‘غابرييل غارسيا ماركيز.. صحافيا’
غرناطة من محمّد محمّد الخطّابي: كتاب ‘غابو..صحافيا’ صدر مؤخّرا في كل من كولومبيا والمكسيك عن دار النشر ‘صندوق الثقافة الإقتصادية’.
ومن المنتظر أن تصدر طبعات باقي بلدان أمريكا اللاتينية وإسبانيا عامي2013 و2014 . يقول عنه الكاتب الإسباني ‘خوان كروث’ (المشارك كذلك في الكتاب): ‘لقد تمّ توزيع هذا الكتاب بالمجّان ولابدّ أنه سيباع بثمن باهظ في مستقبل قريب. الكتاب اليوم محظور بيعه، لذا فإنّ الصحافيين الذين أمكنهم الحصول على نسخة منه يخبّئونها في مكان مأمون، فالأمر يتعلق بصاحب كتاب ‘ مائة سنة من العزلة ‘ الذي بيع منه منذ صدوره عام 1967 ملايين النسخ حتى اليوم’. إلاّ أنّ مؤسسة ‘غارسيا ماركيز للصّحافة الإيبروأمريكية الجديدة ‘ تشيرأنّ الكتاب سيشرع في بيعه في طبعة شعبية عام 2015.
جاذبية هذا الكتاب لا تكمن في الصّورالنادرة، والرسومات التذكارية التي يتضمّنها بين دفّتيه ، بل في مختلف المواقف والوقائع الصغيرة والكبيرة ، وهو مع زوجته ورفيقة عمره ‘مرسيديس’، أوهو مع مختلف حكّام ورؤساء دول العالم، أو مع صحافييّن شباب ، وصحافييّن شيوخ، فيه نجد ‘غابو’ وشاربه الدقيق ما زال أسود اللون فاحما ، ثمّ نجده وقد اعتلاه البياض وغزاه الشيب .
تلامذة غابو
يشارك في هذا الكتاب صحافيّون كبار من كتّاب اللغة الإسبانية ولغات أخرى، حيث نلتقي مع ‘جون لي أندرسن’ الصّحافي الأمريكي المرموق وسواه اختاروا خصّيصا لهذا الكتاب الفريد في بابه نصوصا كتبها ‘غابو’ على امتداد سنين طويلة خلال عمله بالصّحافة في مختلف أنحاء العالم ، بعض هذه النصوص كان قد كتبها صاحب ‘الكولونيل ليس لديه من يكاتبه’ باسم مستعار،ومعظمها مكتوب باسمه الصريح ، نلتقي كذلك فيه مع تلامذة ‘غابو’ نفسه في مهنة المصاعب من أبناء جلدته مثل ‘خايمي أبييّو’ الذي يتقلّد اليوم منصبا رفيعا في مجال الصحافة والإعلام وهو مدير ‘مؤسّسة الصّحافة الجديدة’، كما نجد العديد من الكتّاب والصّحافيين المرموقين في لغة سيرفانتيس من الإسبان، والعديد من الصّحافيين والكتّاب الآخرين من كلّ من المكسيك، وغواتيمالا، وفنزويلا، ونيكاراغوا، وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية وسواها . ويختتم الكتاب بإستجواب مثير مع زوجة غابو(ميرسيديس بارشا) وبملف خاص بالكاتب الكولومبي ‘جيرالد مارتين’ صاحب أضخم سيرة ذاتية مطوّلة وضعت عن حياة الكاتب الذائع الصّيت الذي أنجبته قرية ‘أراكاتاكا’ التي أصبحت ‘ماكوندو’ الاسطورية والسّحرية في ‘مائة سنة من العزلة’.
يرى خوان كروث أنّ هذا الكتاب يعتبر في الوقت الراهن كنزا ثمينا لا نظير له في عالم الخلق والإبداع الصّحفي والأدبيّ على حدّ سواء، هذا هو معيار الإختيار الذي وضعه الصّحفيون والكتّاب الذين أسهموا في إلقاء الضوء قراءة ودراسة وتحليلا لمختلف الأعمال الإبداعية لغابرييل غارسيا ماركيز (في مجالي الصّحافة والرّواية على وجه الخصوص) في هذا الكتاب، ويشكّل كل ذلك العمل الحقيقي الأكثر تنوّعا وثراء لمراسل صحفي سبق عصره، وبذّ زمانه منذ أن كان شابّا رخو العود ،غضّ الإهاب، شفافا طريّا هناك في مدينتي ‘برّانكييّا’ ثمّ في ‘بوغوتا’، حتى أحاطت به الأضواء من كلّ جانب بعد حصوله على أعلى وأرقى تكريم أدبي في العالم وهو (نوبل في الآداب) عام 1982.إلاّ أنّ ‘ غابو’ إستمرّ في تعاطي الصّحافة ، بل وتأسيس صحف جديدة أخرى في عالم كان قد طفق يقول للكلمة المطبوعة .. وداعا.
عبر ودروس
في هذا الكتاب نجد مراسلات واستجوابات لهذا الكاتب المبدع ، والصّحافي اللاّمع الذي يناديه جميع أصدقائه المقرّبين باسم ‘غابو’ (وهو تصغير من باب التلطيف لإسمه الشخصي غابرييل) ، بدءا باستخفافاته وإزدرائه لبعض هذه الإستجوابات ، وطبيعة ونوعيّة تغطيته لأنباء الخطف والتحدّي والرّهان، وإستجوابه المثير للفنّانة الكولومبية المعروفة ذات الأصل اللبناني ‘شاكيرة ‘، أو استجوابه الأكثر إثارة مع رئيس فنزويلا الرّاحل الغريب الأطوار ‘أوغو تشافيس’ في الفضاء وهما يطيران معا من ‘لاهافانا’ إلى ‘كراكاس’، ويختتم ‘غابو’ هذا الاستجواب قائلا: ‘ بينما كان تشافيس مدجّجا بحرّاسه الشخصيّين المسلّحين، ومرافقيه العسكريين الذين تعلو صدورهم الأوسمة والنياشين ، ومحاطا بصفوة أصدقائه وخلاّنه شعرت أنّ إلهامي قد ارتجف وجفّ، إذ خيّل لي- خلال هذه الرحلة – وكأنّني استجوبت بمتعة فائقة شخصين متناقضين وليس شخصا واحدا، هما على طرفي نقيض الواحد بالنسبة للآخر،الأوّل يقدّم له الحظّ العنيد المتمادي في غيّه فرصة لإنقاذ بلده، والآخر كمخادع يمكن أن يدخل التاريخ باعتباره طاغية.( نشر هذا الإستجواب في مجلّة ‘كامبيو’ الكولومبية الأسبوعية الصّادرة في بوغوتا في 1 شباط/فبراير1999).
هذا الكتاب يعيد نشر أشهر وأهمّ المراسلات الصّحافية الكبرى التي أنجزها ماركيز على امتداد حياته العملية والإبداعية،كما أنّه يضمّ كذلك ملاحظاته الصغيرة والقصيرة الموفية (أيزنهاور وهو يبتاع اللعب لأحفاده خلال مشاركته في اجتماعات حاسمة في أوربا في خضمّ الحرب الباردة)، كما يتضمّن الكتاب تحقيقات كبرى مثل وقائع مفصّلة حول صعود السّاندينيين في نيكاراغوا، هذه المراسلات التي كانت تنشر كذلك في كبريات الجرائد الإسبانية بالإضافة إلى صحافة أمريكا اللاتينية، تعتبراليوم رمزا ونموذجا رائعا لصناعة الصّحافة في مختلف الأزمان، وهي تعتبركذلك دروسا فريدة من نوعها لهؤلاء الذين يمتهنون مهنة الصّحافة متوهّمين أنه يمكنهم الكتابة دون أن يروا، أو دون معاينة أو معايشة الحدث والخبرعن كثب.
إنّ أستاذية غابرييل غارسيا ماركيزتركّزت أساسا في قدرته الهائلة على إعمال النظر وتحديق البصر فيما يريد أن يكتب عنه أو يعالجه . وفي 512 صفحة من هذا الكتاب يجد القارئ نماذج حيّة، وأمثلة فريدة من الأعمال الصّحافية المبهرة التي تعكس بشكل أو بآخر إسهامه الكبير في ‘أحسن مهنة في العالم’ كما يحلو للكاتب والصّحفي الإسباني البارز ‘خوان كروث ‘ أن يصفها في مقال له حول هذا الموضوع المنشور في صحيفة ‘الباييس’ الإسبانية في شهر شباط/فبراير 2013..
ذكريات مضيئة
يقول ماركيز في إحدى مراسلاته الصحافية ‘: إنّ أحلى أيام وسني عمره كانت خلال طور الدراسة، وهو يتذكّر عندما كان في رحلة قام بها على ظهر مركب عبر نهر ‘ماغدالينا’، ثم في قطار قديم نحو بوغوتا ليجتاز إختبار الحصول على منحة دراسية، كان عمره 13 سنة فدنا منه رجل وطلب منه كتابة قطعة شعرية لإهدائها لخطيبته كان ماركيزقد غنّاها مع مجموعة من الطلبة ‘السواحلييّن’ المتّجهين كذلك مثله إلى العاصمة بوغوتا بحثا عن منح دراسية، وتابع ماركيزحديثه قائلا: ‘بعد مرور أيام على هذا الحدث رآه الرجل نفسه الذي كان قد طلب منه على متن القطارالقطعة الشعرية إيّاها ،وهو واقف في طابور طويل أمام مبنى وزارة التربية في بوغوتا تحت شمس حارقة ليتقدّم لإمتحان الحصول على منحة دراسيّة، فسأله: أنت، ماذا تفعل هنا..؟ وحينما ذكر له السّبب قال له الرجل: دع عنك هذا وتعال معي، فقد كان هو المدير العام للمنح بالوزارة. وهكذا خصّه بمنحة على الفور لمتابعة دراسته في معهد ‘سيباكيرا’ (مدينة قريبة من بوغوتا). وقد شكّل ذلك أولى خطواته في درب الصّحافة والأدب والشّهرة الواسعة.
القدس العربي