غنائيات إغريقية/ صبحي حديدي
هذه، في اليوم العالمي للعمل، عودة إلى أيار (مايو)، ولكن سنة 1936، حين ذهب شاعر اليونان الكبير (1909 ـ 1990) إلى إحدى الساحات الرئيسية في مدينة ثيسالونيكي، ليتضامن مع إضرابات عمالية واسعة، فشاءت المصادفة أن يرقب بأمّ العين ـ عين الشاعر، المرهفة البصيرة المسلحة، غنيّ عن القول ـ مشهد أمّ تبكي ولدها المضرّج بدمائه على الإسفلت. ولقد كتب، يومها قصيدة «شاهدة»، التي تعدّ واحدة من أبكر وأبهى قصائده الطويلة، وفيها استثمر ريتسوس أشكال الشعر الشعبي الغنائي، اتسقت مع المضمون الإنساني والنضالي للواقعة، فحرّكت شرارة ثورة ثقافية عارمة في اليونان، خاصة بعد قيام الموسيقار اليوناني الكبير ميكيس ثيودوراكيس بتلحينها، من منفاه في باريس آنذاك.
إلى هذا كان ريتسوس قد تعمّد اختيار شكل إيقاعي تقليدي في بعض تفاصيله، رغم أنّ الميل الجمالي العامّ كان أقرب إلى التجريب والتطوير وتثوير أشكال الشعر بصفة خاصة. «أردت من خلالها أن أحصّن روح شعبنا، وأن أشدّد على هويته الوطنية، من خلال اختيار أوزان تقليدية»، قال ريتسوس سنة 1978، مستذكراً أقدار قصيدة أغضبت الجنرال ميتاكساس وطغمته العسكرية الدكتاتورية، إلى درجة إحراقها، مع مؤلفات أخرى، ضمن طقس فاشي هستيري، صيف سنة 1936، أمام معبد زيوس في أثينا.
لكن تجربة ريتسوس هذه، وسواها من القصائد ذات النَفَس الرثائي ـ الملحمي، لم تكن منفصلة عن النطاق الأعرض لتراث الشعر الغنائي في اليونان الحديثة، والمعاصرة. فالمـــوضوع الغنائي عنـــد جـــورج ســـيفيريس (1900 ـ 1971، نوبل الآداب لسنة 1963)، يأخذ صيغة صراع بين المعنى واللغة، من أجل تثبيت القصيدة المكتوبة باللغة الشعبية، المنطوقة في الحياة اليومية، الطيّعة أمام غناء البشر العاديين ورقصهم وأساطيرهم.
وهذه اللغة العامية جزء من اليونانية المحكيّة، وقد تنامت واغتنت وتطوّرت على الدوام، حتى باتت لغة الكلام والكتابة عند شعراء كلاسيكيين كبار، من أمثال ديونيسيوس سولوموس ويانيس مكريانيس.
وليس الأمر أن سيفيريس كان أوّل من استخدم اللغة الشعبية لكتابة الشعر في الأدب اليوناني الحديث. نعرف، مثلاً، الكثير من القصائد ذات اللغة الفولكلورية الغنائية عند قسطنطين كافافيس، وعند معاصري سيفيريس من أمثال كوستيس بالاماس، أنجيلو سيكليانوس، وكوستاس كاريوتاكيس.
سيفيريس امتاز على هؤلاء في أنه استخدم اللغة الشعبية من أجل ابتكار الصوت الحيّ القابل للغناء في قصيدة رفيعة الأسلوب، دون التضحية بالموضوعات المعقدة، والهموم الوجودية، وربما حتى الأزمات الميتافيزيقية والروحية.
والموضوع الغنائي أساسي، أيضاً، عند شاعر يوناني كبير آخر هو أوديسيوس إيليتيس (1911 ـ 1996، نوبل الآداب لسنة 1979)، امتــــدت حياته على معظم عقود القرن العشرين، وكان بين آخر كبار حداثيي القرن، ولعلّه صنع في اللغة اليونانية ما صنعه دانتي في اللغة الإيطالية.
وقصيدته العظيمة Axion Esti، التي يتكيء عنوانها على عبارة «جدير بالوجود»، المستمدة من طقس ديني بيزنطي عتيق، تنبض باللغة الحديثة الحيّة، ولكنها تستحضر صفحات حافلة من التاريخ الإغريقي، وتعبر الجُزُر والمناظر الطبيعية والحقول والأقاليم، قبل أن يتحوّل مزيجها الساحر إلى أغنية واحدة طويلة، طافحة بالموسيقى والشجن والكبرياء.
ولا بدّ أن ثيودوراكيس قد وقع تحت سحر هذه القصيدة الغنائية الكبرى، بدورها، حين استمدّ منها مقطوعات موسيقية، وأغنيات مؤداة على أنغام البوزوكي، وترانيم بيزنطية، وإيقاعات رقص فولكلوري، وموسيقى كلاسيكية أيضاً. وبسبب من شعبية هذا العمل (الذي قُدّم في مناسبة حصول إيليتيس على جائزة نوبل)، فإن قلّة فقط من اليونانيين لم يحفظوا عدداً من أبيات القصيدة، أو أنغامها، لأنها نموذج فريد على نصّ يمكن أن يجمع مختلف أساليب الشاعر، والكثير من أساليب ثقافته الوطنية، وأساليب عصره، دفعة واحدة. ونحن هنا أمام الغنائية الحارّة التي طبعت منطقة بحر إيجة وميّزت أعمال إيليتيس الأولى، وأمام اكتئاب سيفيريس، ونزق كافافيس، مثلما نتذكّر غنائيات سافو، وملحمية هوميروس، وترانيم الكنائس، والأغنيات الشعبية، والإيقاعات الراقصة…
ريتسوس، في العودة إليه، أعطى الشعر اليوناني، والإنسانية جمعاء، حفنة من القصائد الخالدة، الرفيعة في التزامها بقضايا الحقّ والحرّية والجمال، الجسورة تماماً في خياراتها الفنّية الطليعية أو التقليدية، والمنصتة عميقاً إلى أصفى ما تختزنه النفس الإنسانية من مزيج الغناء والشجن، الفرح والرثاء، والحسّ والتأمل. وللشعر العربي حصّة في هذه الغنائية الإغريقية، إذْ كان ريتسوس أوّل مَنْ استخدم تعبير «الملحمية الغنائية» في توصيف شعر محمود درويش، من باب امتداحه، هو الإغريقي العريق الذي وعى أقدار اقتران الملحمة بالغناء في حياة فلسطيني كُتب عليه أن يكون طروادياً، كلّ يوم… شاء أم أبى.
القدس العربي