صفحات الحوار

غالية قباني: نظام الأسد حرم الشعب من الاستمرار في التظاهرات السلمية


ملهم الحمصي

دمشق: ترى الكاتبة والصحافية السورية غالية قباني أنّ النظام السوري حرم الشعب من الاستمرار في سلميته بسبب حملته الشرسة لـ”إخراس” كل الأصوات المعارضة. وتقول قباني في حوار مع “إيلاف” إن الأسد يسعى الى جعل الثورة تبدو صراعًا طائفيًا.

يذكر أن قباني، اضطرت الى الاقامة خارج بلدها، لكنها لم تفقد يوماً الأمل في العودة إليه وهو ينعم بالحرية والكرامة والمساواة لكل مواطنيه، تناول قلمها الشأن السوري دوماً ودافعت عن مطالب شعبها أينما حلت في العديد من الصحف والمجلات العربية.

– كيف تنظرين إلى الثورة السورية بوضعها الحالي بعد مرور سنة ونصف؟

أراها ثورة تسعى اطراف للغدر بها، بالشائعات، أو بتسريب بعض المتطرفين الذين صنعهم النظام ليرعب بهم العالم في العراق ولبنان. وها هو اليوم يخترق بهم الانتفاضة السورية لتبدو مجرياتها صراعًا طائفيًا سيؤدي الى صراع اقليمي. يريدها صراعًا داخل المجتمع وليس ثورة طالبت بحياة أفضل وحريات اكبر وانتماء لسورية جديدة.

لقد خلق الصراع الذي خلقه والحلول الامنية التي انتهجها فراغًا تسرب منه من يريد أن يقف مع السوريين بحسن نية، ومن يريد أن يجد له موقع قدم ايضًا. أرى محاولات “التسميم” التي تجري بشكل فج أو بشكل خفي.

– هل تخلت الثورة السورية عن مبدأ السلمية الذي رفعته طويلاً مع الاتجاه نحو عسكرة الثورة؟

هناك فهم مغلوط للسلمية يعتقد البعض أنه يعني الاستمرار بتقديم الاجساد قربانًا لنار عناصر العسكر والامن والشبيحة والوقوف امامهم لتطالها اسلحتهم. هذا غير صحيح. لقد طالب الشعب في مظاهراته بدولة الحريات التي يحلم بها، دولة المؤسسات الديمقراطية لا دولة الميليشيات والأمن. نزل الشعب الى الشوارع يغني ويرقص مستعيدًا فضاءات مكانه التي احتلت بأسلحة القمع منذ ثلاثة عقود من حكم آل الأسد. قالها بالغناء وقالها بحركة جسده وتصفيقة أكفه ولافتاته العبقرية في مضمونها. العالم كله كان شاهدًا على تلك الأعراس وعلى قمعها، وهي سلمية غير مسلحة.

 لقد حرم نظام الاسد الشعب السوري من تطبيق سلميته هذه. اغتيلت التظاهرات ووجه اليها السلاح وبدأت حملة شرسة من كتائب النظام لإخراس كل الاصوات السلمية، اعتقل الشباب الذين لم يحملوا سلاحًا واحدًا، وعذبت وانتهكت ارواحهم واجسادهم التي أعيدت جثثًا واشلاء بشرية تحرق القلب. نتيجة هذه السياسة كانت ردة فعل للدفاع عن النفس وعن الآخرين، بدءًا من الجندي الذي كان يطلب منه أن يقتل ابناء شعبه فانشق عن مؤسسة عسكرية خائنة للمهام الاصلية التي انشئت من أجلها، أي الدفاع عن ارض الوطن وشعبه، ومن هنا ترجم الوجدان الشعبي للمتظاهرين شعارًا بسيطًا وذكيًا عنوانه “خاين يللي بيقتل شعبه”.

 إن انتهاك قوات الاسد للبيوت والاعراض والاجساد بصورة وحشية فائقة دفع البعض الى حمل الأسلحة اليدوية البسيطة قياسًا بالدبابات وعربات وصواريخ النظام الوحشي. الشباب الصغار الذين حرموا من مدارسهم وبيوتهم وأماكن عملهم ما كان امامهم من خيار الا حمل السلاح، الى اين يذهب من لا بيت له ولا مدرسة ولا ملعب!! هؤلاء ضحايا الاسد لا ضحايا الثورة. ضحايا نظام أسقط “السلمية” عندما رفع الحلّ الامني في وجه المتظاهرين منذ اللحظات الاولى، في وجه المتظاهرين السلميين حتى الأطفال.

– ما هي قدرة النظام على الصمود بعد كل هذه المدة من التظاهر والثورة ضده؟

هذا السؤال يحتاج الى خبير استراتيجي إن كنا سنبحث قدرة النظام في السلاح والعتاد. لكن ماذا عن القدرات النفسية، هل يستطيع الجيش وقوى الأمن الاستمرار في القتل هكذا من دون كلل!! هل ينامون ويستيقظون من دون كوابيس بأن ثمة من يلاحقهم لينتقم لدمه؟ هل يتمتعون بطبيعة عملهم اثناء الدوام الرسمي القائم برنامجه على اطلاق الذخيرة والمدافع على المباني والأنفس التي تتهاوى وتصير غبارًا سامًا ولحمًا متشظيًا ولونًا احمر يشوش على كل الألوان في ذاكرتهم؟

إن كان هؤلاء بشراً فسيقعون في امراض نفسية وبدنية تحتاج علاجًا لوقت طويل، وإن كانوا وحوشًا غير قابلين للتحول الى النوع البشري. هؤلاء هم من يحارب بهم النظام، والرهان هو على صمودهم بعد اشهر طويلة من القتل والعنف، في أن لا ينقلبوا في النهاية ناحية من يزج بهم في معركته الخاصة.

– ما هي أبرز أوجه المعاناة التي تشعرين بها ككاتبة ومثقفة وأنت ترين ما يحدث لبلدك؟

يتعبني أنني لا املك غير متابعة ما يحدث عن بعد..أشعر بالغبن الذي لحق بهذا الشعب وبصمت العالم حياله، هذا الصمت المتآمر الذي وقف يتفرج ببرود اعصاب من دون أن يفعل ما يوقف هذه المجازر، مكتفيًا بـ “العلاك المصدي” كما يقول السوريون، عن أي كلام لا جدوى منه، ينطبق هذا على طقوس الاجتماع في مجلس الامن وعواصم العالم لترداد الكلام نفسه والخروج بالنتائج نفسها. المجازر التي تقع برقبة الشعب السوري وصمة عار على جبين البشرية في العام 2012، أي في الألفية الجديدة من عمر البشر الذي تتباهي أنظمته القوية مثل الولايات المتحدة باختراق المجرات وفك شفرة الكون، بينما تركت السوريين لموسم حصاد أرواحهم. عالم كاذب ومنافق. سيذكر التاريخ أن من قام بالمجازر التي يندى لها الجبين، هو بشار الاسد امام شهود عيان باردين، وسيعدد التاريخ أسماءهم: أوباما، كاميرون، كوفي أنان، نجاد، بوتين، كاميرون.

– كيف تنظرين إلى تعدد تيارات المعارضة السياسية في الخارج والداخل، وما المطلوب لتوحيدها، أو على الأقل التوافق على قواسم مشتركة؟

المجتمع السوري مجتمع معقد ثقافيًا وتاريخياً وليس مجتمعًا بسيطًا غلب عليه اللون الواحد عشائرياً أو قوميًا. هذا مجتمع لم يكن في تاريخه كله من البلدان الهامشية التي نادرًا ما تمر بها السياسة والمال والاعمال. سوريا تاريخيًا كانت أرض عبور للافكار والأديان، واستراحة وممرات استراتيجية لطريق الحرير الدولي وطريق الحج وطرق التبادل التجاري مع العالم. مجتمع بهذا القدم من التعقيد الثقافي والاجتماعي يشعر كل فرد فيه بأهمية التاريخ الذي أنتجه ويقف على ارضيته، هذا قبل أن يأتي نظام استبدادي أخرسه لأربعة عقود، لذا فإن من المتوقع أن يتحرك بعنفوان، يكون أهوجًا احيانًا، عندما تأتي الفرصة ليلتقط هويته التاريخية من يد جلاديه.

من المؤكد أن مجتمعًا بهذه المواصفات سيشهد هذا النوع من التمزق حتى يمرّ وقت وينتبه كل فرد فيه أنه بمفرده لا يساوي أكثر من “غرام” في ميزان السياسة، بينما يساوي مع غيره وزناً اكبر، وسيثقل الوزن ويكسب أهمية كبيرة كلما اتسعت المجموعة التي ينتمي لها ويعمل معها. لست متشائمة كثيرًا من المستقبل إن وضعتني امام احتمال أن اكون شديدة التفاؤل.

– هل ترين أن دور المثقف السوري كان مواكباً للشأن السوري أم متأخراً عنه، وكيف يمكن تفعيله؟

كل حركات التغيير الكبيرة في المجتمعات المتقدمة احتاجت لمثقفيها ومفكريها لمساندتها في تثبيتها ولحمايتها من سهام مضادة. لو أن الثورة الفرنسية تركت لوحدها تعاني عصف الرياح المضادة وتلاعب اصحاب المصالح بها، لما تمتع الفرنسيون اليوم بثورتهم، فقد كانت هناك دومًا نخبة فكرية مثقفة تحمي قيم تلك الثورة في “العدل والمساواة والإخاء”.

في مجتمعات “الربيع العربي” واكب عدد من المثقفين العرب مطالب شعوبهم في الانتفاضة على الفساد والطغيان. أما في سوريا فقد اعتاد المثقفون أن يكونوا في مقدمة المشهد المتمرد على السلطة، منهم من تمت ملاحقته بلقمة عيشه ومنهم من خسر حياته في السجن بعد مرض عضال، اقلهم هو الذي خسر سنوات من عمره في الاعتقال. بعض هؤلاء فاجأتهم الانتفاضة فارتبك ولم يعترف بها لأنه يريد ثورة بشروطه، وبأيديولوجيته، فجاء موقفه لصالح النظام بشكل غير مباشر. على أن موقف هذه المجموعة غطّ احيانًا على موقف بقية المثقفين الذين تفاعلوا مع حراك شعبهم وصاروا جزءًا منه، بل أن كامل المشهد تكشف عن اقلام مميزة لم نكن نعرفها من قبل أو لم ننتبه اليها من قبل، اضافة الى تعميق معرفتنا بالمعروف منها وهي تتابع الحراك الثوري وتستعيد المشهد السابق عليه.

في الحقيقة لقد تم تشريح المجتمع السوري والشخصية السورية كما لم يحدث من قبل بهذا الحجم وهذه الكثافة والمباشرة. بمعنى أن الكتابات لم تلتف على الموضوع ولا تحدثت عن المجتمعات العربية لتصل في النهاية الى الحديث عن سوريا، كما كان يحدث في كثير من الاحيان في السابق.

أما المثقفون الذين خذلوا شعبهم عندما تعالوا عليه وعلى ثقافته التي من بينها مصطلحاته الاسلامية، فقد عزلوا أنفسهم وهبطوا بها من ذلك البرج العاجي الى قعر الارض المتصحرة حيث لن يجدوا الا الفراغ الذي يدور حول النظام، النظام ذاته الذي اكتشفوا فجأة أنه “علماني، حامي الاقليات والمرأة، الخ من أوهام يريدون أن يقنعوا انفسهم بها كي لا ينخرطوا في حراك غالبية الشعب السوري.

– كيف ترين مستقبل الحل في سوريا، وإلى أين تتجه الأمور برأيك؟

المستقبل يشترط علينا أن نكون صبورين لأن الديمقراطية لن تأتي على شكل قالب جاهز يتم تركيبه فتتدخل البلاد في حالة الديمقراطية. علينا العمل كثيرا لنلملم هذا التشظي الذي تكشف فجأة بعد أن كان يعسّ تحت تراب الخوف، اضافة الى التشظي الذي نتج عن الحراك المفاجئ منذ منتصف مارس/آذار 2011. نحتاج الى عمل كبير لنستعيد المجتمع المدني، أساس دولتنا القادمة التي نطمح لها بالديمقراطية المحملة بالحريات والتعددية على تنوعها في هذا المجتمع الثري بامتزاجه الثقافي.

أثق في النهاية بأن غبار معركة الكلام والرصاص سيهدأ لتستعيد سوريا ودهها الحضاري، بشعبها الذي يحب الحياة وينتج اشكالاً لها عبر الموسيقى والطبخ والعمارة والقصّ والمطرزات وكل أشكال الفنون. ولن أنسى أنه شعب بارع في مجال الأعمال وخلق مشاريعها، والتجارة عمومًا بحاجة الى التعامل مع الآخر، اذ لا يمكن لبائع شاطر أن يكتفي ببيع اهل حارته أو قومه، وهناك مثل شعبي حلبي يقول “أعرج حلب وصل للصين” دلالة على شطارة الحلبي الذي لا يكف عن الحركة. التاجر النبيه يتعامل مع كل العالم فيأخذ من افكار الآخرين ويمنحهم نتاجه، ولا يتوقف أفقه عند حدّ معين. بهذه الطريقة يصنع امبراطوريته التي تحتاج الى السلام والاستقرار وهو ما فعله السوريون على مرّ العصور.

ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى