صفحات العالم

عن صُنع العدوِ وتوهُمه/ محمد عبد العزيز

 

 

في كتابه «صنع العدو» يشير بيار كونيسا إلى أن هذه الصناعة غالباً هي خيار سياسي، إذ تحسب بعض الدول أن العيش في محيط إقليمي مضطرب يحقق لها مصالح أكثر مما لو احتفظت بعلاقات طبيعية مع جيرانها. فصناعة العدو تعطي الطبقة الحاكمة فرصاً متعددة للتهرب من التزاماتها تجاه شعبها ومحيطها الإقليمي.

حينما كان الاتحاد السوفياتي على وشك الانهيار وجَّه ألكسندر أرباتوف، مستشار غورباتشوف، رسالة إلى الغرب مفادُها: «سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو». وكان يقصد بذلك أن حرمان الغرب من وجود عدو واضح المعالم سيربك حساباته، وسيدفعه إلى إعادة النظر في كُلفة وفائدة المؤسسات الأمنية والإنفاق العسكري والخطاب التعبوي الذي شارك في صنعه العديد من المؤسسات عبر العالم.

وعموماً، تتطلب صناعة العدو مراحل شتى، منها اعتماد أيديولوجيا استراتيجية محددة، وصياغة خطاب عدائي، واعتماد آليات لتنفيذ هذا الخطاب. وفي محيطنا الإقليمي أنفقت الدولة الإيرانية مئات بلايين الدولارات عبر ما يزيد على ثلاثة عقود لتكريس خطاب عدائي ضد الغرب وبخاصة الولايات المتحدة، وكان شعار «الموت لأميركا» أشهر شعارات هذا الخطاب العدائي الذي كان يمكن رصده يومياً في الخطب السياسية والدينية، كما تمكن مشاهدته في ملايين الملصقات والجداريات التي تغطي أرجاء المدن الإيرانية. وشكَّل هذا الخطاب ركيزة أساسية في الثقافة السياسية لجيلين من الشبان الإيرانيين الذين رسخ في وجدانهم أن العداء للغرب واجب شرعي وسياسي ومبدأ لا يخضع للمواءمات والتنازلات.

ولا شك أن الشعب الإيراني يشعر الآن بالارتباك والحيرة جراء عملية الإزالة السريعة والمنظمة لكافة الملصقات العدائية التي اعتاد عليها كجزء من حياته اليومية. وتجيء إزالة مظاهر العداء هذه تطبيقاً لأحد شروط صفقة الاتفاق النووي، إذ أصبح لزاماً على المؤسسة الحاكمة هناك تغيير خطابها السابق بما يتلاءم مع المعطيات الجديدة. غير أن صعوبات عدة تكتنف هذه العملية بينها حجم الإنفاق الهائل على صناعة العدو السابق، والذي اقتضى تكريس موارد سياسية واقتصادية وثقافية ومعنوية لإقناع الشعب الإيراني أنه يقود معركة عالمية ضد قوى الشر، وأن هذا العداء مستمر حتى تحقيق النصر النهائي. ومن هذه الصعوبات أيضاً إقناع الإيرانيين بأن الاتفاق مع الغرب حقَّق النصر المأمول، وهو ما يبرر التوقف عن الاستمرار في صناعة العدو، وتوجيه الطاقات والموارد لوجهتها الصحيحة.

والسؤال الذي يطرح ذاته هنا، ما هي هذه الوجهة الصحيحة؟ وكيف يمكن تحديدها في ظل الأدوات التي لا تزال قائمة؟ بمعنى آخر هل ستستمر إيران في استخدام أدوات صناعة العدو كما هي، مع البحث عن هدف آخر بدلاً من العدو الذي حرمها إياه الاتفاق النووي؟ إنه سؤال محوري يقتضي دراسة موسعة للخطاب السياسي والإعلامي لطهران منذ اتفاقها مع الغرب. فعلى رغم التحرك نحو عقد عشرات الاتفاقات الاقتصادية والتجارية مع أعداء الأمس، هناك صعوبة بالغة في تفكيك الأدوات التي رسَّخت نفسها منذ الثورة الإيرانية، وغنيٌّ عن البيان أن تفكيكها يقتضي إرادة سياسية وقدرة على خوض مواجهات داخلية حاسمة قد تدفع البلاد إلى هاوية سحيقة. وللأسف الشديد، فالمخرج السهل هو الحفاظ على أدوات صناعة العداء كما هي مع اختيار عدو جديد أو حتى توهمه، ونرجو ألا يكون القرار الذي اتخذ بالفعل هو توهم عدو جديد كوسيلة للخروج من المأزق.

* كاتب مصري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى