غابت الطبقة الوسطى فغاب الاستقرار
حسين العودات
يقول معظم الفلاسفة والمفكرين (عرباً وغير عرب)، إن السبب الرئيس لفقدان المجتمعات العربية للاستقرار، ولتوترها السياسي، وللتطورات المفاجئة التي مرت بها هذه المجتمعات، والتغييرات الانقلابية التي طاولت بنية الأنظمة السياسية فيها ووظائفها وسلوكها، وكذلك التغير العميق والسريع لمنظومة القيم، وفقدان التطور المتتالي والمتنامي والمستدام في المجتمعات العربية هو (أي السبب الرئيس لكل هذا) ضعف الطبقة الوسطى العربية، أو غيابها من الأساس، وتلاشيها بعد التطورات العاصفة التي مرت بها البلدان العربية منذ استقلالها حتى الآن، ويؤكدون أنه لو أتيحت لهذه الطبقة الفرصة للنمو ولعب دورها التاريخي وممارسة مهماتها وأداء وظائفها، لما حصلت في المجتمعات العربية كل هذه الفوضى أو الانقلابات أو التغيرات العاصفة، ولكانت هذه المجتمعات أكثر استقراراً وأمناً وتطوراً ورفاهاً.
من الصعب تحديد معايير صارمة لتوصيف الطبقة الوسطى، سواء منها المعايير الاقتصادية أم السلوكية أم ما يتعلق بسلم القيم، فالطبقة الوسطى هي في الأساس، طبقة بين طبقتين؛ إحداهما عليا والأخرى دنيا، ويمكن أن تصعد منها شرائح للطبقة الأولى، أو تتدهور للطبقة الثانية، لأنها في النهاية “منزلة بين المنزلتين”.
وقد حاول بعض الدارسين وضع معايير اقتصادية وسلوكية تضبطها، لكن هذه المعايير بقيت نسبية، ترتبط بتكوين المجتمع وتتواءم مع خصوصيته وظروف تطوره، ومهما كانت هذه المعايير فإن للطبقة الوسطى سلم قيم ومفاهيم خاصة بها، في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية والسياسية وغيرها.
تضم الطبقة العليا في المجتمع، ذوي الدخل المرتفع والأثرياء، وينضوي هؤلاء عادة تحت منظومة قيم ومفاهيم محددة، منها اللهاث وراء الربح السريع والثراء وزيادة الدخل، واستطراداً السعي للمتعة والحياة الاستهلاكية، وعلى ذلك ترتبط قيم هذه الطبقة بالشروط الموضوعية التي ترسم حياتها، وتؤثر في سلم قيمها.
ومثال على ذلك، فإن الصداقة والوفاء وما يشبههما، تحددها عند هذه الطبقة عوامل الربح، ولذلك تسعى إلى إقامة النظام السياسي الذي يؤمن لها مزيداً من الربح، ومزيداً من المنفعة ويتيح لها ممارسة النهم الاستهلاكي، وعليه فالنظام السياسي المرغوب لديها هو النظام الذي يراعي مصالحها ويتهاون في تطبيق القانون عليها، وهي غير مهتمة لا بالحرية ولا بالديمقراطية، وتحاول الهيمنة على أصحاب القرار وعقد الصفقات معهم ورشوتهم، وترى أنه من البديهي (ومن الشطارة) أن تحتال على القانون وأن لا تحترمه، وتحلل لنفسها الربح الفاحش ولا تهتم بمدى مشروعيته، وتستسهل نهب المال العام، وتمارس جني أرباح الصفقات والاحتكار.. وغيرها من المسلكيات والممارسات.
أما الطبقة الدنيا، فهي لا تملك سوى فقرها وعذاباتها، وبينما تجهد الطبقة العليا في المجتمع لتحقيق الثراء والمتعة، تناضل الطبقة الدنيا من أجل “البقاء”، ونادراً ما تهتم بالشأن العام، وتسكن العشوائيات (في ضواحي المدن)، ولها أنماط حياة وسلوك ووسائل عيش وخطاب خاص بها، وتمارس بدورها سلم قيم يحاول أن يعوض عن بؤسها وفقرها، من خلال حديثها عن القيم الفاضلة، والأخلاق، والشرف والقيم العليا وما يشبه ذلك.
وبسبب ظروفها الصعبة وعيشها البائس الذي تلقي هذه الطبقة مسؤوليته على النظام السياسي، فهي لا تحترم القانون، بل تعتبره في الغالب عدواً لها، لأنه حسب رأيها وُضع لصالح الأغنياء والمستغلين، وصيغ لخدمتهم وزيادة رفاهيتهم ونفوذهم.
وبالإجمال فلهذه الطبقة أيضاً مفاهيمها الخاصة، عن الدولة والحكومة والسلطة والعدالة والقانون والنظام السياسي، واستطراداً عن الحرية والديمقراطية ومعايير الدولة الحديثة، التي تختلف عن مفاهيم ومعايير الطبقتين الوسطى والعليا.
أما الطبقة الوسطى التي هي بيت القصيد الذي نبغي الحديث عنه، فهي ـ حسب المفكرين أيضاً ـ تلعب الدور الفعال في الحراك الاجتماعي وفي التطور والتغيرات، ويصعب وضع معايير مطلقة وثابتة لها ولمواصفاتها، لارتباط هذه بالظروف والزمان والمكان، ولكن على الغالب فإن المعيارين الرئيسيين اللذين يحددان مواصفاتها، هما الدخل والسلوك؛ أي الواقع الاقتصادي، والشرط الأخلاقي وما ينتج عنهما أو يرتبط بهما.
وغالباً ما يتمتع أفراد هذه الطبقة بدخل كاف لعيش كريم، وتعتبر النخبة الثقافية والمهنية وبعض النخب الاقتصادية من أبناء هذه الطبقة (كالأطباء والمحامين، والمدرسين، والكتاب، وكبار موظفي الدولة، وشرائح من الفئات العاملة بالشؤون الاقتصادية.. وذوي الدخل المحدود، ومن في حكم هؤلاء).
وتهتم هذه الطبقة ومن ينتسبون إليها، باستقرار المجتمع (بعلاقاته الاقتصادية والاجتماعية القائمة)، لأن مصلحتها تقتضي ذلك، وعليه فإنها تحترم القانون وتهتم بتطبيقه، وتصر على تطبيق النظام أيضاً، وتهفو لتحقيق أمن المجتمع واستقراره، وتتمسك بالدستور والقانون، وبمعايير الدولة الحديثة، كالمشاركة والحرية والديمقراطية، وفصل السلطات واستقلال القضاء، والحياة البرلمانية.
وفي الخلاصة تسعى لإقامة مجتمع مدني تُحترم فيه هذه المعايير، وتشجع مؤسسات هذا المجتمع ومنظماته، ومن قيم هذه الطبقة وطقوسها، قراءة الصحف، وتشجيع حريتها ونقدها للحكومة ومؤسساتها، والاهتمام بالثقافة وتشجيعها، وتكريس التعددية والمشاركة واحترام الرأي الآخر.. وما يشبه ذلك من قيم وممارسات سياسية وثقافية.
في ضوء هذا واستناداً إليه، فإن الطبقة الوسطى، هي العامل الأساس لحفظ توازن المجتمع، وتحفيز تطويره واستقراره، وتحقيق تنميته المستدامة، وعلى هذا، ربما يصح القول إن غياب هذه الطبقة عن بعض المجتمعات العربية، أربك تطور هذه المجتمعات، وعرضها للمفاجآت والمغامرات وللتطور غير المتوازن، وإن نموها من جديد أو تنميتها، هما من أهم الوسائل لحفظ استقرار المجتمعات العربية، وتخليصها مما نشاهده ونلمسه حالياً من اضطرابات أو عدم استقرار.
ولأن الطبقة الوسطى هي الأكثر عقلانية وموضوعية بين طبقات المجتمع، فهي أكثر شعوراً وحماساً لتطبيق المساواة، والعدالة الاجتماعية، واحترام حقوق الطبقات والفئات الشعبية الأخرى، وحرية التعبير، والصحافة، والحق في النقد، أي أكثر شعوراً بالمسؤولية تجاه بناء مجتمع مستقر مزدهر.
البيان