غرافيتي الشعر والكلمة
محمد حجيري
قلّة من الكتاب والشعراء العرب، استخدمت عبارات من قصصها أو من قصائدها لتكون فكرة لعمل غرافيتي أو طبعة “إستنسل” على جدران المدن والبلدات. فعدا عن الشاعر محمود درويش الذي تطرقنا إليه في موضوع سابق، ثمة مجموعة من الغرافيتيين تستخدم بعض أقوال الروائي غسان كنفاني والشعراء أبو القاسم الشابي، أمل دنقل، صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي…
والحال أن الغرافيتي ليس رسماً وألواناً فحسب، قد يكون عبارة مأثورة وتتجلى في قوة الكلمة، أو جملة شعرية لشاعر شعبي أو ذائع الصيت مثلاً، والأسماء التي ذكرناها كانت نماذج بارزة في المدة الأخيرة في هذا المجال، خصوصاً في مصر وتونس وسوريا وفلسطين.
اختيار أقوال الشعراء والكتّاب لتكون غرافيتي على الجدران يأتي تبعاً لمعايير سياسية و”نضالية” و”نمطية”. في تونس استحضر بيت الشابي الشهير “إذا الشعب يوماً أراد الحياة…”، ليصبح غرافيتي يعبّر عن وجدان المتظاهرين ومرحلة التحولات الجديدة التي حصلت غداة سقوط الرئيس زين العابدين بن علي، كأن لا شيء أقوى من العبارة الشابيّة (النمطية) لتعكس واقع الأحداث. البيت الشعري، عدا عن بروزه في رسوم الـغرافيتي والملصقات الحزبية العربية عموماً والتونسية خصوصاً، نسمعه في خطب سياسيين وأناشيد بعض الفنانين “الثوريين” و”الموسميين”، وصار “ممجوجاً” إذا جاز التعبير.
توظيف قصيدة “إرادة الحياة” للشابي في الحراك التونسي، يوازيها استعمال قصيدة “لا تصالح” لأمل دنقل في الحراك المصري. الأخيرة التي اشتهرت في السبعينات، استحضرت خلال تحركات “ميدان التحرير” ضد نظام حسني مبارك وكتبت بأشكال متعددة ومتنوعة، وتناقلتها صفحات الـ”فيس بوك” لتصبح نشيد الجيل الجديد، وباتت شعاراً للموقف الرافض. حتى إن استعمالها لم يقتصر على عنوانها وعبارتها الأولى، فبعدما فقد الشاب المصري أحمد حرارة عينيه في تظاهرات الثورة في مصر، ثمة من رسم طبعة إستنسل لوجهه الحزين مع مقطع من القصيدة الدنقلية يقول: “أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما، هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى”… كانت قصيدة دنقل الأكثر تعبيراً عن حادثة أحمد حرارة الأليمة والمأسوية، كأنها مكتوبة لتصف حادثة هذا الشاب بالذات.
الأبنودي أيضاً حضر في الغرافيتي المصري، وحضوره أتى كتشجيع في التثوير الاجتماعي، فنقرأ من قصائده العامية على رسوم الجدران عبارات “لسه النظام ماسقطش” و”الثورة مش حكي.. لا ملكك ولا ملكي”… ويلاحظ أن اختيار الشعر العامي أو الفصيح، إما يرتبط بالحدث السياسي كما في عبارات الشابي ودنقل والأبنودي، أو بالمزاج الشعري كما في الغرافيتي الذي اختيرت فيه رباعية عاميّة للشاعر صلاح جاهين تقول:
“غمض عينيك وارقص بخفة ودلع
الدنيا هي الشابة وانت الجدع
تشوف رشاقة خطوتك تعبدك
لكن انت لو بصيت لرجليك… تقع
عجبي”.
على أن الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي عام 1972 في منطقة الحازمية (شرق بيروت)، يعتبر الأكثر حضوراً في رسوم الغرافيتي من بين الأدباء العرب، خصوصاً في المخيمات الفلسطينية. يبدو بالنسبة إلى مريديه ذلك المناضل والسياسي قبل أن يكون أديباً له قصصه ورواياته…
أحد أقوال كنفاني التي وظفت في الكتابات الـغرافيتية عبارة “لن أموت حتى أزرع في الأرض جنتي”، وهي كتبت في مخيم الدهيشة الفلسطيني بصيغة أخرى “لن أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي”. باتت هذه العبارة الغيفارية شعاراً للحالمين بتحرير فلسطين، لكنها لم ترق إلى مستوى عبارة “لماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟” التي يعتبرها بعض النقاد أشهر جملة في الأدب الفلسطيني، ناهيك عن كونها إحدى أكثر الجمل إثارة للجدل، وهي وردت في رواية “رجال في الشمس” وباتت أشهر من الرواية نفسها، واختيرت لتكتب كغرافيتي على خزان مياه في مشهد رمزي. والنافل أنه في سياق الرواية، يختنق ثلاثة فلسطينيين من الشخصيات، كانوا يحاولون الدخول عن طريق التهريب داخل خزان إلى دولة عربية، مات الرجال في الشمس ولم يطرقوا جدران الخزان طلباً للنجاة، خشية أن ينفضح أمرهم في خزان المهرّب أبو خيزران (شخصية في روائية)، كان الموت أسهل عليهم من العودة من دون الوصول إلى مكان يعملون فيه.
اختار بعض الذين يرسمون غرافيتي لكنفاني وضع صورته إلى جانب قادة سياسيين وفدائيين فلسطينيين، أمثال جورج حبش وياسر عرفات وليلى خالد وأبو علي مصطفى ووديع حداد. والنافل أن كنفاني كان عضواً في “حركة القوميين العرب” منذ العام 1953، وانتمى إلى “الجبهة الشعبية” جناح جورج حبش، وعمل صحافياً في دار “الصياد” ومجلة “الحرية” وأسس مجلة “الهدف”، وكان إلى جانب مهمته الثقافية مقرباً من جيل “الأحلام النضالية” الذي أخذ طابع ما سمي “العنف الثوري”، فهو على صلة وطيدة بالثوري وديع حداد. حتى إن الثوري الفنزويلي كارلوس المسجون بتهمة الإرهاب في فرنسا، قال إن التحاقه بالمقاتلين الفلسطينيين جاء بتوصية من كنفاني. وفي المدة الأخيرة، لجأ عشاق كنفاني إلى “طس” طبعة إستنسل لصورته وزّيلت بـ”كن مع الثورة”، بدا المشهد أقرب إلى أعمال الأميركي آندي وارهول، وترافق الإستنسل مع جدل بين بعض مؤيدي “ثقافة الممانعة” ومجموعات أخرى، متسائلين: “لو كان كنفاني حاضراً الآن مع من سيقف في خضم معمعة “ثورات الربيع العربي”؟
يمكن القول إن لكل حدث في الحياة كلمته، وما يختاره هواة الغرافيتي في اللحظات السياسية يتحول من دون شك بروباغندا لها وظيفتها الإنسانية أو السياسية أو الأيديولوجية، وحتى الأدبية.