عودة “الفتية الذهبيين”/ حسام عيتاني
عندما يذهب ابن اسرة ميسورة الى أفضل جامعات الغرب لتعلم كيفية ادارة ثروة العائلة في اختصاصات الأعمال وما يدخل في بابها، غالبًا ما يعود الى بلده الأم حاملاً افكاراً احادية الجانب يؤمن الطالب المتخرج على ايدي افضل الأساتذة، بعصمتها وعدم قابليتها للنقد والمراجعة.
يعسر على الخريج الذي زادته الشهادة العليا ثقة على ثقة سابقة بالنفس مصدرها العائلة والثروة والموقع الاجتماعي، ان ينتبه الى حدود ما تعلم ونسبيته. سرعان ما ينخرط في كوكبة «الفتية الذهبيين» الموكل اليها تسيير امور بلدها الفقير والمترنح على طريق التنمية.
والحال، أن «الفتية» هؤلاء الذين سحرتهم آراء وأفكار أساتذة في جامعة شيكاغو، صاحبة السجل الأكبر للحائزين على جوائز نوبل في الاقتصاد، وغيرها من الجامعات المشابهة، قد ساهموا بدفع بلدانهم الى قيعان الفقر والاضطراب الاجتماعي وانسداد آفاق التغيير السياسي. هكذا كانت الحال في دول اميركا اللاتينية والشرق الأوسط وجنوب آسيا منذ ثمانينات القرن الماضي.
ولبّ ما يجري من صراع الآن في الأزمة الاقتصادية الأوروبية يدور بين مدرسة «الفتية الذهبيين» من تلامذة ميلتون فريمان وفريدريك فون هايك وأتباعهما (من غير احسان) التي يتبناها المصرف المركزي الأوروبي أحادية التفكير وغير القادرة على رؤية الأبعاد الاجتماعية والسياسية للنهج الاقتصادي الكارثي الذي تمعن فيه، وبين مدرسة ثانية، يسارية تنقيحية – اذا اعتمدنا التعريف الدقيق- تقول ان ما جعل الأزمة الاقتصادية الأوروبية تتخذ طابعاً مزمناً خلافاً لنظيرتها في الولايات المتحدة، يكمن في التمسك بمقولات ربما تكون الولايات المتحدة ساهمت في ارسائها لكن واشنطن امتلكت القدرة على وقفها والحد من ضررها قبل ان تودي بالاقتصاد الأميركي الذي هددته ازمة 2008 تهديداً عميقاً وكان من بين اسرع الاقتصادات في التعافي منها.
ولعل البراغماتية الأميركية الشهيرة هي ما منع تجذر الريغانية (نسبة الى الرئيس الأسبق رونالد ريغان) التي لمست اكثرية الأميركيين خطرها فوضع بيل كلينتون ثم باراك اوباما قيوداً على تفلتها الذي حاول جورج دبليو بوش بعثه وتكريسه. هذه البراغماتية قابلتها نزعة الحذر والوفاء الإيديولوجي الأوروبي لآراء مارغريت ثاتشر التي انقلبت ايماناً ساد الاتحاد الأوروبي ومفوضياته وآلياته البروقراطية وفاقم من التساؤلات حول شرعية هذه المؤسسات وحدود التفويض الممنوح لها برسم مصائر المواطنين المرغمين على طاعة عملاق بلا ملامح ولا روح يستمد قوته من هوامش الديموقراطية الأوروبية الواسعة.
يكفي التمعن في الأزمة الأوروبية وانعكاساتها المأسوية على اليونان لإدراك خطر التمسك الإيديولوجي بعقيدة اقتصادية منحازة اجتماعياً يراد لها ان تكتسي بطابع الفطرة والبداهة وأحادية التفكير. غني عن البيان ان النقد الذي وجهه تحالف «سيريزا» اليوناني الى السياسات المالية والاقتصادية الأوروبية في مكانه تماماً. الانتقال من النقد الى التغيير الواقعي مسألة مختلفة. لا شك في ذلك، لكن تشخيص اليونانيين لأزمتهم لا يجانب الصواب.
عند النظر إلى الجانب الملتهب حالياً من الأزمة اللبنانية، أي الى فشل الدولة في أداء ابسط مهماتها في رفع النفايات من الشوارع وفي تأمين بيئة نظيفة لمواطنيها مقابل الضرائب الباهظة التي يدفعون والتي تتعرض إلى التقاسم والنهب العلني، تبرز اسماء من ذات طينة «الفتية الذهبيين» الذين جيء بهم في التسعينات في ظروف شديدة الاختلاف عما نعيش اليوم. لكنهم ما زالوا يصرون على اعتبار انفسهم الوحيدين من يفهم كيف يدار الاقتصاد في حين انهم لا يفعلون غير تعـــميق الكارثـــة الاقتـصادية الاجتماعية وتوظيفها لمصلحة مجلس الحكم الطائفي. اما نــــظرياتهم وشــهاداتهم، فلا تزيد قيمتها عما يتراكم في شوارع بيروت.
الحياة