غوستاف لو بون يقرأ العلاقة بين النظام السوري والجمهور الفلسطيني
طبعة ثالثة من كتاب ‘سيكولوجية الجماهير’:
مازن معروف
تنشر ‘ دار الساقي’ الطبعة الثالثة من كتاب المفكر الفرنسي غوستاف لوبون ‘ بسيكولوجية الجماهير’. المؤلف الموضوع قبل مئة عام تقريبا، يعرض لتحليل نفسي لحالة الجمهور، بوصفه كتلة ذات خصائص بسيكولوجية، وذهنية، تختلف تماما عن الخصائص البسيكولوجية والذهنية، لكل فرد من أفردها.
يعرض لوبون أمثلة كثيرة، تشدد على أهمية الوهم والأسطورة، ودورهما في نقل الفرد إلى الطبقة العاطفية، المتأسسة بفعل التربية، والنظام الاجتماعي العائلي، والتقاليد، والموروث الثقافي والحضاري والعادات. وحينما يتعلق الأمر بالجمهور، فلا يعود للتحليل المنطقي والضوابط العقلانية، أي دور يذكر، إذ أن الجمهور يوهم بالقوة التي اكتسبها للتو بفعل عدده، سواء كان مهولا او من بضع عشرات من الأشخاص، كما أنه يصير جمهورا منوَّما بفعل الفكرة، إلا انه جمهور وعلى الرغم من احتمال قيامه بالكثير من اعمال التخريب واشعال الحرائق والنهب، والاحتجاجات غير المسؤولة، يظل جمهورا قادرا كذلك على قلب المعادلات السياسية وفرض انظمة جديدة، وتغيير موازين القوى. لا بد من الإشارة أيضا إلى أن لو بون، الذي يبدو منزعجا من الجمهور، رغم تحليله المبهر له، يعتبره كتلة بشرية تتحلى بصفات الإنسان البدائي، المتوحش، المغيَّب العقل والرزانة، والمسيَّر بفعل حالة أو استشرت من فرد إلى آخر. كما يعزو لو بون ذلك إلى العرق، والخصائص الوراثية التي يكتسبها جمهور لاتيني ( وهو الأكثر همجية بحسب المؤلف) مثلا دون جمهور بريطاني. الدراسات اللاحقة لم تثبت هذه النقطة، إذ حتى الجمهور الإنكليزي مشاغب، وأدنى خسارة لفريقه في كرة القدم على المستوى الاوروبي، تضعه في حالة هيجان شديدة والأمثلة كثيرة على هذا.
-2-
قراءة كتاب لو بون، وفي ضوء التفسيرات التي يقدمها، تحيلنا إلى أمثلة حية، تحدث الآن. ونأخذ منها مسيرتي النكبة والنكسة، على الحدود اللبنانية والسورية مع فلسطين المحتلة. النقطة الاولى، في استعداد شباب للتقدم إلى الحدود، بلا أي محاولة لقياس معادل القوة للعسكر الاسرائيلي المتمركز هناك. لو بون يفسر نيابة عنا، هذه الظاهرة. فلا شك في أن ما دفع بهؤلاء إلى الحدود، ومن ثم استشهادهم، هي جملة عوامل، كلها تقريبا، عاطفية، لم يكن متاحا للعقل أن يتدخل فيها. فالشباب الفلسطيني، المتواجد في المخيمات، بالظروف الانسانية الصعبة التي نعرفها جميعا، هو على تماس يومي بصور المقاومين، والشهداء، والقياديين، المعلقة على الحوائط، وهذه الصور، بقدر ما تحمل من الواقعية، فهي كذلك، تتحول مع تقدم الزمن، إلى صور عتيقة، تجاور الاسطورة، تُضخَّم في المخيلة، وتتمركز بسبب تجييشها للعاطفة، داخل منطقة اللاوعي. يتعزز ذلك، بدور التلفزيون والإعلام، الذي يأتي بالممارسات القمعية الاسرائيلية، لتصب مباشرة في اللاوعي، وإن أصبحت في منطقة العقل، شيئا عاديا، تتعود عليه العين، غير أن أثرها العاطفي والوجداني، يزداد ويتعاظم داخل المساحة المستضيفة لأسباب تصرفاتنا اللامسؤولة. من هنا، نعتبر أن المخيمات مهيأة تماما لأي عملية استثمار، بشرط أن توضع هذه المخيمات، في مقابل صورة فلسطين الكلية، المؤطرة بهدف أسمى هو: التحرير، أو العودة. لكن الفرق بين ‘ تحرير فلسطين’ و’ العودة’، بمثابة الفرق بين جانبي خيط، أي انه فرق حساس جدا. وأي خلل في تقدير هذا الفرق، قد يؤدي إلى فشل التفاعل ما بين النظام ( السوري) والجمهور ( الفلسطيني). فالفلسطينيون دعيوا، إلى العودة، لا إلى التحرير. كان لب هذا الخطاب ( العودة) أكثر من كاف لتنشيط العاطفة الفردية بالأساس ( لأن كل فلسطيني يحلم بالعودة)، إلا انه، ولتقاسمه المشترك في نفوس الفلسطينيين جميعا، أدى إلى تكوين حالة جماهيرية واحدة، اتفقت في لاوعيها على ‘ العودة’. من هنا، انطلق الفلسطينيون، جماهيرا، تحت تأثير خطاب زجوا به، ولم يكونوا تحت الضغط. فهم وبملء إرادتهم، توجهوا إلى الحدود. أما فعلهم الفيزيولوجي هذا، فينم عن محرك عميق، لا مكان فيه للعقل بأن يتدخل ويحلل مخاطر هذه الخطوة. هذه الحالة الجماهيرية، أوهمت الفلسطينيين، بامتلاكهم قدرة خارقة، سوبرمانية، ناتجة عن العدد. فالكتلة الجماهيرية تلك، وإن بدت متواضعة قياسا بحجم وقيمة القضية الفلسطينية، إلا أنها ولشدة التصاقها بالمبادئ السياسية والانسانية التي تشكل العمود الفقري لوعيها الاجتماعي، تخيَّلت أن خسارتها لعدد من الأفراد، لن توقف مسيرتها نحو فلسطين، بل وبحسب تفسيرات لو بون، فإنه يمكن لنا القول أن الجماهير الفلسطينية تعاظم غضبها لحظة استشهاد بعض الأفراد، إلا ان غريزة البقاء، ارتدت عليها ههنا، لتقلل من سلطة العاطفة عندها، ولتردها إلى واقع عدم تكافئها والجنود الاسرائيليين المسلحين، ما ولَّد بالتالي، مكابح عقلانية، للارتداد على اعقابها والانسحاب.
-3-
لا شك في أن الفلسطيني، كان يراد إبقاؤه في حالة انبهار بالنظام السوري الممانع، ومن امامه حزب الله المقاوم الاول، والواعد بتحرير فلسطين، كلها. هذه الحالة، حافظ عليها النظام السوري، لكن من دون أن يمررها مباشرة بالتكتلات الفلسطينية على مستوى الافراد في المخيمات. فالنظام، تعاطى أولا ً بمسألة فلسطين، من منظور سياسي صرف، وعسكري أيضاً خارج المربع البشري الفلسطيني، وأصبح المدافعون عن القضية، خارج فلسطين، من غير الفلسطينيين ( سوريين ولبنانيين). هذه الحالة، تستفيد منها أنظمة، كسورية وحزب الله، لأنها تعبر بها من فوق الرؤوس، ولا تحط بها على الاكتاف. لا يعود مسموحا لأي فلسطيني، او لبناني معارض لسياسة سورية، التشكيك بمسألة تحرير فلسطين، على يد النظام السوري، كما لا يعود مسموحا لأي كان، بأن يتفحص سياسة سورية تجاه الفلسطينيين، ولا أن يدخل في التفاصيل التاريخية، ولا أن يستنهض القتالات الفلسطينية السورية، ولا الدور السوري كذلك في كبح جماح ياسر عرفات في لبنان الثمانينيات عبر حرب المخيمات. فلكي يتم التعاطي مع المبدأ الاكبر، أو الغاية الاسمى، على هذه الغاية أن تقدم على طبق سَامٍ، بعيد، غير ملموس، كما عليها ألا تكون عرضة لمراجعات نقدية تلطخها او تكشف عيوبها ـ إن وُجدت. اما من الناحية العاطفية، فإبقاء سورية على سياستها تجاه القضية الفلسطينية، كخطاب لا فعل ممارسة مباشر ( النظام السوري تجنب الالتحام مع الإسرائيليين، محتلي الجولان)، يولد كذلك، لدى الجمهور الفلسطيني التواق لاسترجاع أرضه، ملامح اسطورية لهذا النظام ‘ البطل’، وبالتالي، فإن الإبقاء على هذه السياسة فوق الرؤوس، يكون أثره في تحويل الأبصار إلى أعلى، والتفكير بالحلم، واستدراج العقل، إلى طبقة عاطفية، وشده باتجاه اللاوعي فيما يخص القضية. وهي كلها عوامل تراكمت، ولا تزال تتراكم، وإن بشكل أخف، في نفوس الفلسطينيين، مولدة لديهم استعدادا، لاقتحام الاسلاك الشائكة التي وضعها العدو الاسرائيلي على الحدود. غير أن الفائدة تعود إلى النظام السوري بأكثر من هذا، إذ أن المحافظة على سلطته فيما يخص الجماهير، يشكل له مظلة احتماء من جهة، كما ورقة سهلة، يستطيع التلاعب بها بحسب الظروف. وإذا كان نابليون بونابارت، وأدولف هتلر، وزعماء اشتراكيون او قوميون آخرون كلينين وستالين وموسوليني، قد فهموا تماما بسيكولوجية الجمهور من خلال اللعب على المقوم الديني او الإيديولوجي أو حتى المعيشي ( يا عمال العالم اتحدوا)، فإن التحول الذي طرأ بعد عام 1948، قدم لقادة العالم العربي أسهل الاوراق وأبسطها للتحكم بالجماهير وهي: قضية فلسطين. ولعل المثال الأبرز في هذا الإطار، جمال عبد الناصر. فنابليون مثلا، كان عليه أن يمثل في مصر على أنه تقيّ ٌ لكسب ودّ المسلمين، وأن يصبح متعصبا دينيا وبابويا متطرفا في إيطاليا لكسب ثقة الكهنة هناك، وحتى أنه كان مستعدا أن يوهم اليهود باكتشاف هيكل سليمان لو لزم الامر، ولا شك في أن تنقله بين هذا الخطاب الديني وذاك، كان إرهاقا كبيرا، قياسا بالسهولة التي ظفر بها نظام عبد الناصر بالجماهير، نتيجة ‘ تحريره’ لمصر ( وهي الصورة التي تكررت في الأدب المصري والسينما) ومناداته بالنظام البرلماني بدل نظام فاروق الملكي ومن ثم الفرز الجيو سياسي الذي انتجه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ما شكل مكسبا استراتيجيا له، معززا بـ ‘ اقتناع’ الجماهير العربية بالوقائع التي طرحها نظامه. أما النظام السوري، فسرعان ما وجد عقبة كبرى في وجهه، متمثلة بشخص ياسر عرفات الثعلب السياسي، والعنيد. كان على الرئيس حافظ الأسد أن يستدرج الحالة الفلسطينية لكي تشكل مقوما بشريا ‘ ملموسا’ داخل سورية، لا خارجها. أجبر على حماية ‘ بطولته’ الخاصة فيما يتعلق بفلسطين، وكان محتوما أن أي محاولة للتأثير على الجماهير خارج سورية، باستخدام فلسطين موضوعا، كانت ستؤول إلى التفتت وستفقد مفاعيلها، وذلك لاصطدامها بموجات ‘ بطولات’ منافسة، ذات عصب فلسطيني محض، وبالتالي، أقرب من الناحية النفسية إلى الفلسطينيين الجمهور المستهدف. سُمِح بولادة تنظيمات موالية كالجبهة الشعبية القيادة العامة، والصاعقة، وغيرهما لتكوين قناة وصل مباشر ولتأمين تأثيره إيديولوجيا على الجماهير الفلسطينية / اللاجئين، هناك. حاجة النظام إلى الجمهور، تحتم على هذا النظام، فعل كل ما هو ممكن، لرسم صورة بطولية / تلازم الاسطورة، وقد تصل في قوتها الخارقة إلى مستوى الخرافة.
-4-
أما الجمهور الفلسطيني، الذي لطالما كان في حالة من الغليان والحماسة، فإنه، ظل فاقدا الفرصة تماما، للتأمل، او التفكر في سياق الاحداث والتطورات، أو تحليل الاخطاء او الانسحاب إلى رؤى تحليلية تصونه من القتل والمجازر لاحقا، وتسهم في تنظيم نبض الآلة المقاومة لإسرائيل. وذلك لأنه كان منساقا في حالة عامة، مستشرية على المستوى الاجتماعي الضيق، بشكل لم يسمح حتى لأفراد بوضع ملاحظاتهم النقدية حول ممارسات منظمة التحرير وأخطائها في لبنان. ولا تخفى كذلك، عوامل البؤس المدقع الذي عاش في كنفه لسنوات، والاضطهاد الذي تعرض له، بخاصة على يد عناصر المخابرات – المكتب الثاني في لبنان، وهو ما ولد لديه دون أدنى شك، استعدادا نفسيا لركوب ‘ موجة التحرير’ مهما تكن عواقبها او فوضاها. هذه جملة من عوامل خارجية ساهمت في تغذية مساحة اللاوعي عنده، وتوهم ‘ الوقائع المستقبلية’ ( تحرير الأرض) قبل حدوثها، وذلك بسبب طريقة استعراض علامات هذه الوقائع ( كل ما كان في يد منظمة التحرير أشار إلى تحرير وشيك لفلسطين). النظام السوري، كما وحزب الله، المتمثلان بجهتي الممانعة في وجه العدو الاسرائيلي، ادخرا صورة فلسطين طيلة الأعوام السابقة. وفيما عمل النظام السياسي لسورية على الاحتفاظ بفلسطين، كصورة أسطورية، ليضع صورته مقابلها، كممانع خارق في وجه العدو الاسرائيلي دون منجز عسكري واحد، حفاظا على هيبة الدولة الممانعة، التي تنتصر بالصورة المحوكة في مخيلة الناس، من دون أن تخاطر بتقديم صورة واقعية، حربية، في مواجهتها لإسرائيل، وهي الصورة التي، إذا ما حققت، قد تدمر، بشكل لا رجعة فيه، الرسمة البطولية التي نُسِجت بإحكام في مخيلة الجمهور.
-5-
مقابل ذلك، فإن حاجة الجماهير إلى من يقودها، تقاطعت مع منجزات حزب الله على الصعيد الحربي مع اسرائيل، ولا يخفى أن الانتصارات التي حققها الحزب، كان لها مردود شعبي وتأييد فلسطيني قد يكون أكثر أهمية من الانتصار العسكري نفسه. عززت تلك المنجزات، إلى حد كبير، علاقة الشعب الفلسطيني بالحزب المُغذَّى من إيران. لكن، لو لم يحقق الحزب انتصارات، هل كانت الجماهير الفلسطينية لتتخلى عن تأييده؟ لا نظن ذلك، لأنهما يتشاركان العدو نفسه، ولأن الشعوب لطالما سيقت بالعاطفة، والخطاب، وليس العقل والدراسة والتحليل والاستنتاج. الجمهور الفلسطيني كانت أنظاره تشدو باستمرار، وكمنوم مغناطيسيا، نحو الذراع العسكرية لمنظمة التحرير، أي لتلك القوة الخارقة والضاربة التي تغذت بأموال العرب سنوات طويلة. وكان في انكفاء قوة المنظمة إقليميا، فراغا قياديا، بدت الجماهير من دونه دون موجِّه، ومع ولادة تنظيمات تخاطب باسم الغيبيات، كحماس مثلا، تشكلت لغة أخرى، غير إيديولوجية هذه المرة، وإنما دينية، عقائدية، يتقاطع خطابها السياسي مع إيمانها، بما في ذلك الحلم الإنساني القديم بتحقيق السلام ودخول الجنة. لذلك، فإن الجمهور الفلسطيني لم يكن على المستوى النفسي، عقبة، لأي جهة سياسية، ذلك أنه جمهور في حالة غليان وحنين، لأنه جمهور مطرود من أرضه، ونوستالجيته تتصل مباشرة برمزية كلية، شاملة، جامعة، هي الوطن، وليس مجرد قطعة أرض.
-6-
المأزق الذي وضع فيه الشعبُ السوري، أو الجمهورُ السوري، نظامَه السياسي، العنيف، والضارب بيد من حديد، جعل هذا النظام، يحاول تمرير اذرعته الاحتياطية إلى خارج الساحة السورية. فإبقاء الحالة السورية في جغرافيا المدن السورية والقرى، أي ضمن الشأن الداخلي للبلاد، قد يرتد حكما ضد النظام، ومع استمرار الوقت، تتكثف عوامل لا تساعد النظام السوري في إبقاء أصابعه مغلقة على أعناق الجمهور السوري. من هذه العوامل، ما هو لوجستي، كنفاذ المال، والإرهاق، وشلل مؤسسات الدولة، وانحسار المردود السياحي إلى الصفر تقريبا. ومنها ما هو سياسي. النظام، يعرف أن لا سبيل إلى الآن لإسكات التظاهرات، وهو ما يعني تصدع حججه العاطفية، ومنها، ما هو مستند اساسا إلى فكرة ممانعته لإسرائيل. من هنا، يتم تحويل الأزمة إلى اطراف سورية، إلى مناطق التماس مع الاسرائيليين، وبالتالي، داخل تلك النقاط التي تمثل بؤرة استيلاد الشعارات، والخطابات في المحافل الدولية وأمام الصحف ووسائل الإعلام العالمية والمحلية. هذه النقاط هي: مزارع شبعا، والجولان. حين تفتح هذه النقاط، أمام جمهور فلسطيني لطالما سدت في وجهه، يعني هذا، حاجة النظام إلى إنعاش خطابه الدولي، إلى تعزيز مكانته، وأهميته، ليس أمام دول القرار وحسب، وإنما أمام الجمهور السوري بفئتيه. ففي مقابل شلل الخطاب الرسمي الداخلي، لا يكون في ذخيرة النظام سوى الخطاب الاحتياطي، الأقوى تأثيرا، والذي إذا ما وجد، يُغفر به لارتكابات النظام التي لم تعد تخفى. إلا أن سقوط الشهداء في كلتا الجبهتين، انعكس سلبا على النظام السوري، بحيث أن حالة الاستياء التي رافقت الجمهور الفلسطيني في المخيمات بعد الطلعات الخائبة نحو الحدود، أظهرت وهن الخطاب السوري الرسمي، حتى عندما يتعلق الامر بالقضية الأسمى: فلسطين. حادثة اليرموك، تقرأ من زاوية مُقارنة بين بسيكولوجيا الجمهور، وبسيكولوجيا الفرد. فالجمهور الفلسطيني لم يعد متجانسا، كطائفة، وقد ظُن خطأً به، أن الخطاب بتحرير فلسطين كفيل بلحمته وإعادته إلى مربعه الأول. وأحد أسباب هذه الحالة من اللاتجانس، هو اتباع النظام السوري سياسة الشقاق بين الفلسطينيين وتزكيته لمواقع قوى فلسطينية على حساب أخرى، ما ولد استياء مبطنا لدى الجمهور الفلسطيني على مدى سنوات عديدة، إلا أن حالة الاستياء تلك، احتاجت لظرف نادر جدا ( الثورة السورية كظرف يتصل بسقوط شهداء فلسطينيين على الحدود)، كي يتفوق ذكاء الفرد على ذكاء الجماعة، وبالتالي كي تتعطل العواطف اللاواعية في حالة الحشود، وتحل محلها العواطف الفردية المرتبطة بالخسارة، الخسارة المادية التي تخضع لمقاربة عقلية وقياس محسوس، وهي خسارة الابن أو الأخ او الأب ممن سقطوا شهداء في مسيرتي ‘ العودة’.
القدس العربي