صفحات الثقافة

لـمّا تُركنا في عهدة النهر الطويل/ بيجان ماتور

 

 

كلُّ امرأةٍ تعرفُ شجرتها

 

عندما أتيتك

كنتُ أريدُ أن أفردَ جناحيَّ

فوق تلك المدينة المنسيّة

المبنية بالحجارة السوداء،

وأجِدَ لي شجرةً أفيءُ إلى أفنانها

وأصرخَ من فرط الألم.

 

كلُّ امرأةٍ تعرفُ شجرتها.

 

حلّقتُ في تلك الليلة.

عبَرْتُ المدينة التي يخشى الظلامُ دخولَها.

دون ظلٍّ رفيقٍ

تكوّرتْ في هَجْرِها الروحُ.

 

وعويتُ مثل كلب.

 

 

روح يعتريها البرد

 

في بحره عبرتُ كوناً مهولاً

أرَيْتُهُ الروحَ التي ابتدأت من محض طيف.

ما تراءى أنه بحرٌ جاشَ بالدمِ وأنّ الأرضَ

كانتْ خواء.

في الخواءِ يَعْمَهُ العالم.

مهيضةُ الجناحين أنا الآنَ.

والأمواجُ امتصّت الدمَ الذي اندفقَ من الجرح.

سأُريهِ روحاً يعتريها البردُ.

ثم لأبيتنّ في العتمة،

دون أن أنتظرَ مجيءَ أُمٍّ

أو أن أتحوّلَ إلى ابنة.

 

 

حديقة الدم

 

تركتُ له في حديقة الدمِ حتى الصباح،

حتى نهار الولادة، الثديين والحليب.

 

كيف للصخور الصلدة، الضاربةِ عميقاً في الأرض،

أن تتحمّل رؤوسها.

يُقْبل طائر برّيّ على جناحين خفيّين، جناحين

أبداً لا ينفتحان.

لا يمكن للآدميّ أن يتذكر ما تتذكرُه

روحٌ قديمة.

إنه شخصُ العزلة.

لفظةُ الرغبة معلَّقة على شجرة الحبّ عديمةِ الظلال.

خرساء. دون دم.

 

 

رياح تُعَوِّلُ في الدُّور

 

عندما وُلِدنا

كانتْ أمّنا

مَن أوصى بصنع التوابيت لنا

وملأتها بالمرايا الفضيّة

والحجارة الزرقاء الداكنة

والأقمشة الـمُهَرَّبة من حلبَ

ثم

وضعتنا في تلكَ التوابيت

وهمست في آذاننا

عن الطرقات

والرياح

والدُّوْر.

ولكي تجلوَ عنّا الهجرَ في العتمةِ

أضافت طفولتَنا أيضاً

لعلها، بتلك الطفولة،

تُضفي علينا السّلوى.

لكننا لـمّا تُركنا

في عهدة النهر الطويل الذي ماجتْ مياهه

بدمٍ سالَ من جروح النصالِ على ظهورنا

لم ترضَ أمُّنا بهذا الانتهاك

لذلك

مضينا نحكي للمياه،

والأم سادرةٌ في نومها،

أننا قد أوغلنا في البُعد الآن.

 

كلُّ شيء بقي على حاله

من ذاك الفرار، والجميع هنا.

أنا هنا

إخوتي وأخواتي هنا بخساراتهم

أمي بفساتينها

أخي بخوفه من الحرب

أبي هنا، لكنه ليس يعي

أن العالم من حولي قد انكمش

بكليّته كحلمٍ

كلّما طالَ، طالتِ الآلام.

 

 

صوت الغفران

 

كان ذلك منذ زمن بعيد، بعيد للغاية.

رأيتُ امرأة تغمر الفضةَ كامدةَ البريق في راحتها

بالماء.

عاريةَ القدمين،

تحدثت عن أسلافها،

عن العودة إلى الماء،

عن الوجود الخبيء.

 

عادت إلى الماء.

وتركتْ لله صوتَ الغفران.

ولما تزلِ الأرضُ الخرابُ

صوتَها،

الماءَ

الذي تلتمسه

الصحراء.

 

* شاعرة كردية تركية من مواليد عام 1968، تعتبر من أبرز الأصوات في الشعر التركي المعاصر

** ترجمة أحمد م. أحمد

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى