عن ” سفيتلانا ألكسييفتش” مقالات مختارة
سفيتلانا ألكسييفتش: فتنة الريبورتاج الأدبي/ صبحي حديدي
غـــــلاف الترجــــمة الفرنســـية (منشـــورات Actes sud، باريس 2013) لـ«نهاية الرجل الأحمر»، رواية البيلاروسية سفيتلانا ألكسييفتش، حاملة نوبل الآداب للعام 2015؛ يحمل صورة فوتوغرافية، بعدسة أندريه ليانكفيتش، بالغة الذكاء، عالية التأثير، غنيّة التفاصيل: امرأة، في أواخر العمر، تخطو على نحو أقرب إلى المشية العسكرية، في ساحة فسيحة يجللها ضباب شفيف، ترتدي ثياباً حمراء بالكامل (من السترة والتنورة، إلى القبعة والجوربين)، تتأبط حقيبة يد نسائية حمراء، كُتبت عليها المختصرات الشهيرة CCCP؛ وفوق هذا وذاك، ترفع باليمنى علم الاتحاد السوفييتي الأحمر الشهير، ذا المطرقة والمنجل، وتشير باليسرى إلى الأمام، حاملة باقة ورود… حمراء، بالطبع!
هذه السيدة هي نموذج «الإنسان السوفييتي»، أو على وجه الدقة: الـ Homo Sovieticus الذي جهدت ألكسييفتش إلى إعادة التقاط أصواته، كما هي مبعثرة في عشرات من الشخوص، رجالاً ونساء، صنعوا موضوعات الكتاب، ورسموا صورة هذا الكون، وربما الأكوان، في حقبة ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي القديم: هنالك المنشق البوهيمي والآخر الليبرالي والثالث الحائر، وهنالك الشيوعي التقليدي، والآخر المتجدد، والثالث الضائع… ليست هذه مختصرات تاريخ مضى وانقضى، ولا هي سِيَر تسرد حكاية بلد وأمّة وبشر أفراد؛ بل هي، قبلئذ وأساساً، أنماط متغايرة من السرد التوثيقي، بل الوثائقي، الذي يحاذي التاريخ من دون أن يغادر الصحافة، ويحكي ما هو تسجيلي من دون أن يفارق النزوع المركزي الذي حكم كتابات ألكسييفتش طيلة عقود: الريبورتاج الأدبي، أو كتابة تاريخ المأساة الإنسانية عبر سرد أدبي يتوخى السجلّ والوثيقة، كما نظّر له الناقد السوفييتي (البيلاروسي) أليس أداموفيتش؛ أستاذ ألكسييفتش الذي أنار دروب هذه الأسلوبية المنفردة.
وفي تعريف هذا «الإنسان السوفييتي»، وعلى سبيل التعقيب على كتابها بشأنه، تقول ألكسييفتش: «أعتقد أنه إنسان معقد. وأقول على الفور إنه أصابني بالخوف أثناء اشتغالي على الموضوع. ذلك لأنني عشت، وما أزال أعيش، معه. ويحدث أنني أُعجب به، لأنه عرف كيف يكون عظيماً. لعلّ هذا هو الشيء الوحيد الذي نجحت فيه السلطة السوفييتية: أي خلق نمط جديد من الإنسان. تلك محاولة نحو حضارة بديلة انتهت إلى حمام دم. وهذا الإنسان الجديد ولد من رغبة في حلم. كبر في مناخ من العنف، فمات مثلما قَتَل. وإنه أهلي، وإنه أنا. لم أستطع التحرر منه سريعاً، رغم أنني كتبت بنفسي المؤلفات التي تقتفي درب هذا الإنسان السوفييتي. إنه، إذاً، إنسان بالغ التعقيد. خليط من إنسان مثالي وإنسان شوّهه النظام التوتاليتاري».
كتابها الآخر، الذي صدر في ترجمته الفرنسية عن الدار ذاتها، نُشر تحت عنوان «أعمال»، وضمّ ثلاث روايات: «ليس للحرب وجه امرأة»، عن النساء خلال الحرب ضدّ ألمانيا النازية؛ و»آخر الشهود»، عن أولئك الذين كانوا مجرّد أطفال خلال الحرب؛ و»تضرّع»، عن ضحايا كارثة شيرنوبيل النووية. «إنني أنظر إلى العالم بعينَيْ أديبة، وليس مؤرّخة»، تقول ألكسييفتش عن كتابة تقصّ من دون أن تتلهف على فتح ملفات التاريخ؛ وتنبش باطن الذاكرة، البشرية الحية مثل تلك المنطوية المدوّنة، بحثاً عن تواريخ الألم، وسرديات العذاب، وبواطن الكارثة. مفهوم الصوت، الذي امتدحته أكاديمية نوبل في حيثيات منح الجائزة، لا يشكّل نسيج السرد في مستوياته التقنية، من حيث التعدد المألوف الذي صار يُعرف تحت مسمّى الـ»بوليفونية»، فحسب؛ بل هو، أيضاً، خيار عميق ضارب الجذور، لم يكن للكاتبة غنى عنه خلال حفرها الأركيولوجي في طبقات ذاكرة تعددية بالضرورة، متغايرة تارة، متطابقة طوراً، غامضة غالباً، مكشوفة إلى درجة فاضحة جارحة أحياناً.
وفي بحثها، المحموم، الحارّ، والقَلِق أبداً، كما يتوجب القول ـ عن مسالك العثور على «حبيبات» تلك السرديات، حسب تعبير ألكسييفتش؛ كان الروائي الروسي الكبير دستويفسكي هادياً لها، ومحرّضاً، من خلال سؤاله الكبير الشاقّ: «كم إنسان يوجد داخل أيّ إنسان واحد؟».
وبذلك فإنّ «بناء الإنسان. بناء ما يقوّي روحه، وما يحدّثه عن الأخطار المحيقة بتلك الروح»، هو أحد أبرز مهامّ الكاتب، كما صرّحت ألكسييفتش مراراً. وليس بغير دلالة خاصة، وكبيرة، أنّ التزامها بأداء هذه المهمة، تحديداً، قد جلب عليها سخط نظام ألكسندر لوكاشينكو؛ لأنّ جميع مؤلفاتها ممنوعة من النشر في بلدها الأمّ، بيلاروسيا؛ وحين تسمح السلطات بإدخال الطبعات الروسية من أعمالها، من باب مغازلة الاتحاد الأوروبي، فإنّ سعر النسخة الواحدة يكون خيالياً بالقياس إلى الدخل المتوسط المتواضع في البلد.
أليس في هذا التفصيل، أيضاً، فتنة تسجيلية خاصة؟
القدس العربي
سفيتلانا ألكسيفيتش… فلأتذكر هذا اليوم ما حييت/ ترجمة وتقديم: مازن معروف
لم يرض كثر عن فوز البيلاروسية سفيتلانا أليكسيفيتش بجائزة «نوبل للآداب» هذه السنة. اعتبروا أن في منحها الجائزة رسالة سياسية فجّة وانحياز مسبق. قيل كذلك إن اسم ألكسيفيتش نشط بقوة على لائحة الانتظار في الأكاديمية السويدية في السنوات الأخيرة.
وإن فوزها، الذي لم يكن إلا مسألة وقت، هو بحد ذاته فضيحة للأكاديمية على غرار منح الجائزة لوينستون تشرشل (1953) بعد توماس إليوت وبرتراند راسل، أو الإسرائيلي شيموئيل عجنون (1966) أو السويديين، عضوي الأكاديمية آنذاك، إيفند جونسون وهاري مارتنسون (1974). قد تكون كلها أسئلة مشروعة، إلا أن أياً منها لا يحسم الجدال أبداً، ولا يوصلنا إلى أي اعتبار مطلق قد يرضي الجميع في ما يخص منح الجائزة لأليكسيفيتش. لكن، إذا كانت ثمة رسالة أرادت الأكاديمية قولها هنا، فهو أن الجائزة لم تعد حكراً على كتّاب الشعر والرواية والقصة القصيرة، وأن الباب الذي بقي موصداً في وجه كتّاب الـ «نون فيكشن» لعقود، فتح اليوم على مصراعيه. أما إذا كان من أمر محتوم سياسياً في المسألة، فهو أن بولدوزر «نوبل» هذه السنة عبَّد الطريق ليس أمام مؤلفات ألكسيفيتش، بل أمام ما تبوح به هذه المؤلفات للعالم.
فلأتذكر هذا اليوم ما حييت
في قصيدة «جنّاز» للشاعر البيلاروسي أناتولي فيرتينسكي، يُسمع صوتُ كورس أطفال عبر الحقل، حيث يستلقي جنود موتى. الأطفال الذين لم يولدوا بعد يزعقون فوق كل قبر شائع ويبكون. هل يظل الطفل بعدما يشهد أهوال الحروب، طفلاً؟ من يُرجِع إليه طفولته؟ دوستويفسكي قاس مرة السعادة الكليّة بتعاسة طفل واحد. وآلاف الأطفال كانوا على هذه الحال بين عامي 1941 و1945. ما الذي سيذكره هؤلاء؟ أي شيء سيعيدون روايته؟ لكن عليهم أن يعيدوا رواية كل شيء. لأن القذائف، وإلى يومنا هذا، لا تزال تنهمر في بعض المدن، الرصاص يئز، والصواريخ تحيل منازل فتاتاً وأنقاضاً، وتضرم النار في سرير طفل ما. وفي يومنا هذا، لا يزال هناك من يريد أن يشعل حرباً على نطاق واسع، هيروشيما كونية، حرب يتبخر الأطفال بلهبها الذري، كما لو أنهم قطرات ماء، يذبلون كأزهار مريعة. سنسأل، أي بطولة تكمن في أن يختبر طفل عمره خمسة أو عشرة أو إثني عشر عاماً، الحرب؟ ما الذي يمكن أن يدركه الأطفال، ما الذي يمكن أن يروه، أو أن يتذكروه؟ الكثير!
وأي شيء يذكرونه عن أمهاتهم؟ عن آبائهم؟ غير موتهم: «زر من معطف أمي بقي فوق قطع من الفحم الحجري. أما في الفرن فكان هناك رغيفا خبز صغيران ساخنان» (آنا توشيتسكايا – 5 سنوات). «بينما كانت كلاب الـ «جيرمان شيبيرد» تمزق أبي إرباً، أخذ يصيح: خذوا ابني بعيداً… خذوا ابني بعيداً كي لا يرى هذا المنظر». (ساشا خفالاي- 7 سنوات). أكثر من ذلك، فإن بإمكانهم إخبارنا كيف قضوا جوعاً وبرداً. كيف راحوا يركضون وصولاً إلى الجبهة. وكيف قام أناس غرباء برعايتهم وتبنّيهم. وكيف، حتى هذه اللحظة، من الصعوبة بمكان سؤالهم عن أمهم. اليوم، هم آخر شهود تلك الأيام المفجعة. وهم آخر من بقي من عائلاتهم.
طوبى لافتقارنا وسائل دفاع في وجه ذاكرتنا. من نحن دونها؟ إنسان بلا ذاكرة سيكون قادراً فقط على اقتراف الآثام، لا شيء سوى الآثام. كجواب على السؤال التالي: «من إذن بطل هذا الكتاب؟» أقول الطفولة، الطفولة التي أُضرِمت فيها النيران، التي أُطلِقَ النار عليها، التي قضت نحبها بالقنابل، بالرصاص، بالجوع، بالخوف وبغياب الأب. وللتاريخ، فإن ستة وعشرين ألفاً وتسعماية طفل نشأوا أيتاماً في بيوت في بيلاروسيا عام 1945. وفي صورة أخرى، فإن ثلاثة عشر مليون طفل ماتوا خلال الحرب العالمية الثانية.
من الذي يمكنه أن يحدد اليوم كم من أولئك الأطفال كانوا روساً، بيلاروس، بولنديين أو فرنسيين. لقد مات هؤلاء الأطفال، وهم مواطنو هذا العالم.
كان خائفاً من أن ينظر حواليه
(زينة بلكيفيتش، 5 سنوات. عاملة. تعيش في برست)
بابا وماما ظنّا بأننا نيام. لكنني كنت ممددة بجانب أختي الصغيرة أتظاهر بأنني غفلانة. رأيت بابا يقبّل ماما. قبّل وجهها، ويديها. وأنا تفاجأت. لم يحدث من قبل أن قبّل بابا ماما إلى هذه الدرجة. ثم خرجا إلى الفناء. فهرعت إلى النافذة. ماما كانت تحيط بعنق بابا ولم تشأ أن تدعه يغادر. بابا فسخها عنه وراح يركض. لكنها لحقت به، ومجدداً، لم تكن تريده أن يذهب وكانت تصرخ. ثم بدأت أنا أصرخ «بابا». أختي الصغيرة وأخي فاسيا استيقظا. أختي الصغيرة رأتني أبكي وصرخت بدورها «بابا». ركضنا إلى الخارج. كلنا. وحتى وصولنا رواق المنزل، لم يكن على شفاهنا إلا «بابا». رآنا أبي، لا أزال أتذكر. غطى وجهه بيديه وغادر. حتى أنه ركض. كان خائفاً من أن ينظر حواليه.
شعاع الشمس على وجهي كان دافئاً جداً حتى أنني إلى الآن غير مصدِّقة أن أبي غادرنا إلى الحرب في ذلك الصباح. كنت صغيرة جداً، لكن أخال أنني كنت مدركة بأنها المرة الأخيرة التي أراه فيها. ما جعلني أقرن الأمر في ذهني بأن الحرب هي عندما لا يكون والدك في المنزل.
بعد ذلك أتذكر كيف كانت أمي ممددة على مقربة من الطريق السريع وذراعاها ممدودتان. لفّها الجنود برداء واق من المطر ودُفنت في ذلك المكان. «كنا نصرخ طالبين منهم ألا يدفنوها…».
طلب منها أن تنهض
(تمارا فلوروفا (ثلاث سنوات). مهندسة. تعيش في كيبيشيف)
يقال إن الجنود عندما عثروا عليّ كنت بجانب أمي المتوفاة. كنت أبكي وأطلب منها أن تنهض. كان ذلك عند إحدى محطات القطار في ضواحي مينسك. وضعني الجنود على متن قطار متجه شرقاً، ناقلين إياي أبعد وأبعد عن ساحات الحرب. وهكذا، انتهى بي المطاف وسط أناس آخرين في كفالينسك. هناك، تبنّاني رجل وامرأته، من آل شيركاسوف. أصبحا والديّ. أنا لا أعرف من يكون والداي الحقيقيان. لا صور لدي، ولا حتى ذكريات. لا أعرف أي نوع من الأمهات كانت ماما أو أي نوع من الآباء كان بابا. لا أتذكر. لقد كنت صغيرة جداً.
أحيا، وشعور يخامرني بأني ولدت من رحم الحرب. فأنا لا أتذكر أي شيء من طفولتي سواها…
لو أن واحداً من ولدَينا الصبيَّين ينجو
(ساشا كافروس (عشر سنوات). يعمل في الفيلولوجيا. يعيش في مينسك)
كنت في المدرسة. خرجنا إلى الملعب خلال فترة الاستراحة، وكنا كالمعتاد نلهو عندما راحت طائرات الفاشيين تلقي القنابل على قريتنا. كنا على علم بأن ثمة حرباً في إسبانيا، وأُخبِرنا عن مصير الأطفال هناك. أما الآن فكانت القنابل تُحلّق صوبنا.
كتيبة الـ «أس أس» كانت أول من دفق بأعداد كبيرة إلى قريتنا بروسي، في إقليم ميادل. فتحوا النار. قتلوا جميع الكلاب والقطط قبل أن يبدأوا بسؤال الناس عن مكان تواجد الناشطين (…) لكن أحداً من سكان القرية لم يفش باسم أبي.
أتذكر تلك الواقعة عندما بدأوا بمطاردة دجاجاتنا. ألقى الجنود القبض على الدجاجات، وراحوا يدوّمون بها، ثم كبسوا على أعناقها إلى أن هوت على الأرض. خيل لي أن دجاجاتنا عندما صرخت كان لها أصوات بشر. كذلك الأمر بالنسبة إلى القطط والكلاب عندما أطلقوا النار عليها. كان الأمر مريعاً بالنسبة لي. لم أشاهد موتاً من قبل. بدأوا بإحراق قريتنا عام 1943. كنا منشغلين باستخراج البطاطا من الأرض في ذلك اليوم. جارنا فازيلي، والذي قاتل في الحرب العالمية الأولى ويعرف الألمانية قال: «سأطلب من الألمان ألا يحرقوا قريتنا». لكنه عندما ذهب إليهم أحرقوه هو أيضاً.
أين كان بمقدورنا أن نذهب؟ اصطحبنا والدي إلى أفراد المقاومة في غابات كوزيان-سكاي. التقينا هناك بأناس قدموا من قرى أخرى أحرقت أيضاً. قالوا لنا إن الألمان قد تقدموا وإنهم سرعان ما سوف يصلون إلينا. تسلقنا ثم اختبأنا في جحر. أنا، وأخي فولوديا، أمي ولوبا الصغيرة وبابا. بابا كانت معه رمانة يدوية وقال إنه إذا ما رصدنا الألمان فسينزع الإبرة (…) أنا وأخي، كل منا أخرج حزامه من بنطاله. وصنعنا أنشوطتين لشنق أنفسنا بهما، ثم لففنا الحزامين حول رقبتينا. قبَّلتنا ماما. سمعتها تقول لبابا: «لو أن واحداً من ولدينا ينجو»، وبابا قال «دعيهما يركضان. ما زالا صغيرين وقد ينجوان». لكنني أشفقت على ماما فلم أبرح مكاني.
سمعنا كلاباً تنبح، وسمعنا كلمات غريبة تنمُّ عن أوامر، سمعنا إطلاق نار. غابتنا تلك، من النوع الذي تجد فيه أشجاراً أسقطتها الرياح. أشجار تساقطت فوق بعضها البعض، الرؤية معدومة على مسافة العشرة أمتار. كان ذلك قريباً للغاية، لكننا بعد ذلك سمعنا أصواتاً بعيدة للغاية. وعندما هدأ كل شيء، لم تستطع أمي النهوض. في المساء التقينا بأفراد المقاومة. كانوا يعرفون أبي. كنا قد مشينا لبعض الوقت، ونشعر بالجوع. أتذكر أننا كنا نسير عندما سألني أحد المقاومين، «ما الذي ترغب في إيجاده تحت الصنوبرة؟ حلوى، بسكويت أم قطعاً صغيرة من الخبز؟» فأجبته «بل حفنة طلقات». المقاومون ظلوا يتذكرون هذه الحادثة لوقت طويل.
أتذكر بعد انتهاء الحرب، كان لدينا أستاذ قراءة واحد في القرية، وأن أول كتاب وقعت عليه يدي وبدأتُ قراءته كان عبارة عن مجموعة من تمارين الحساب…
حبيبتي، فلتتذكر هذا اليوم ما حييت
(آنيا كورزون. سنتان. اختصاصية في حيوانات المزارع. تعيش في فايتبسك)
أتذكر أنه كان التاسع من أيار (مايو) 1945. النساء هرعن إلى روضتنا، «إنه النصر يا أطفال». أخذن يقبِّلننا جميعاً. ثم شغَّلنَ المذياع. كان الجميع مصغياً. نحن الصغار لم نستطع فهم كلمة واحدة مما قيل، لكننا حدسنا أن ثمة سعادة ما آتية من هناك، من فوق، من أسطوانة المذياع السوداء. البالغون رفعوا واحداً منا بأذرعتهم. وآخر تمكن من أن يتسلّق بنفسه. تسلقنا واحداً فوق الآخر. الشخص الثالث أو الرابع فقط استطاع الوصول إلى الأسطوانة السوداء وقبَّلها. ثم بدَّلنا. الجميع أراد أن يُقبِّل كلمة «نصر».
في ضواحي المدينة، قدمت التحية العسكرية عند المساء. فتحت ماما النافذة وكانت تبكي. قالت: «حبيبتي، عليك أن تتذكري هذا اليوم ما حييتِ». لكنني كنت خائفة فالسماء كانت لا تزال حمراء. وعندما عاد أبي من الجبهة كنت أيضاً خائفة منه. أعطاني قطعة حلوى قائلاً: «قولي بابا…». أما أنا فأخذت الحلوى، خبأتها تحت الطاولة، وقلت: «عمو…».
من كتاب «آخر الشهود:
مئة تهويدة غير طفولية» (1985)
الأخبار
كيف قلبت سفيتلانا ألكسييفتش معايير نوبل الأدب/ فخري صالح
يمكن القول أن نوبل للآداب هذا العام لم تثر الكثير من الضجيج أو المديح أو الاعتراض أو الاستهجان. فعلى رغم صعود اسم سفيتلانا ألكسييفتش في دائرة المراهنات والتكهنات قبل أيام من فوزها، فإن ردود الفعل كانت فاترة بعده. ولو قارنا ردود فعل الصحافة الثقافية في العالم، ومن ضمنه العالم العربي، على حدث الإعلان عن منح نوبل للآداب خلال السنوات السابقة، بردود الفعل هذا العام على منح الجائزة للكاتبة البيلاروسية، فسنجدها هذا العام خجولة، أو متسائلة عن ذهاب أكبر جائزة عالمية تمنح للأدب إلى كاتب لا يكتب الرواية، أو الشعر، أو المسرح.
لقد ذهبت الجائزة، التي يحلم بها معظم كتّاب العالم، إن لم نقل كلّهم، إلى صحافية تقوم بتسجيل شهادات المعذبين ثم تعيد كتابتها في صيغة تجمع إلى «التعددية الصوتيّة»، التي نوّهت بها لجنة نوبل للآداب، التعاطف والدقة والاقتراب الشديد ممن تنقل الكاتبة شهاداتهم، والقسوةَ في وصف العذاب الإنساني والمعاناة المريرة. لا شك في أن ألكسييفتش كاتبة جسورة في مواقفها (وقد سجنت في وطنها واضطرت إلى الذهاب إلى المنفى سنوات عدة)، وفي صيغة تعبيرها عن الذين قابلتهم وأعطتهم صوتاً ليُسمَعوا وسط ضجيج الأصوات العالية للسياسيين وصانعي القرار الذين يخفون الحقيقة أو يشوهونها، كانسين تحت البساط تعاسات وآلاماً تُعمِل فيها الكاتبة البيلاروسية مبضعها.
سبب خفوت الأصوات، في الحديث عن عمل ألكسييفتش، يعود إلى أسباب عديدة يقع على رأسها أن عملها لم يُلق عليه الضوء في صورة كافية خارج بلادها (إذا استثنينا، كما تقول التقارير الصحافية، اللغة السويدية التي حظيت الكاتبة الفائزة باهتمام أهلها، فأصبحت أعمالها حاضرة بكثافة في المكتبة السويدية).
لكن السبـــــب الأهم، من وجهــــة نظري، يعود إلى جنــــوح جائزة نوبل للآداب هذا العام عن التشديد الوسواسيّ علـــى ضرورة منح المكافأة للخيال، لفن خلــــق واقعاً مجازياً أو استعارياً، مـــوازياً للواقع، والذهاب مباشرةً لمكافأة الواقع الذي يبدو في أحيان كثيرة أغرب من الخيال وأكثر وقعاً وتأثيراً وصدماً. لقد تجرأت اللجنة، ربما بتأثير من سكرتيرتها الجديدة سارة دانيوس، على تجاوز إرث يعود إلى عقود من عمر الجائزة لا تكافئ سوى الخيال.
صحيح أن نوبل للآداب قد أعطيت عام 1953 لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشيرشل، عن مجمل كتاباته مع ذكر خاص لمجلداته الستة عن «الحرب العالمية الثانية»، لكن هذا الحدث لم يتكرر مع كاتب آخر، على حد علمي، منذ ذلك الحين.
أما نوبل 2015، فتوجهت مباشرة لمكافأة الجرأة في التعبير عن الواقع، والعمــــل التوثيقي، وما يسمى الصحافة الجديدة التي تمزج بين التغطية الصحافية والأسلوب الأدبي، والمزج بيــــن كـــلام شهود الواقع وحكمة الأعمال الإبداعية التي كثيراً ما تستشهد بها ألكسييفتش لتؤكد لقرائها أن الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال لا تكاد تُرى أو تلحظ. يشهد على ذلك عملاها المركزيان «أصوات من تشيرنوبل: التـــاريخ الشفوي لكارثة نووية»، و«أبناء الزنك: أصوات سوفياتية من حرب منسية» (الذي تتـــناول فيه حرب الاتحاد السوفياتي السابق في أفغانستان ومـــعاناة الجنود السوفيات في تلك الحرب وشهاداتهم المنسيّة عليها)، إضافة إلى أعمالها الأخرى التي تتناول شهادات عن الحرب العالمية الثانية وسقــوط الاتحاد السوفياتي، حيث تصــــوّر الكاتبة عمق المأساة البشرية التي تتسبب بها الحروب وسباق التسلّح وجنون الإمبراطوريات وعنفها الذي يفوق الخيال ويتخطّى حدوده.
رغبــــت لجنـــة نوبل للآداب في مكافــــأة ما يسمــى «التاريخ الشفوي» في أعماـــــــل الكتاب والمتخصصين في ذلك الشكل من أشكال الكتابة منذ سنوات. ومــــن تابع النقاشات التي دارت منـــــذ مطلع القرن الحالي حول المســــألة، سيدرك أن اللجنة رغبت مراراً، وفق التسريبات أو التكهنات التي صدرت حينها، في منح الجائزة للكاتب البولندي ريشار كابوتشينسكي، الذي يشبه عمله عمل ألكسييفتش، ولربما يكون واحداً من الذين أثروا فيها وفي عملها.
لكن وفاة كابوتشينسكي عام 2007 جعلت اللجنة تتريّث، ربما لتجد كاتباً من عيار الكاتبة البيلاروسية يحقق شروط نوبل في إنجاز وصف للواقع، وتاريخ شفوي للحروب ومعذبيها، لتمنحه الجائزة. وعلينا أن نذكر هنا أن ألكسييفتش قد فازت عام 2011 بجائزة ريشار كابوتشينسكي للتحقيق الصحافي، ما يؤكد أن لجنة نوبل للآداب قد تكون تنبّهت إلى خليفة الكاتب البولندي الراحل الذي يمكن أن تتوِّجه بالجائزة العالمية الكبيرة.
الحياة
نساء نوبل/ محمد حجيري
غداة فوز البيلاروسية سفيتلانا أليكسيفيتش بجائزة نوبل للآداب، ترددت في الكتابة عنها، تفاديت الأمر بسبب شح أخبارها أولاً، فضلا عن انها غير مترجمة الى العربية البته. قلت سأكتب عن “نساء نوبل”، ربما أقدم جديداً في هذا المجال على الرغم من صدور مجموعة كتب عن الفكرة منها اثنان بالعربية.
والحال أنه منذ انتهاء الحرب الباردة العام 1991، لوحظ ازدياد عدد الفائزات بالجائزة نسبياً، فعلى مدى 90 عاما (1901 – 1991) لم تفز إلا ست نساء، ويثرثر بعض أصحاب عقلية المؤامرة أن معظمهن “يهوديات”، ومنذ ما بعد الحرب الباردة فازت بها 8 نساء، خمس روائيات وهن: الجنوب افريقية نادين غورديمير، والأميركية توني موريسون، والنمساوية إلفريدي يلينيك، والبريطانية دوريس ليسنغ، والرومانية – الألمانية هرتا مولر، الى جانب الشاعرة البولندية فيسوافا شيمبورسكا والقصصية الكندية أليس مونرو، والآن الصحافية والكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسيفيتش. ومع ذلك بقي رقم الفائزات ضئيلا، اذ لا يشكلن سوى 11 في المئة من مجموع الفائزين الرجال.
والملاحظ أيضا، واللافت ان الكثير من الفائزات بل معظمهن دخلن في دائرة النسيان، وربما لا نجد أي كتاب لهن في المكتبات وهن خارج التداول حاليا، من يتذكر النوبلية الأولى سلمى لاجيرلوف، وهي من الجنسية السويدية، وقد حازت الجائزة العام 1909، وهي بحسب كتاب “نساء نوبل” لخالد غازي، أصيبت منذ كانت في التاسعة من عمرها بشلل في الساقين أقعدها عن مزاولة أية حركة ودفعها إلى الشعور المضني بالوحدة والعجز وكانت عضوا في لجنة تحكيم الجائزة. ومن يعرف الإيطالية غراتسيا داليدا، والنرويجية سيغريد أندسيت، والأميركية بيرل بك، والألمانية نيللي ساخس… ربما تكون الشاعرة التشيلية غابرييلا ميسترال معروفة نسبيا من بين النوبليات القديمات وقد ترجمت بعض قصائدها الى العربية، كانت في زمنها لامعة، ونالت نوبل 1945 وفي أيام عزها كان بابلو نيرودا الشاعر التشيلي الذي حاز أيضاً جائزة نوبل أحد تلاميذها. كانت غابرييلا معلمة فقيرة غابت عن احتفال بنيلها إحدى الجوائز لأنها لا تملك ثوباً لائقاً لتلك الحفلة.
حتى الفائزات حديثا بنوبل، خلال العقدين الماضين، نكاد ننسى كتبهن أو اسماءهن، من الفريدة يلينيك الى هرتا مولر، ربما لأن الميديا الأدبية لها سر ما لدى القارئ، يجعل التركية أليف شافاق حاضرة في الوجدان أكثر من غيرها، والأمر نفسه مع أميلي نوتومب وآني ارنو… وعلى هذا نجد أن نوبل للآداب لم تساهم بقوة في تكريس أديبات نوبل، لم تصنع منهن آغاثا كريستي او جاين أوستن أو حتى ايزابيل الليندي، وحتى في ما يخص الرجال، هناك أسماء كثيرة من حملة نوبل دخلت في دائرة النسيان، وفي المقابل هناك ادباء أصبحوا أيقونات بلا جوائز…
قد تكون الأميركية توني موريسون الأكثر حضورا بين النوبليات، وهي التي عانت التمييز ضد السود وعاشت، كما أبطالها، في ظل المناخات الكئيبة والمفتقرة إلى التوازن وقد كرمها البيت الأبيض ومنحها الرئيس باراك أوباما أرفع وسام مدني، فيما وصف بيان للبيت الأبيض توني موريسون بأنها “من مشاهير الأدب وأعلام الرواية الأميركية”. والمشترك بين الفائزات بنوبل أن الكثير من النقاد يركزون على حيواتهن المأسوية والتراجيدية، سواء في الطفولة او المراهقة وحتى علاقتهن بالرجال، فهن اليتيمات بلا أب، وهن اللواتي تعرضن للتمييز العنصري او الاجتماعي، وهن المصابات بعاهات مزمنة، وهن كذا وكذا، مع التذكير هنا ان معظم الكاتبات العالميات أتين من المأساة وليس من الترف، والكاتبات الشهيرات اللواتي لم ينلن نوبل أكثر مأسوية من اللواتي فزن بها، من الشاعرة سليفيا بلاث الى الروائية فرجيينا وولف والروائية جين أوستن… الكتابة “المشرقطة” غالبا ما تأتي من البؤس وليس من الرفاهية…
بخصوص العالم العربي الذي لم يفز بنوبل للآداب إلا مرة واحدة، كانت من نصيب المصري نجيب نحفوظ، فقد رشحت منه للجائزة، الجزائرية الراحلة آسيا جبار التي تكتب بالفرنسية، والناشطة والكاتبة المصرية نوال السعداوي المدافعة بشراسة عن حقوق المرأة في العالم العربي، الذي بقي على طريقة “شمّ ولا تذق”، بمعنى ان لديه الكثير من الأسماء للفوز بالجائزة ولكنه دائما يصاب بخيبة أمل…
على هامش الكتابة عن نساء نوبل، نقول ان الاحكام الاعتباطية سريعا ما قيلت في حق البلاروسية، لمجرد انها صحافية، استسهل الصغير والكبير الحديث عنها، من دون قراءة كتبها، الذين مدحوها واثنوا عليها لم يقرأوها والذين هاجموها لم يقرأوها، في المقاطع القليلة التي ترجمت الى العربية بعد فوزها، يبدو انها جديرة بالقراءة، ومهنة الصحافة ليست اكثر من كليشيه للنقد المتسرع ضدها.
المدن