صفحات الرأي

عن مفارقات قراءة نيقولاوس فان دام للمتاهة الدموية السورية/ وسام سعادة

 

 

كان هناك وقت يجري فيه تناقل كتاب المستشرق والديبلوماسي الهولندي نيقولاوس فان دام «الصراع على السلطة في سوريا: الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة»، بالسرّ والتحدّي، بوصفه مادة خطرة تسلّط على الطابع الفئوي، الأقلوي، لنظام آل الأسد في سوريا. يختلف الأمر تماماً مع كتابه الصادر هذا العام، عن دار توريس اللندنية، تحت عنوان «تدمير أمة. الحرب الأهلية في سوريا».

فالكتاب الجديد يبدأ من نقطة بعيدة عن تلك التي يصل إليها. يبدأ من استعادة مضامين كتاب فان دام السابق، وكيفية تسيّد نخبة من الضباط البعثيين العلويين على الحزب والجيش وأجهزة الدولة في سوريا، وكيف اتخذ هذا المسار طابعا شموليا في ظل حافظ الأسد، ويتوقف عند مفارقة الاستفزاز المزدوج الذي مثله هذا النظام بالنسبة إلى الوسط السني المحافظ، إن كان من جهة علمانيته أو من جهة طائفيته، ويظهر كيف بدأت إشكالية توريث الحكم منذ تدهور صحة الأسد نهاية العام 1983، واصراره على حرمان شقيقه رفعت من خلافته، وتنكب رفعت باعتماده على الطائفة المرشدية (فرع من العلويين) فحسب، في مقابل إصرار حافظ على وجوب أن يمثل القابض على رأس السلطة نقطة تلاق بين الضباط العلويين الأساسيين، ولا يكون محسوبا على فرع واحد من العلويين، وعلى هذا النحو أيضا يفهم فان دام لماذا رست الخلافة في آخر المطاف على بشار الأسد. يستذكر فان دام التفاؤل غير المبرر عند مراقبين غربيين كثر بتوريث بشار، اعتقادا منهم أن فترته اللندنية قرّبته من تشرّب شيء من الديموقراطية، وهو ما يظهر فان دام خطله، ذلك أن هذه الفترة اللندنية الوجيزة علمته بالأحرى أنه تلزم سوريا مرحلة طويلة قبل أن تتأهل لأي شكل من أشكال الديموقراطية. في المقابل، يشدد الكاتب في غير موضع، على «دمشقية» بشار الأسد، الذي لا ولد ولا ترعرع في القرداحة أو جبل العلويين، وينبه إلى أن بشار لا يرى نفسه بالشكل الذي يراه الدمشقيون السنّة، وأنه، استطرادا، لم يكن من المجدي انتظار أن يعمل بشار وأبناء كبار الضباط العلويين الذين ولدوا في دمشق من أجل التحضير لخطة بديلة في حال سقوط نظامهم في العاصمة، كمثل الانفصال بجبل العلويين عن بقية سوريا. هم متمسكون بدمشق، وبمعادلة التحالف بين أبناء الضباط العلويين وبين بعض شرائح البرجوازية الدمشقية السنية، مع إشكالية ظلت تقلق النادي الحاكم، وهي ميل أبناء الضباط إلى قطاع الأعمال، أكثر من ميلهم إلى السلك العسكري.. هذا قبل أن تتبدل المعطيات بعد الثورة فالحرب. فمن جهة، انخفض العديد في الجيش بعد الثورة من 220 ألف إلى 65 ألف، ما يعني ارتفاع نسبة العلويين فيه، في القاعدة، وليس فقط في القيادة، واتضاح ذلك بعدد قتلاه الذين يشيعون في القرى العلوية. إلا أن المتغير الأساسي مع الحرب كان تراجع الاعتماد على الجيش النظامي نفسه، لصالح الميليشيات العلوية والأقلياتية كالدفاع الشعبي والشبيحة وقوات النمر وصقور الصحراء، التي صار لها أمراء حرب لهم حيثيتهم الموازية.

لا يعتبر فان دام أن العلويين يحكمون سوريا منذ منتصف الستينيات إلى اليوم، لكنه يشدد على أن كبار الضباط منهم يتحكمون بجميع المفاتيح في الحرس الجمهوري والمخابرات والقطاعات الأساسية من الجيش، وأن أي حل سياسي مستقبلي في سوريا لا بد أن يترافق مع تخفيض هذه النسبة إلى شيء معقول.

لكن، إذا كان النظام ديكتاتوريا على جميع السوريين بلا استثناء، فإن نسبة واسعة من السنة، والته أو عارضته، ظلت تنظر له على أنه نظام علوي محض، ولم ينفع كثيرا اهتمام حافظ وبشار بتسنين النظام من ناحية بعض الرموز والاحتفالات الدينية، بل ربما ارتد عليهم الأمر بمفعول عكسي.

بالنسبة إلى فان دام، ما كان ممكنا تفادي الصدام الدموي في سوريا. بالدرجة الأولى، لأن نظاما يقوم على هذه القاعدة العسكرية الطائفية المحصورة من المتعذر إسقاطه بشكل سلمي، والنظام كان واضحا من البداية بأنه ليس في صدد تقديم إصلاحات جدية.

بيد أن الكاتب يذهب في الوقت نفسه إلى أنه لولا تلقي القوى المعارضة للدعم الخارجي المتعدد المصادر لكان باستطاعة النظام قمع الثورة تماما عام 2011، وكانت الضحايا ستكون أقل في المحصلة، وكان يمكن للثورة أن تتجدد بعد ذلك في سنوات مقبلة.

إلا أن ما حصل لم يكن كذلك، بل «تدمير أمة» بكاملها.

وهنا يحصل الانعطاف في سردية الكتاب.

ففي الوقت نفسه الذي يقول فيه الكاتب إن النظام لم يكن بصدد تقديم أي تنازلات، يعود فيعتبر أنه كانت لا تزال هناك حظوظ لتسوية معقولة عام 2011، وبشكل أصعب بعد ذلك. ينتقد فان دام تركيز كل الضغوط على تنحية بشار الأسد، ويعتبر أن ذلك زاد النظام شراسة، لخوض معركته كصراع من أجل البقاء، وتسعير الطابع الطائفي للنزاع. كما يحمل على إيثار حكومات الغرب قطع علاقاتها مع النظام، ويتحجج بأن ذلك أفقد هذه الحكومات قدرتها على الضغط السياسي عليه، في الوقت الذي لم تكن تنوي فيه التدخل العسكري ضده. يعتبر أنه قد جرى بشكل عام التقليل من عناصر قوة النظام وشبكة تحالفاته.

تبرز هنا مشكلة الكتاب. فمن جهة، يعتبر فان دام أن النظام لا يمكنه أن يقدم أي إصلاحات أو تنازلات، لكنه من جهة ثانية يستهجن كيف يمكن أن تقوم المفاوضات معه على قاعدة إنكار شرعيته بشكل مسبق. بالطبع، يلفت فان دام هنا إلى التناقض الذي يحكم كل المسار السياسي في سوريا، لكنه لا يظهر ما الطائل الذي يمكن أن تجنيه المعارضة من عدم التثبيت من الآن فصاعدا على مركزية تنحية بشار الأسد. يردد فان دام بأن حقن الدماء، بالتسوية السياسية، أولى من العدالة، وأن البراغماتية والواقعية السياسية تفترض هذا. والمشكلة مع هذا المنطق أنه غير واقعي: فإذا كانت التسوية السياسية غير متاحة، بحسب ما بين فان دام نفسه، فالأولى التمسك بمفهوم العدالة، فلماذا تسليم هذه «الورقة»، هذا إذا اعتبرناها ورقة. لكن الأهم، إن الكاتب لا يعي أن ثورة السوريين كانت بالفعل ضد آل الأسد، قبل أن تكون «من أجل» أي شيء، سواء كان هذا الشيء هو الديموقراطية أو الشريعة الإسلامية أو أي شيء. وليس سبب هذا «شخصنة» الصراع، بل على العكس: لإدراك دفين بأن غياب العقد الاجتماعي في سوريا، وصل مع هذه العائلة، منزلة، لا يمكن إعادة تأسيسه، إلا بطي صفحتها.

بالمجمل، يتذاكى فان دام: يقر بالسمة الفئوية للنظام، وبطابعه الشمولي والدموي، لكنه يعتبر أن كل هذا كان يفترض أن يعزز التعامل معه بواقعية أكثر، وصولا إلى عدم التركيز على تنحية الطاغية، لتجنب تدمير المجتمع السوري.

صحيح ما يقوله بأن سوريا تختلف عن أحوال بقية الأنظمة، بسبب الطابع الطائفي لنخبتها الحاكمة. صحيح أن الإطاحة بالنظام فيها أصعب، لكن ما دام يعتبر بنفسه أن انفجار الصراع ما كان من الممكن تفاديه، كان من المفترض، واقعيا أيضا، الإقرار بأن «التثبيت» على طلب الإطاحة ببشار الأسد لم يكن من الممكن تفاديه أيضا، بصرف النظر عن الاختلاف الجذري بينه وبين حسني مبارك أو زين العابدين بن علي.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى