبات العامة الى طريقة معينة للتغلب على ازدحام الكتب فيها من خلال معيار عدد من يستلم الكتاب من العامة، فإن كان الكتاب شهيرا حفظ في المكتبة وان لم يكن كذلك تم التخلص منه ببيعه بسعر مخفض، وفي احيان اخرى يتم تدمير الكتاب، مما يعني حرمان الباحث من فرصة الاطلاع عليه. واصبح بالامكان حفظ كتب كهذه على الانترنت، ومعظم المكتبات العالمية في الجامعات تقوم الان بتوفير نسخ الكترونية لمحتويات مكتباتها واكثر من هذا فكتالوغات الكتب لمعظم المكتبات الجامعية في العالم متوفرة على الانترنت، وما على الباحث الان الا الدخول الى مواقعها والبحث عن الكتاب او العنوان المطلوب للتعرف على مكان وجوده في داخل المكتبة. وقد اصبح الحصول على الكتاب من المكتبات الالكترونية المجانية او بالاشتراك اسهل من البحث عن الكتاب في رفه المعين، واحيانا اكون في الجامعة واريد كتابا موجودا في المكتبة ولكن الكسل والوقت يدفعني للبحث عنه على الانترنت، وان وجد فلا يستغرق تحميل نسخة مصورة منه سوى دقيقة او دقائق، واقوم بعدها بتوثيقه.
لماذا نذهب الى المكتبة
لكن السؤال المهم لماذا اذهب لمكتبة الجامعة او المكتبة العامة، التي عادة لا تجد فيها مكانا للجلوس، فمن الاولى ان ابقى في البيت او المكتب، او حتى الذهاب الى اي مقهى واتنحى جانبا وأقرأ الصحف والكتب بنسخها الالكترونية، بل لم اعد اليوم بحاحة لشراء كتاب فابمكاني الذهاب الى اي مكتبة لبيع الكتب واجلس ان كان عندي وقت واقرأ واشتري القهوة من الكافيتريا فيها واكمل الكتاب ان شئت، هذا الامر لا يتوفر الا للقلة اما الذين يعملون فالوقت بالنسبة لهم ‘مال’ وان لم يلاحقوه يخسرون. ايا كان فالسؤال يظل ملحا لماذا نذهب للمكتبة ونصر على شراء الكتاب الجديد الذي سيصور ويوفر الكترونيا على الانترنت. هناك بعد اخر، وهو ان فضاء المكتبة في رحابته هو المجال الذي نقنع به انفسنا بجدية القراءة والبحث وهو المكان الذي نتحلل فيه من قيود الواجبات والالتزامات، وهدوء المكان يعطينا المجال للتركيز، مع ان عدة مكتبات الان حدثت مجالاتها، ولم تعد تهتم ان فتح احدهم هاتفه النقال او تحدث، فقد تبنت معظمها المدخل الذي يضع الحد الادنى من الكتب على الرفوف، ويوفر مساحات للقراءة ووسائل للراحة، كتب وكراسي جلوس وليس فقط طاولات. كما يوفر اضافة مساحة للمرطبات والقهوة والشاي، اي مقهى صغير، كل هذه تظل محفزات لنا لنذهب للمكتبة ومع ذلك يظل السؤال قائما عن سر رحلتنا اليومية او الاسبوعية للمكتبة. وهذا مرتبط بالعلاقة العاطفية او الحنين ـ نوستالجيا للمكان، فهو يظل جزءا من ذاكرتنا، كثيرون يتذكرون مدنا واماكن بمكتباتها مثلما يستحضر الشعراء المدن بروائحها. ولعل مجرد الجلوس مرة او مرات في مكتبة عامة كفيل بتذكر الايام والكتب والوجوه التي شاهدها كل منا. وطلاب البحث عندما يذهبون الى مدن لا يعرفون منها الا المكتبة، او اسواق الكتب، في القاهرة، سور الازبكية بمكتباته الـ 132 او اكثر التي تبيع الكتب المستعملة، او شارع المتبني الذي نجا من الحرب والحرق في بغداد وغيرها من الشوارع. توفر الكتاب في كل مكان من حياتنا لم ينه شهوتنا لشرائه او قراءته والحرص على امتلاكه والتردد في التخلي عنه حتى لم يعد البيت يسمح بوجوده مع انه الحي الذي يتجاوز الزمن والخالد.
كانت لي مكتبة
اختم بقصة قصيرة، كانت لي مكتبة، ليست مكتبتي بل مكتبة والدي كان فيها اكثر من الفي كتاب من مختلف الوان المعرفة على الرغم من تسيد الادب واللغة نظرا لتخصص والدي، كانت تحتل غرفتين من غرف بيتنا الصغير، ان يكون لك مكتبة بهذا الحجم قبل خمسة او ستة عقود، كان مدعاة للفخر، عشت بين الكتب اياما واياما، وسافرت للدراسة، وغبت طويلا، ودائما ما كنت اسأل عنها، بعد عشرين عاما عدت للبيت وبحثت عنها، لم اجدها، دمرت بعض كتبها خوفا من الاحتلال، وحرقت اخرى وسرقت ولم يبق منها الا مجموعة لم تحتل سوى خزانة صغيرة، فيما انقذ والدي كتبه في اللغة والنحو اما البقية…
القدس العربي