فئة عليا من الشبّيحة/ راتب شعبو
كانت ظاهرة التشبيح في سوريا تحتاج إلى توفر شرطين، الأول هو رسوخ أكيد للسلطة، وهذا ما تحقق بعد هزيمة كل المنازعين من داخل الجيش أو خارجه، من اليمين أو اليسار، ولا سيما عقب الانتصار على المسعى المسلح لـ”الأخوان المسلمين” في إسقاط النظام (1982)، ثم تمكن النظام من التغلب على تبعات مرض الأسد الأب (1983-1984)، ونجاحه في إعادة ترتيب علاقات كبار القادة العسكريين فيه مع استبعاد رفعت الأسد وضرب مرتكزات قوته في النظام وبشكل خاص حل قوات “سرايا الدفاع”. بعد ذلك تعززت السلطة وخرج المجتمع السوري بكليته (وليس فقط أحزابه المعارضة) مهزوماً ينظر إلى السلطة القائمة على أنها قدر لا فكاك منه، يفوز مَن يواليها ويخسر مَن يعارضها، حتى بدا الفعل المعارض ضرباً من الجنون. ظهر كما لو أن المجتمع السوري نادم على ما بدر من بعض فئاته من تمرد ومعارضة، وراح يكفّر عن ذنبه، بأن سكت عن أبنائه المقتولين والمسجونين والمحاصَرين بكل أشكال القيود. في تلك الفترة تبلورت عبارة “الأب القائد”، وبات سَجن المعارضين وقتلهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم المدنية مجرد تعبير عن غضب الأب على أبنائه. تلك كانت التخريجة التي هدهدت ضمير المجتمع السوري الذي انشغل في استدرار الحقوق من “الأب”، عبر تحريض مشاعر الرحمة في قلبه. لم يعد في سياسة البلاد من قانون سوى قانون الغلبة، وكانت الغلبة للسلطة وحدها لا شريك لها. تلك البيئة كانت الشرط الأول ولكن غير الكافي لبروز ظاهرة الشبّيحة.
الشرط الثاني الذي كانت تحتاجه ظاهرة التشبيح هو تواطؤ أفراد النخبة الحاكمة في ما بينهم، على مكافأة أنفسهم ومَن والاهم بأن يدوسوا قانون دولتهم نفسه ويجعلوا من الغلبة أيضاً هي الحكم في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. ترويع المجتمع ثم نهبه، هذا هو شعار الشبّيحة. وعليه، شهدت سوريا أسوأ ما يمكن أن يُبتلى به مجتمع، وهي ظاهرة ازدهار كل أشكال مخالفة القانون بحماية أجهزة تطبيق القانون. فبعدما تحول المجتمع السوري إلى جثة سياسية على يد أجهزة القوة في الدولة (الجيش والمخابرات)، ظهر الشبّيحة بمثابة الدود الذي يعقب الموت.
ليس دقيقاً القول إن الشبّيحة هم ظلّ الدولة أو دولة الظلّ. كانوا في الواقع دولة داخلية فعلية لا علاقة لها بالظل سوى من حيث أنها غير رسمية. الأقرب إلى الواقع أن الدولة الرسمية هي ظل دولة الشبّيحة. وذلك بقدر ما يمكن القول إن الغريزة والمصالح الشخصية تشكّل المحرّك الفعلي لعقل الشخص الدنيء. يمكن مثلاً أن تتحول آليات مشروع “رسمي” ما بسائقيها وفنييها ومحروقاتها إلى العمل لصالح مشروع خاص لأحد الشبّيحة، من دون اعتبار للمشروع الرسمي ومن دون اعتبار حتى لساعات عمل السائقين والفنيين الذين يُمنعون من العودة إلى البيت لأيام أو أسابيع حتى تكتمل “المهمة” ومن دون أي تعويضات، وتحت طائلة العقاب الذي لا يخفى على أحد.
على أن دولة الشبّيحة تفتقر إلى أحد أهم أركان الدولة وهو الرأس. إنها أقرب ما تكون إلى تجمع فيديرالي من الرؤوس، تحكمهم علاقة تفاهم ضمني أو معلن على اقتسام مناطق النفوذ أو الإقطاعات. من احتكار استيراد مواد أساسية معينة، إلى احتكار خط تهريب معيّن، إلى بيع الوظائف، إلى استعادة حقوق سلبتها الدولة الرسمية، مقابل المال …الخ. من بين هذه الرؤوس يمكن أن يوجد مسؤولون رسميون يمارسون دوراً مزدوجاً، فهم عناصر أساسية في الدولة الرسمية المعلنة، وزعماء تشبيح في الوقت نفسه. يستخدم أحدهم صلاحياته ليشبك علاقات مع رؤوس التشبيح الآخرين، وأيضاً ليحيل مرؤوسيه إلى أتباع تحت طائلة شتى أصناف الانتقامات الوظيفية وغير الوظيفية.
كان ذلك قبل انتفاضة الشعب السوري. بعدها تبدلت علاقة الدولة بالشبّيحة وهبوب لنجدة النظام الذي كان يحميهم. حين دبّت الروح في الجسد الذي اعتاد الشبيحة أكله ميتاً، شارك هؤلاء في محاولة قتله مجدداً. تحول الشبّيحة إلى أداة سياسية-عسكرية غير مباشرة تحت اسم اللجان الشعبية ثم ليتحولوا مع الوقت إلى جهاز قتال وقمع مباشر تابع للدولة الرسمية باسم جيش الدفاع الوطني. على أن القسم الأكبر من اللجان الشعبية أو جيش الدفاع الوطني ليسوا من عناصر الشبّيحة التقليديين. أعداد كبيرة من الشباب الفقراء والمتعلمين دخلوا في عداد هذه التشكيلات شبه العسكرية، اقتناعاً بأنهم يواجهون تنظيمات إسلامية متشددة تستهدف وجودهم (هذا الاقتناع ترسخ مع بروز دور التنظيمات القاعدية)، أو طمعاً في الراتب الشهري الذي يتقاضونه من انخراطهم هذا، أو للدافعَين معاً.
غير أن السنوات الطويلة من “الاستقرار الأسدي” خلقت فئة من كبار الشبّيحة لا عقيدة لها سوى السلطة ولا ولاء لها سوى للمنفعة. هذه الفئة لم “تعبد” الأسد كما يتكرر القول، ولم تر فيه أكثر من ضامن لأنشطتها وحامٍ لها، واليوم لا تراه إلا كشريك بعدما انخرطت في مجهود الدفاع عن النظام بما أوتيت من مال وعلاقات وأتباع. هذه الفئة تنتقد الرئيس، وقد تسخر منه، ولها باع في السياسة يشبه باع التاجر بأحوال السوق. هذه فئة تعي ذاتها وترى السلطة القائمة والرئيس والطائفة والمذاهب وسوريا كلها من موشور منافعها فقط. على خلاف ما هو شائع، هذه الفئة أكثر قابلية للتأقلم والتغير قياساً على عموم الموالين. إنها لا تغرق في مياه الحاضر، بل تستطلع المستقبل وتحاول أن تجد لها مكاناً فيه، معززةً بخبرتها وثروتها، وهي تعرف كيف تتشكل وفق مقتضيات سلطة المستقبل الراجحة. ينبغي رؤية هذه الفئة التي تحجبها الصورة المنمّطة عن الشبّيحة.
النهار