عن نزوح السوريين
راتب شعبو
ما الذي يجعل للمناطق والحارات في المدينة غلبة مذهبية معينة؟ لماذا يميل الناس إلى السكن وسط تجمعات تضم أناساً يشبهونهم في انتماء مذهبي موروث لا يد لأي منهم به، فضلاً عن أن غالبيتهم العظمى لا تدرك من “مذهبها” إلا القليل وربما لا تؤمن أصلاً بما تدركه؟ وما الذي يجعل علاقة الجماعات المذهبية في ما بينها كعلاقة الزيت والماء يختلطان ولا يمتزجان؟ ولماذا تصمد العلاقة المذهبية (غير المذهبية في أصلها) فيما تتنحى باقي العلاقات والروابط أمامها؟
ينشأ الميل التكتلي للسكان على أساس مذهبي، في اعتقادنا، من تضافر عاملين، الأول داخلي وهو الشعور الطبيعي للفرد بانتمائه إلى جماعة بشرية تجمعه معها بيئة ثقافية واحدة وترضي لديه الشعور بالانتماء الخاص والتعرف إلى النفس. والثاني خارجي وهو تحديد الجماعة المذهبية من خارجها، أي نظرة الجماعات وتصوراتها، بعضها عن البعض الآخر، كما تتبدى في سلوكات هذه الجماعات إزاء بعضها. ولا يخلو الأمر من استبطان، موهوم في أغلبه، يُقوّل الجماعات الأخرى، ولاسيما الجماعة الغالبة عددياً، آراء احتقارية وعدائية تجاه الجماعة المعينة بما يغذي تماسكها وتكتلها وربما انعزاليتها. ولكن تبقى هذه العوامل محكومة للفاعلية الاقتصادية والاجتماعية وضروراتها التي من طبيعتها ان تُعلي الروابط المدنية الحديثة، إلى ان يتدخل العامل السياسي على شكل صراعات مستترة أو صريحة، سلمية أو عنيفة، تستخدم الطاقة الدينية أو المذهبية كوقود في آلتها. حينها تستفيق العوامل المذكورة أعلاه وتفسد ما أنجزه الاقتصاد والاجتماع من اختلاط ومن تجاوز للروابط المذهبية، وكأن المجتمع المتخلف سياسياً يبقى في حالة مراوحة لا يتقدم خطوة إلى الأمام على هذا الصعيد إلا لكي يعود خطوة إلى الخلف.
وإذا كان يصح على الانتماء الديني ما يصح على الانتماءات الأخرى مثل الانتماء القومي أو المناطقي أو السياسي فإن للانتماء الديني تميزاً حاسماً عن بقية الانتماءات. ذلك أن الأديان والمذاهب تُضمر بطبيعتها القطعية ضلالَ الأديان والمذاهب الأخرى، على خلاف الانتماءات العرقية أو القومية أو المناطقية التي لا علاقة لها بالهداية والضلال ولا معنى فيها للصح والخطأ. الانتماء الديني، من زاوية أخرى، يشبه الانتماء السياسي من حيث “احتكاريته” للصواب، أي من حيث أنه يقوم على أساس حيازة “صحيح” لا يحوزه الآخرون. وهو “صحيح” لا يمكن البرهان على خطئه، تالياً تبقى الحدود بين الجماعات الدينية مصونة وراسخة ما لم تتدخل قوة “الإقناع” القسري. غير أن الانتماء السياسي هو انتماء اختياري لا يورث ويتمتع بحركية دائمة فلا تبقى الحدود بين الجماعات السياسية ثابتة ونهائية كما هي الحال بين الجماعات الدينية.
اللعنة هي أن التكفير المتبادل بين المذاهب والأديان، يمتد إلى المسّ بمن ولدوا على هذا المذهب أو ذاك والنظر إليهم على أنهم ضالّون وكفّار يتعين التعامل معهم كذلك، وهذا ما يشكل مكاناً للاستثمار السياسي الذي يؤدي في النهاية إلى إعادة توزيع الناس سكنياً وفق منابتهم المذهبية والطائفية.
تبين الملاحظة البسيطة أن التناسب طردي بين نسبة “النقاء المذهبي” لتجمع سكاني ما وبين قدم هذا التجمع. القرى مثلاً “أنقى” مذهبياً من الأحياء المدنية. والأحياء المدنية القديمة “أنقى” من الأحياء الحديثة. من هذا يمكننا أن نخرج بملاحظتين: الملاحظة الأولى هي أن هناك صراعاً دائماً بين آليتين، إحداهما تعمل على الخلط وأخرى على الفرز. الملاحظة الثانية هي أن آلية الفرز هي الغالبة. يبدو أنه كلما دفعت الآليات الاقتصادية والاجتماعية في اتجاه الخلط، تدخلت آلية سياسية لتعيد فرز ما اختلط.
اليوم في سوريا، وربما أكثر من أي وقت آخر في تاريخها الحديث، تعيد السياسة الفرز على أسس مذهبية ودينية.
اليوم تشهد سوريا من جملة ما تشهده، حركة فرز مذهبي وطائفي، منها ما هو قسري ومنها ما هو إرادي يقوم على مخاوف وتصورات أنتجتها حالة الصراع السياسي العسكري الحالية الرهيبة. في الوقت نفسه تشهد سوريا انزياحات سكانية عابرة للطوائف، ناجمة عن النزوح من مناطق الاشتباكات إلى مناطق أكثر استقراراً وأمناً. وقد خلقت هذه الحركة اختلاطات مذهبية طارئة، والغالب أنها موقتة، نظراً إلى أن منسوب انعدام الثقة بين الطوائف وصل اليوم إلى مستويات له ربما لم يصلها في سوريا من قبل. على أن هذا الاختلاط القسري الطارئ يهيئ في الواقع مختبراً مناسباً لكسر المخاوف والتصورات المشوهة التي انبنت بتأثير الصراعات الدائرة وتأثير آلات الإعلام الرهيبة التي تخلق واقعات (جمع واقع) موازية، ومشوهة بحسب غاياتها، للواقع الفعلي.
في موجات الاختلاط الناجمة عن النزوح، يبرز الإنساني على حساب السياسي، ويفضل النازح أن يكتم انحيازاته السياسية وأن يستتر وراء عبارات تحمل وجهين حيث لا يمكنه أن يبقى “عارياً” من الموقف تحت العيون السورية التي تستنطق حتى الحجر اليوم عن موقفه السياسي. فيضطر النازح إلى ارتداء عبارات مثل: “الله يصلح الحال”، “اللي عم يصير حرام”… التي يمكن أن تعني الموقف وعكسه. ولكن يبقى الحديث السياسي مع ذلك هامشياً أمام إلحاح الحاجات الإنسانية، وهنا يطفو الحس السليم فوق شتى الأساطير المتراكمة عن الذات والآخر، ويستقر الناس على صعيد مشترك، وربما يحافظون فوق هذه الأرض المشتركة، أرض الحاجات البشرية المشتركة، على شيء من الثقة والأمان المتبادل في ما بينهم.
هكذا دائماً عندما تنحطّ خطوط الانقسام السياسي لتتوضع على خطوط الانقسام المذهبي والديني، وعندما تفتقر السياسة إلى الطاقة الذاتية بفعل عجزها عن توليد جاذبية سياسية عامة وتضطر تالياً إلى استعارة طاقات غير سياسية لتحقيق أهدافها، فإن المجتمع سوف يدفع الضريبة ليس فقط من أمنه واستقراره ورفاهيته، بل ومن تماسكه ووحدته المجتمعية.
النهار