عن حيرة المثقف العربي
بشير مفتي
كأنت هنالك لحظات في التاريخ يصعب أن تُضبط فيها عقارب الساعة جيداً فتسير كما اعتادت على أن تسير عليها وأن نثق فيها، من دون أن نسائلها عن هذه الاعتيادية الطبيعية. لحظات في التاريخ لا تتوقف فيها عقارب الساعة عن الحركة بل كأنما تختل، كأنما تتوقف ثم تتحرك، تتريث قليلا لتلقط أنفاسها ثم تسرع في الجري، فلا نعرف كيف تعمل؟ ماذا تفعل؟ من وراء هذا الذي يحدث لها؟ وأين الخلل بالضبط؟ إن كان ذلك خللا بالفعل.
أتصور الأمر على هذا الشكل: المثقف العربي الذي اعتاد على وضع محدد المعالم ومؤطر الرؤية، صار الآن في حالة اختلال. يمكن وصف ذلك ايجابيا بأنها حيرة، وسلبيا بأنه عجز. يمكن قراءة ذلك على اشكال مختلفة، ولكن يمكن اختصار ذلك كله في القول إنها مرحلة جديدة، يجد المثقف العربي نفسه، بمختلف ألوانه وأطيافه وتياراته وحقول نظره واشتغاله، متورطا في اسئلة مختلفة عن تلك التي طرحها على نفسه وبيئته من قبل.
لقد كان دفاع المثقفين سابقا عن قيم الحرية والعدالة ورفض الاستبداد والدفاع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير والديموقراطية وغيرها من اللافتات التي رفعتها أجيال متعاقبة من المثقفين والمفكرين العرب، في حين أنه يعيش الآن وجها لوجه مع امتحان تلك اللحظة السحرية التي فجرت صورة من الاستبداد وفتحت صورا جديدة له، أو هي كسرت سطوة الخوف وأعطته في الآن نفسه مشروعية جديدة تسبب فيها ما حدث في ليبيا وما يحدث في سوريا، فضلاً عن صعود الاسلاميين الذين فازوا في انتخابات بلدان عدة شهدت انفجار الثورات الشعبية (مصر، تونس، المغرب). من الصعب في أوقات متقلبة كهذه أن يجد المثقف معالم طريقه، فهو كغيره يتخبط في ضباب الرؤية وصعوبة تفسيرها، وهذا لا يعني غياب التصورات والاقتراحات والاجتهادات بل الاحساس فقط بأن الأمور لم يعد يُنظر إليها بإطلاقية أو تعميمية كما كنا نفعل سابقا مع مرحلة الاستبداد حيث النقطة المشتركة واضحة في جميع البلدان العربية وهي الظلم والجور والنيل من حرية الإنسان وكرامته. أما الآن فنحن نحاول أن نتبصر بتعددية الجغرافيات والأسئلة التي تطرحها كل منطقة على حدة، بل ربما تكون هذه هي النقطة الايجابية في الوضع المتخلخل والملتبس. إذ يجب من الآن فصاعدا ألاّ نتحدث عن الاشكالات والتفسيرات نفسها، فنزج بالكل في وحدة أليمة وتراجيدية تلغي المختلف وغير المشترك بين جميع بلدان المنطقة العربية.
لست أدري هل لا يزال لتسمية “مثقف” الاشراق الذي كانت تحمله سابقا بتعدد التسميات التضخيمية، كالطليعة والنخبة وزبدة القوم وحراس القيم…الخ؟ الأكيد أنه لا يوجد مجتمع بدون نخب مثقفة تفكر وتطرح اسئلة وتحاول أن تقترح تصورات وحلولاً وصياغات جديدة، فهذا أمر طبيعي لا تخلو منه الأمم المتقدمة التي رفعت سقف نخبوية شعوبها إلى أعلى مستوى، فما بالك بمجتمعات متخلفة مقهورة منذ عقود أو قرون، فهي أحوج ما تكون ربما لمن يفتح لها مغاليق الفهم ويضعها في الصورة التي تنظر من خلالها الى نفسها فترى جمالها وقبحها في الآن نفسه.
طبيعة اللحظة التي نعيشها هي التي تدفع الى هذا التساؤل من جديد، وتضع المثقف العربي في حيرة جديدة ومقلقة. فمن جهة هناك تفاؤل كبير بتغير مدهش يحدث بسرعة، وقد أدهشنا كما أدهش العالم برمته، ومن جهة أخرى هناك عسر في التحول وضعف في قراءة ما سيأتي به الغد، فضلاً عن أخطار عنيفة وكثيرة تهدد المنطقة وتعصف بأحلام التغيير.
بين هذا وذاك يجد البعض أنفسهم مدعوين لتجذير ثقافة الحلم والأمل والدفع بمجريات اللحظة إلى أقصى ثوريتها حتى لا تتراجع إلى الوراء أو تضعف حدة الشحنة التي خلقتها من أجل تحقيق نصرها الاخير على الاستبداد المخيف الذي جثم على صدرها عقودا طويلة.