عن مخيّم بمساحة وطن
ماجد كيالي
ثمة أيام تختصر سنوات وربما عقود، وثمة مساحات تختصر وطن. هذه هي حال مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، الذي يقع جنوبي مدينة دمشق، بعد نزوح أهالي المناطق المجاورة إليه، هرباً من القصف الذي اشتد على منازلهم، ما جعله، في الأيام القليلة الماضية، بمثابة وطن لفلسطينيين وسوريين. هكذا بتنا أمام وضع يتواجد فيه لاجئون يستقبلون “لاجئين” آخرين، وبتنا أمام لاجئون قدامى و”لاجئون” جدد ويا لتصاريف القدر! هذا كله فتح جروح اللاجئين القدامى، إذ تذكّروا فجأة مرارة اللجوء، ومأساة الاقتلاع من الديار، بعد أن بات ثمة من يشبههم. في خضم هذا الواقع اكتشف الفلسطيني اللاجئ، الذي قدم أو ولد وعاش في هذا البلد، نفسه كسوري، واكتشف فيه السوري نفسه كفلسطيني، في بلاد ليس ثمة فيها مواطنين، بمعنى الكلمة. وعن ذلك يقول ربحي السعدي (طبيب): “عندي وطنان وطن أعيش فيه ووطن يعيش فيّ وافخر بالاثنين سوريا وفلسطين.” أما هديل مرعي (طبيبة سورية) فتقول: “شو يعني؟! الفلسطيني الذي لجأ إلى سوريا عام 1948، صار عمره 64 عاما؟ ولد هنا وتزوج هنا وولد ابنه و كبر وتزوج و صار عنده أحفاد يتكلمون باللهجة السورية..لاشي يفرق هؤلاء الناس لا لغة و لا لون العيون و لا الضمير ولا المزاج و لا القلب و لا الأماني و لا الأصول”.
في تلك الأيام تحوّل المخيم إلى ورشة عمل، الشباب والشابات لا يهدأون، ليس ثمة وقت للراحة، يجب توفير كل احتياجات النازحين، وإشعارهم بأنهم في الأمان والاطمئنان، وكأنهم في بيوتهم، وأعز. وقد سجّل الكاتب مروان دراج ذلك على صفحته “الفيسبوكية” فكتب يقول: “المشاهد التي رأيتها اليوم تذكرني بحكايا تهجرينا القسري، التي كانت ترويها لي المرحومة والدتي. ألاف العائلات تنزح.. أطفال بعمر الورد يصرخون خوفا..ونساء تحملن ما خفّ وزنه وغلى ثمنه وتذرفن الدموع.. وشبان تشتعل عيونهم بالغضب والوعيد.. أما أهالي وسكان المخيم فكانوا في ذروة التلاحم والتعاطف مع هؤلاء الذين اختاروا المخيم ملاذا لهم.. خلال ساعات فتح سكان المخيم بيوتهم..ومدارس الوكالة تم تجهيزها بكل ما يلزم ببعض تبرعات الأهالي من مأكل ومشرب وكل ما يلزم من فراش للنوم. ولم يتوان البعض من الشباب الفلسطيني من إحضار حتى أجهزة التلفزيون..”. وكتب هسام شملوني (فنان تشكيلي): “جاء في الحديث الشريف: “الناس شركاء في ثلاث، الماء والكلأ والنار”.. لكن في سورية يضاف إليها بأن الناس شركاء في الروح والدم ووحدة المصير.” ووصف KE SH (طالب جامعي) ماجرى على النحو التالي: “أول ما جاء أهلنا وحبابنا من حي التضامن..الكل استنفر..كل الشباب بالشارع مع انو الرصاص والقصف مسموع وقريب كتير..وما نام المخيم..يلي فاتح الفرن وعميخبز ويبعت للمدارس..ويلي جايب خضرا ويلي فاتح الصيدلية وعمبيبعت أدوية..والدكاترة والمسعفين موجودين وشي حامل فرشات ورايح يوديها للمدارس..وربي يسر”.
في المقابل قاربت الناشطة والكاتبة المعروفة خولة دنيا هذه الحالة، فكتبت: “الفلسطينيون والمخيم كانوا المنطقة الخضراء لأعداد كبيرة من المهجرين عن المدن والأحياء الأخرى…كم احتضنوا من الأرواح المهاجرة بكل حنوٍ وعناية طوال أكثر من عشرة أشهر من عمر الثورة..اليوم يثبت الفلسطينيون أنهم أبناء هذا البلد بمواجهة شبيحتهم كما بمواجهة الطاغية…الدم المراق على أرض سوريا هو دمنا لن نخضعه للتصنيف والتفسير والتأويل..فلسطيني وسوري واحد”. وكتب علي الأتاسي (كاتب سوري): “أنا من مواليد . في حياتي كلها داخل سورية حتي بداية الثورة، لم أستطع أن أطلع مظاهره واحدة حرّة، وأن أهتف بملء صوتي. المرّة الواحدة والوحيدة التي تحققت فيها أمنيتي كان في جنازة القائد الفلسطيني أبو جهاد في مخيم اليرموك في مدينة دمشق في نيسان من العام . يومها أحسست بنفسي كفرد حرّ يرفع رأسه ويديه للأعلى بقوّة الجماعة، وأحسست بجسدي كجزء لا يتجزأ من هذا الجسد الجماعي الذي كان يلفّ جثمان أبو جهاد ويحلّق معه وبه، من أجل سوريه ومن أجل فلسطين. يحلّق معه وبه كفعل صمود في مواجهة آله القتل الإسرائيلي وكفعل تحدّي في مواجهة آلة استبداد النظام السوري، التي كانت تعتَبِر في ذلك الزمن “العرفاتيه” كمسبّة، ومنظمة فتح ككيان معادي يجب إبادته. أتذكر أنها كانت أول خطواتي مع الحرية، أتذكر أنها كانت أول مرة أسمع صوتي ينطلق بحريه ويمتزج بأصوات الآخرين. أتذكر أنني صرخت وصرخت وصرخت بكل ما أوتيت من قوة عسى أن يسمعه والدي القابع في سجن المزه، وعسى أن يسمعه أصدقائي الفلسطينيون المعتقلون في السجون السورية. ما أعرفه اليوم أن أبو جهاد في قبره في مخيم اليرموك يسمع صيحات المتظاهرين في مخيم اليرموك في دمشق. يسمعها الشهداء والمعتقلون والمعذبون. يسمعها أهل حمص وحلب. يسمعها أهل القدس ورام الله. يسمعها أهل تل الزعتر وحماه”. أما الشاعر المعروف والسجين السابق فرج بيرقدار فكتب: “حين كنت مطلوباً في بداية الثمانينات كان المكان الأكثر أماناً لي هو في مخيمي اليرموك وفلسطين..أثق بهم ويثقون بي..أتنقَّل بأمان من بيت إلى بيت.. وحين يتعرَّض أحد البيوت لكبسة أمنية كانوا ينقلونني من مكان إلى مكان بمنتهى الذكاء والحرص والدينامية..كنت أقول لنفسي: لو كان شعبنا السوري كشعبنا الفلسطيني لانتهى الطاغية منذ زمن بعيد. أحنُّ إلى المخيَّم وأهله كثيراً، وليست مصادفة أنه حين أُفرج عني بعد 14 عاماً كان أول مكان زرته هو المخيَّم..وها هو المخيم يؤكّد ذلك الآن. في الحقيقة كان احتفاء أهالي لوبية بي هو الأعلى..هل لأنّي كتبت قصيدة عن لوبية سنة 1979؟ … الشاعر السوري الجميل شوقي بغدادي كتب على الصفحة المقابلة لقصيدتي في ملحق الثورة آنذاك أن حرارة كتابتي عن لوبية مفهومة بوصفي شاعراً فلسطينياً. كنت سعيداً بأن شوقي بغدادي اعتقد أني فلسطيني.. وسعيد الآن في اعتقادي أن أهلي الفلسطينيين في سوريا هم سوريون..متى بدأ الفرق أو التفارق بين سوري وفلسطيني؟ من يستطيع أن يحصي شهداء الثورة الفلسطينية من السوريين منذ الثلاثينيات في القرن الماضي وحتى اليوم؟ ولماذا لا يكون السوريون فلسطينيين أو العكس؟ كم أتمنى لو أن أمي.. أم علي الشهابي ما زالت على قيد الحياة.. كم خفَّفت من ضيمي في فترة التخفِّي.. ليس فقط بعنايتها بشؤوني كمتخفٍّ، بل بمشاعرها كأمّ ثانية”.
يعيش مخيم اليرموك، هذه الأيام، حالة تفاعل قلّ مثيلها، وحالة احتضان واحتفاء يعكّر من صفوها مبادلتهم للاجئين الجدّد مشاعر الأسى التي يحملونها، أما خشيتهم عليهم من قادم الأيام فلا تبدو في البال في هذه الظروف… فقد بات شعار: فلسطيني سوري واحد الألم واحد والأمل واحد.. روح المخيم الصاعدة، في سوريا الصاعدة.
المستقبل