صفحات الثقافة

“مَنْ لا دمشقَ له لا شامَ له”!


نادر رنتيسي

أسيرُ إليْكِ، لا تاريخَ أسودَ في كفِّي، ولا جغرافيا ضيِّقَة على كتفي، وحيدا إلاَّ من حبِّ امرَأةٍ لها قلبُ بلَدٍ، وقوام أُمٍّ شالها لا سماءَ تُطوِّقُ خفقانَهُ. ما تَعِبْتُ من المشيِ الطويلِ، ولا أصابَ جسَدي وَهْنُ الرجالِ العابرين..؛ شوقُ “القادِمِ من مدائِنِ الريح” في روحي إلى ذراعيكِ أقبِّلهما جداراً، جدارا..، فحبُّ الديار يا شامُ “شغَفْنَ قلبي”، كما حبُّ مَنْ سكَنَ الديارَ!

هُنا أنْتِ؛ مُذْ لم يكُنْ هناكَ شيءٌ، فـ “عقرُ دارِ الحَياةِ الدُّنيا في الشَّامِ”..؛ هُنا كانَ أول الشِّعرِ، والقافية الميميَّةُ، وهُنا اكتفيتُ بشيءٍ من الحياةِ، فنِمْتُ دافئاً بدونِ غطاء، وشربتُ الماءَ من النهر الذي لا يلتوي جريانه، وأكَلْتُ من مائدة المحبَّةِ غصْناً أخضرَ شفاني من عشرين بلدا..؛ فهُنا السماءُ أقرب، والحبُّ لا يجرحُ أطرافَ الروحِ بالنار، فالنساءُ من حَليبٍ وعَسَلٍ، والغناءُ لا يُبكي، والشَّجَرُ يسترُ العشاقَ ومن يَحْمِلُ ورقَةً تكفي رواية التاريخ كله..؛ فهنا المَجْدُ يا حبيبتي لا يَغيبُ، ولا يجلسُ كسيحاً على رفٍّ زُجاجيٍّ في المَتْحَفِ!

هُنا أيضاً حدَثَت الزلازِلُ والفِتَنُ، وطلعَ قرنُ الشيطان منذُ أربَعينَ عاماً، فتوارى المغنِّي عن الليل، وحكَمَتِ الخوذَةُ رأسَ الشاعِرِ، وصارَ مسيرُ الناس إلى الوراء، والخوفُ شعورٌ لا يعني بالضرورَةِ أنَّ الخطرَ سيفٌ..؛ فهنا الناسُ تخافُ الورقة والقلم و”شرَّ” اللسان حينَ يُخالفُ جدران “المكتب الثاني”. القتلُ الآنَ مهمَّةٌ يوميَّةٌ للرصاص، وخبرٌ يتسم بالجدة دائما، لكنَّ الموتَ سيتأخَّرُ قذيفة أخرى يا شام..؛ حتى تدقَّ الأيادي الحمراء أبوابَ “دمشق”!

تأخذني “الشام” على كتفها لأنام؛ أودُّ لو أستطيع، ولا يُعاتبني صوتُ المغنِّي: “أينامُ الليلَ من ذبحوا بلاده”، فهنا لي امرأةٌ حزينةٌ الآن..، تسمَعُ لحْنَ الموتِ، وتغنِّي في الطريق إليه، وتبكي..، وحين تبكي دمشقُ فلا يأتي من بعد بكائها المطر. هُنا البكاءُ كلامٌ سرِّيٌّ إلى السماء فـ “النصر صبر ساعة”، وسيبكي الخاسرونَ امرأةً لم يصونوها كالرجال فـ”مَنْ لا دمشقَ له، لا شام له”!

كعروس ملّت الخدر..؛ ستفيق “الشام” عمّا قريب من نومها، وأكشفُ “سري المعلن”: امرأتي “شامية” القلبِ واللسان، وحبِّي نزاريٌّ مشتقٌّ من لغة الياسمين، وقلبي مؤمنٌ يخفقُ بتراتيلِ السماوات في الجامع الأموي، ويقتربُ أكثر من الله، فأقصر طريق عبَرْتُه إلى السماء كانَ مِنْ “باب توما”، وجسدي قاحلٌ يشتهي تفاصيلَها..؛ فها هنا “شامة” قربَ الفم تماماً..أشتريها بدمي!

في “الشام” سأكونُ غداً، فعمَّا قريبٍ سينتهي حكمُ الغابَةِ، ويتغيَّرُ طعمُ الهواءِ ولونه ويصيرُ ملائما لقول سليم المخارج: “سورية بدها حرية”. حينَّها سأحبُّ الحياة، وأقولُ لأهلها الطيِّبين ما قاله شاعرٌ مرَّ باسمها كما يمرُّ دمشقي بأندلس: “هيئوا لي البيوتَ المواربة الأبواب”، وسأحتارُ كرجُلٍ ذاهِبٍ إليها: أتزوَّج امرأةً أم ياسمينة؟!، وأقرُّ بمكر العاشق البدويِّ أنَّني لا أحبُّكِ أنتِ فقط..؛ فـ”الشام” قد لا تعني سورية وحدها، وإذ أخشى ندما على امرأة لا تعودُ، أسألُ كعاشقٍ خفيف النبض: “أتراها تُحبُّني ميسونُ”..؛ ثمَّ لا أكترثُ في الإجابة السريعة..؛ فبَعْد حبِّ “الشامِ” كلُّ النساءِ ظُنون!

الغد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى