عن مرض يجب أن نشفى منه
عقل العويط
هل تستطيع الأنظمة الديكتاتورية أن تشفى من نفسها؟ هل تستطيع أن تندرج في عملية إصلاح مفاجئة، بطيئة، سريعة، طويلة الأمد، أو قصيرته، بنيوية، تفصيلية، شاملة، فتنقلب على طبيعتها، وتاريخها، ويومياتها، وتقنياتها، ويصبح رجالها، الكبار منهم والصغار، رجالاً إصلاحيين، قوّامين على قانون يحفظ العدل والمساواة، ويقول بالحرية والتعدد وتداول السلطات، والخسارة، والتغيّب عن آلة الحكم؟
الحاكم الذي تسلّم السلطة بالتوريث، أو بانقلاب عسكري، أو دموي، وجلس على كرسي الحكم واحداً لا ظلّ له، هل يستطيع تحت وطأة المتغيّرات الشعبية، أن يستمرّ في الحكم، وإن بقي في الحكم؟
قد تكون الأمثلة التاريخية والسياسية معبّرة جداً، وقد لا تكون، لكن جوابي المتمهل عن هذا السؤال: لا، لن يستطيع الحاكم العربي أن يستمرّ في الحكم. لن يستطيع الى ذلك سبيلاً، حتى لو أراد. حتى لو صدق. حتى لو توافرت له ظروف دولية وإقليمية ومحلية ملائمة. أنظر الى هذا الحاكم، أتخيّله في غرفته المحكمة الغلق، في متاهات رأسه، في تعامله مع جسمه ووجهه ونظراته وثيابه ومشيته، فأسأل: كيف لهذا الذي تعوّد أن يكون شعبه ملكية خاصة له ومحض أعداد بشرية تقيم تحت سكّين الذبح، أو تساق إليه، أن يأخذ بقانون غير القانون الذي تنشّأ عليه، فصار جزءاً من عقله، ولغته، وأنفاسه، وحركاته، وأحلامه، وهواجسه، وكوابيسه، ودورته الدموية والخيالية؟ قد أكون مخطئاً، لكن خيالي الأدبي لا يستطيع أن يتصوّر حاكماً ديكتاتورياً ينقلب على ديكتاتوريته فيصير ضدّها، عدوّها، خصمها، عاملاً على تهديمها، وتقليم أظفارها، وتدجينها، في عقله أولاً، وفي الواقع المجتمعي والسياسي والثقافي ثانياً! طبعاً، أنا أتحدث عن حكّامنا الديكتاتوريين، وعن واقع أنظمتنا الديكتاتورية في العالم العربي، عن آلات القمع لديهم، عن الدساتير والقوانين التي يعملون بها، عن ملايين الناس الواقعين تحت تنكيلاتهم اليومية، عن الأجهزة التي يملكونها، وهي عيونهم وأيديهم التي لا تستطيع أن تمارس شيئاً سوى ما تعوّدت ممارسته وأداءه بانتظام، أين منه انتظام الليل والنهار. أتحدث عن دول المغرب العربي، عن دول المشرق العربي، عن دول الخليج، عن الممالك والجمالك والإمارات والجمهوريات. بل أتحدث عن الرؤساء والملوك والسلاطين والأمراء والمشايخ والضباط العرب، الذين يتولون مقاليد السلطات في هذه المنطقة العربية المضروبة بالمصير الجائر والمتخلف. بل أتحدث عن هؤلاء باسمائهم، اسماً اسماً، حاكماً حاكماً، من الأقرب إلينا إلى الأبعد، بدون استثناء أو إغفال، أو مواربة، أو تلطّ، أو ترميز.
أسأل ما أسأل، وأقول ما أقول، لأن البلدان العربية دخلت في اللاعودة، أياً تكن الأحوال السياسية والأمنية والمجتمعية المترتبة على ما يجري، حيث يجري، وحيث لا بدّ من أن يجري، آجلاً أم عاجلاً. ليس أمام الحكّام العرب، وليس أمام ديكتاتورياتهم، سوى ما ينتظرهم: الطريق المسدود، أو الإمعان في الغرق. وكلاهما، مفضٍ الى نتيجة واحدة. لا أمل لهم في البقاء، حيث شاءت لهم الأيام العربية، في ما مضى، أن يبقوا ويقيموا. وإذ أرى ما أراه، فهذا لا يقتصر فحسب على الدول العربية التي تشهد حراكات وثورات شعبية، بل يتعدّاه الى المضمر المنتظر في كل مكان عربي آخر: من الماء الى الماء. ولا مفرّ.
قد تأخذ المداخلات الدولية والإقليمية، والعوامل الموضوعية الداخلية مجراها، في هذا الاتجاه أو ذاك. قد تنجح الثورات نجاحاً كاملاً، أو نصف نجاح. قد يُبعد الحكّام العرب عن شفاههم، الى حين، كؤوس العلقم. قد يتجرّعها هذا على الفور، وقد يتجرّعها ذاك بعيد قليل من الزمن، لكن هؤلاء لن يستطيعوا أن يظلّوا حكّاماً. وهم لن يستطيعوا أن يفلتوا من براثن الدائرة الكابوسية التي باتوا يقيمون في داخلها.
السبب بسيط: هم لا يستطيعون أن يشفوا من كونهم حكّاماً، وديكتاتوريين. ولا أنظمتهم تستطيع. ولا العالم كلّه يستطيع أن يشفيهم مما هم فيه، ومما ينتظرهم.
لقد انكسر شيء جوهري في “السيستام” الديكتاتوري العربي، كان هؤلاء الحكّام حتى الأمس القريب، موقنين أنه غير قابل للانكسار، لا واقعاً ولا وهماً.
إذا كان الحكّام العرب لا يستطيعون أن يشفوا من مرض الحكم الديكتاتوري، فإننا كمواطنين، وأفراد، وشعوب، يجب أن نشفى منه، قصر المقام أم طال!
النهار