غارسيا ماركيز.. سينما مُغَلَّفة بالأدب/ قيس الزبيدي
قلة من عشّاق الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز تعرف علاقته الوثيقة بالسينما. صحيح أن رواياته مثل “قصة موت معلن” و”الحب في زمن الكوليرا” حُوّلت إلى أفلام، لكنه كتب بنفسه أيضاً سيناريوهات كثيرة، ووضع كتاباً عن المخرج التشيلي (من أصل فلسطيني) ميغيل ليتين بعنوان “مهمّة سرية في تشيلي”.
كذلك، أمضى صاحب “وقائع موت معلن” وقتاً طويلاً في إعداد ورشات لتطوير القصص والحكايات في مدرسة “سان أنطونيو دي لوس بانيوس الدولية للسينما والتلفزيون”، ليتم تحويلها، بعدئذ، إلى سيناريوهات في ورشة ماركيز في المكسيك، بهدف دعم المدرسة مالياً.
من هنا، لم يكن اختياره رئيساً للجنة تحكيم “مهرجان كان السينمائي” في عام 1982، بسبب قيمة أعماله الأدبية وحسب، إنما أيضاً لدوره الفعّال في تقديم أعمال جميلة للشاشة الفضيّة.
وقبل شهور قليلة، صدر كتاب “غارسيا ماركيز والسينما” للناقد المصري عصام زكريا ضمن منشورات “مهرجان القاهرة السينمائي الدولي” 2014. يتألف العمل من أربعة فصول، الثلاثة الأولى منها تعمل كما لو أنها مقدمة وتوطئة للفصل الرابع، إذ يتناول ثلاثة عشر فيلماً من الأفلام التي حُوّلت إلى السينما بعد اقتباسها عن قصص ماركيز ورواياته، إضافة إلى أفلام أخرى كتب لها السيناريو بشكل مباشر.
يعترف ماركيز أن تجربته في السينما عزّزت إمكاناته الروائية، ويستشهد بالناقد الأميركي دونالد إم موراليس الذي يرى أن كل شيء كتبه قبل رواية “مئة عام من العزلة” ما هو إلا سينما مُغَلَّفة بالأدب وقصص مؤهلة بشكل تلقائي لأن تصبح أفلاماً. أما الناقدة الأميركية كاثلين ماكنيرني فترى أن جميع أعمال ماركيز، التي تعدّ ثانوية، تتميز بخصائص بصرية قوية جداً وهو أمر يعود إلى تأثير السينما الكبير عليه.
تبدأ “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” وكأنها سيناريو كُتِب بما يسمى لغة واصفة، وهي من ناحية الأسلوب – بحسب ماركيز – أميل إلى السيناريو السينمائي، “الشخصيات تتحرك وكأن كاميرا تتبعها”. ويضيف “أشاهد الكاميرا: نزع الكولونيل غطاء علبة البن فتأكد أنه لم يبق فيها سوى قدر ملعقة صغيرة، تناول إبريق القهوة من الموقد وسكب نصف ما يحتويه من ماء على الأرض الترابية وكشط بسكين محتويات العلبة ونفضه فوق الإبريق حتى سقطت آخر ذرات البن مختلطة بصدأ العلبة”.
تأثر ماركيز بأفلام الواقعية الجديدة الإيطالية ووقع في عشق فيلم “سارق الدراجة” لفيتوريو دي سيكا وكتب فيه شعراً، وعدّه أكثر الأفلام إنسانية في تاريخ السينما. كذلك تأثر بفيلم روسيلليني “الجنرال دي لا روفير” الذي مثل شخصيته دي سيكا وتمنى أن يرسم بنفسه شخصية الجنرال في رواية.
ورغم إعجاب ماركيز بفيلم “قصة خالدة” (1968) لأورسون ويلز وفيلم “اللحية الحمراء” (1965) لكوروساوا، الذي شاهده خلال عشرين سنة ست مرات، إلا أن تأليفه رواية “قصة موت معلن” واتّباعه فيها أسلوباً سردياً يعتمد بناءً بوليسياً كان نتيجة تأثّره وولعه بأسلوب التشويق والإيقاع السريع في أعمال ألفرد هيتشكوك.
يرى ماركيز أن مهنتيه كروائي وكاتب سيناريو مختلفتين اختلافاً جذرياً، لأنه حين يكتب رواية لا يشارك أحداً بأي شيء، أما حين يكتب للسينما، فيكون عمله تابعاً ويصبح عمله جزءاً من عمل آخرين من مخرج وطاقم تصوير وممثلين. أيضاً من يقرأ الرواية يتخيل الأمور كما يشاء ويتصور أشكال الشخصيات وتأثيث الأمكنة والجغرافيا، أما من يشاهد الفيلم فلا تترك له الشاشة حرية للخيال: “أنا أكتب والقرّاء يتخيلون”.
لكن تبقى كتابة السيناريو، التي يجدها عملاً إبداعياً، سلطة يخضع لها الأدب، فمن دون السيناريو الأدبي لا توجد سينما روائية. ويبدو لماركيز أن كاتب السيناريو هو مجرد مسمار في ماكينة السينما: “أستطيع أن أقول إن ما كنت أراه على الشاشة لم يكن على الإطلاق كما تصوّرته أثناء الكتابة”.
من المعروف أن ماركيز لم يسمح أبداً أن تُحوّل روايته “مئة عام من العزلة” إلى السينما، ورفض عرضاً من الممثل أنطوني كوين بتحويل الرواية إلى فيلم لقاء مليون دولار. ويقول في هذا الصدد: “لأنني لا أريد أن أجد الكولونيل أورليانو يتحول إلى صورة أنطوني كوين على أغلفة الرواية”.
لكنه وافق على تفليم روايته “الحب في زمن الكوليرا” بعد إلحاح المنتج سكوت ستايندورف الذي استمر ثلاث سنوات، وذلك لقاء ثلاثة ملايين دولار، رغم أنه اعتقد أن تحويلها إلى السينما مهمة عسيرة، لأنها رواية ملحمية مثل “مئة عام من العزلة”، وقد كتبها ماركيز في نحو خمسمئة صفحة، وتمتد أحداثها على ما يقرب نصف قرن في أزمنة متعاقبة وأمكنة متعددة.
ومن الجدير ذكره أن ماركيز ليس الروائي الوحيد الذي تم تقديمه عربياً في كتاب حول خصوصيته مع السينما، فقد نظّم “مهرجان أبوظبي السينمائي” في دورته الخامسة عام 2011 برنامجاً سينمائياً خاصاً كانت مناسبته الذكرى المئوية لميلاد نجيب محفوظ، وأصدر المهرجان كتاب “نجيب محفوظ سينمائياً”، والذي ساهمت فيه كاتبة السيناريو المكسيكية باث إليثيا غارثيا دييغو التي حولت روايته “بداية ونهاية” إلى فيلم أخرجه زوجها ريبتسين، ونال عنه جائزة أفضل فيلم في “مهرجان سان سباستيان السينمائي” والجائزة الذهبية وجائزة النقاد الدولية في “مهرجان المكسيك السينمائي” في عام 1994.
وتقول الكاتبة: “سحرتني رواية “بداية ونهاية”، لأن نجيب محفوظ حكواتي متمرّس، وما سحرني فيها أنها تحكي عن عائلة يدفعها المجتمع إلى أن تتوحش ويبدأ أفرادها بأكل بعضهم بعضاً، كما لو أنهم من أكلة لحوم البشر”.
ثلاثة أعمال من الأفلام الماركيزية اعتبر الناقد راميرز أوسبينا أنها ترقى إلى مصاف النتاج الأدبي للروائي الكولومبي، أولها “ليس هناك لصوص في هذه المدينة” الذي أنتج عام 1965 وقد أخذه المخرج المكسيكي ألبيرتو إيزاك عن قصة لماركيز، ويظهر فيه أثر الواقعية الإيطالية بقوة، وإن تخللته مشاهد متأثرة بأعمال التجريبيين والسورياليين.
والعمل الثاني هو “وقت للموت” الذي عُرض عام 1985 من إخراج الكولومبي خورخي تريانا وقد كتب ماركيز السيناريو له كاملاً. بينما “معجزة في روما” ثالث الأفلام المأخوذة عن قصة لماركيز من إخراج الكولومبي ليساندرو دوكي نارانجو في عام 1989.
وبعد حصول ماركيز على نوبل في عام 1982، عرض عليه المخرج الإيطالي فرانشيسكو روزي تحويل روايته “قصة موت معلن” إلى السينما، وبالفعل أُنجز الفيلم وعُرِض في عام 1987 في “مهرجان موسكو السينمائي الدولي”، حيث اعتُبر واحداً من أفضل الأعمال التي اقتبست عن أعماله الأدبية.
العربي الجديد