فائض التاريخ الذي خلّفه يوسف بك كرم في الواقع وفي ذاكرة الجماعة
حازم صاغيّة وبيسان الشيخ
-1-
في سياق رصد تحولات المدن اللبنانية اجتماعياً وسياسياً، وفي محاولة لرسم خريطة لنفوذ الطوائف والأحزاب صعوداً أو هبوطاً في صوغ الحياة العامة، تأتي زيارة «الحياة» لمدينة زغرتا الشمالية استكمالاً لسلسلة تحقيقات بدأت في طرابلس والنبطية.
وقد تبدو زغرتا، العاصمة المارونية للريف الشمالي خارج سياق الأحداث الآنية حيث يتنازع لبنان والمنطقة صراع سنّي- شيعي تبدو فيه تلك الخاصية ممعنة في المحلية. لكنها تلك الخاصية المارونية الشمالية، هي نفسها ما يجعل من «الاستثناء الزغرتاوي»، محطة رئيسة في سياق البحث في تاريخ «المارونية السياسية» منذ سقوط السلطنة العثمانية. وهو (الاستثناء) ما يفسر في كثير من الأحيان ما آلت اليه تلك الزعامة من انكماش عززته تحالفات سياسية وعائلية. ذاك أن زغرتا نشأت على عصبية العشيرة والإقطاع وما يحمله ذلك من هرمية بين العائلات والولاءات التابعة لها.
زغرتا التي ترد الزائر إلى أجواء صقلية الإيطالية، تعيش اليوم في عزلة تعكس الكثير من الصورة الأكبر لموارنة لبنان. فهي على خصومة مع جوارها المباشر من بشري، معقل «القوات اللبنانية»، وطرابلس «قلعة المسلمين»، والكورة التي سبق ليوسف بك كرم أن أحرق عاصمتها أميون.
إنه التاريخ يطالعك عند كل منعطف ويدفع عاصمة الريف الماروني الى «تحالف أقليّات» يأخذ النائب سليمان فرنجيّة إلى «حزب الله» البعيد عن الشمال.
يكاد لا يجتمع اثنان في زغرتا، من أهلها البالغين ثلاثين ألفاً، إلاّ يكون ثالثهما يوسف بك كرم، فالرجل الجالس على حصانه فوق إحدى ذرى إهدن، مصيف الزغرتاويّين الجبليّ، لا يزال مادّة استلهام يوميّ لأبنائه وأحفاده. وهذا الحضور الثقيل الوطأة للسياسيّ الطموح والمغامر الذي قاتل متصرفيّة جبل لبنان، علامة لا تخطئ على «فائض التاريخ» في الوعي الزغرتاويّ،
فيوسف كرم هو الذي حوّل زغرتا عاصمةً لزعامة مارونيّة خارج جبل لبنان، منذ انتزاعه، أواسط القرن التاسع عشر، النفوذ من مقدّمي بشرّي. أمّا الأخيرة، التي لا تبعد سوى كيلومتر عن إهدن، فتبقى خصماً يُعتدّ بخصومته، ذاك أنّ الدم سال بينهما من أيّام اليعاقبة، وحتّى اليوم لا تزال تندر الزيجات بين البلدتين.
ويوسف كرم، قبل هذا وبعده، مؤسّس الاستثناء المارونيّ الذي وجد أكثر من تعبير لاحق عنه: مرّةً في الخمسينات من القرن الماضي، حين وقف حميد فرنجيّة، زعيم زغرتا حينذاك، ضدّ كميل شمعون، رئيس الجمهوريّة ومعبود موارنة الجبل، ومرّةً حين وقف شقيقه سليمان، في أواخر السبعينات وفي الثمانينات، ضدّ «الجبهة اللبنانيّة»، والآن مع سليمان فرنجيّة الحفيد.
هذه الاستثنائيّة كانت شعبيّةً دائماً، فإلى صفّ يوسف كرم انحاز أعيان الطائفة الزغرتاويّون وعامّة موارنتهم وصغار كهنتهم. إلاّ أنّها، وككلّ استثناء، متعبة ومكلفة، وبعض هذه الكلفة أنّ زغرتا تخلّفت عن جبل لبنان وصار يومُها مثل أمسه.
العائلة السياسيّة
يصعب الحديث عن زغرتا، التي تذكّر البعض بصقلّية في إيطاليا، من دون الحديث عن عائلاتها، مثلما يصعب الحديث عن العائلات من دون التوقّف عند زعمائها.
فمع سقوط السلطنة العثمانيّة وبداية الانتداب، حصل في الريف المارونيّ الشماليّ ما يسمّيه أستاذ الأنثروبولوجيا والكاتب شوقي الدويهي بدايات تكوّن العصبيات العشائريّة على نحو سياسيّ. وكان للانتخابات النيابيّة أن فاقمت الوجهة هذه، باعثةً على تماسك الزعامات المحلّيّة ومانعةً لعقود تالية دخولَ الأحزاب السياسيّة إلى زغرتا.
لكنّ الفرنسيّين، وبعدما جعل يوسف كرم من بلدته مقرّ الزعامة المارونيّة الشماليّة الأولى، اعتمدوا في العشرينات وديع طربيه نائباً في البرلمان. وطربيه ليس من زغرتا، بل من قضائها المعروف بـ «الزاوية»، الذي يضمّ 49 قرية ويبلغ ناخبوه ضعف ناخبي زغرتا عدداً.
وفي 1929، حين حاول الانتداب إيصال طربيه مجدّداً إلى البرلمان، استُنفرت النعرة الزغرتاويّة التي لا يملك فلاّحو الزاوية المفتّتون مثلها. ولأنّ زعامة آل كرم شرعت تَضمُر بعد يوسف بك، التفّ أهل العصبيّة حول قبلان فرنجيّة، مؤسّس السلالة الأطول عمراً في التاريخ الزغرتاويّ. وفي الغضون هذه وقعت اشتباكات وسقط قتلى وانضافت الزاوية إلى بشرّي على قائمة كارهي زغرتا ومكروهيها. مذّاك هُمّشت سياسيّاً عائلات الزاوية، كطربيه وإسطفان والضاهر، من غير أن يُسعفها سبقُها إلى التعليم وإلى الهجرة.
أمّا عند آل فرنجيّة و «لفيفهم»، وفق التعبير الزغرتاويّ الدالّ إلى مؤيّديهم من عائلات صغرى، فنشأ تحفّظ عن الفرنسيين الذين دعموا خصومهم. ووفق مذكّرات الرئيس بشارة الخوري، نزل الزغرتاويّون كي يحتجّوا في مركز المحافظة في طرابلس، وقرّر الفرنسيّون ألاّ يردّوا بالسلاح، لمعرفتهم ما يمكن أن تكون عليه استجابة الزغرتاويّين العاشقين للسلاح، لكنّ مجنّدين في القوّات الفرنسيّة من علويّي سوريّة أطلقوا النار عليهم، فكان ما كان من قتلى وجرحى. وفي تحفّظ أهل زغرتا عن الفرنسيّين بدوا مرّة أخرى استثنائيّين بالقياس إلى موارنة الجبل المتيّمين بفرنسا، تماماً مثلما كانوا مع يوسف كرم، الذي أخذهم بعيداً من المتصرفيّة ومن بطريركيّة الموارنة.
ووفق ما يضيف شوقي الدويهي، لم يحمل العهد الاستقلاليّ جديداً، فالأحزاب المارونيّة التي نشأت في جبل لبنان وبيروت، كالكتلة الوطنيّة والكتلة الدستوريّة، وصلت إلى البترون وتوقّفت هناك. صحيح أنّ حميد فرنجيّة، نجل قبلان الذي ورث عنه الزعامة، كان قريباً من الدستوريّين، إلاّ أنّ الزغرتاويّين كانوا معنيّين بحميد بوصفه زعيمهم، لا بهواه الدستوريّ الذي يمارسه وحده في بيروت.
وكان للانتخابات، من دون مقدّمات سياسيّة وثقافيّة أخرى، أن ضربت ضربتها الثانية مطالع الخمسينات، فإذ غدت زغرتا تحظى بمقعدين في البرلمان، تمدّدت اليقظة العائليّة من عائلتي كرم وفرنجيّة إلى سائر العائلات الطامحة، فقد حمل حميد فرنجيّة إلى الحلبة السياسيّة المحامي الشابّ رينيه معوّض، بينما اصطحب يوسف كرم الحفيدُ فؤاد الدويهي، وبعدما كانت اللعبة حكراً على عائلتين صارت تتّسع لأربع.
حروب العائلات
قد تكون زغرتا الندّ الأبرز للشوف في المدى الذي تبلغه شخصنة الزعامة ووقوف الزعيم وسيطاً كاملاً بين المواطن والدولة. ووفق شوقي الدويهي، تملك الزعامة الزغرتاويّة أجهزة ثلاثة متلازمة: فهي غالباً ما تعمل برأسين، واحد للداخل وآخر للخارج، على ما كانت الحال خصوصاً إبّان زعامة حميد فرنجيّة وتولّي شقيقه سليمان تدبير شؤونها داخل البلدة، ثم هناك أركان الزعامة، وهم غالباً من خارج العائلة الموالين لها، وأخيراً هناك جهاز القبضايات، ويكونون من أبناء العائلة ذاتها.
والأُسَر في زغرتا تملك تقليديّاً أحياءها، فحيّ الصليّب مثلاً لآل معوّض، وحيّ العبي لآل فرنجيّة. والحال أنّ الفرز السكنيّ هذا هو ما ضاعفه الدم الذي سال بين عائلتي فرنجيّة ومعوّض من جهة وعائلتي الدويهي وكرم من جهة أخرى أواخر الخمسينات، بحيث طرأ نوع من التطهير العائليّ الذاتيّ كان وحده شرط أمان الفرد بين أهله وجماعته الخالصة. وعلى رغم الانتشار النسبيّ للزيجات المختلطة، ظلّ السكن نادر الاختلاط وبقيت الكنائس حكراً على عائلات بعينها.
هذه الخريطة الساكنة وجدت ما يهزّها عميقاً في الخمسينات، حين تحوّل العداء الضامر إلى عداء صارخ، ففي محاولته الضغط على حميد فرنجيّة الذي كان منافسَه في انتخابات 1952 الرئاسيّة، لجأ شمعون إلى تعزيز نفوذ آل الدويهي، مقوّياً الأب سمعان الدويهي، علّه يواجه به نفوذ فرنجيّة. وقد بدأ التوتّر والاحتكاكات بين العائلتين في 1954، ثمّ توّج العنف نفسه بعد ثلاث سنوات في «حادثة مزيارة» التي سقط فيها أكثر من عشرين قتيلاً ومئة جريح في كنيسة القرية المذكورة. ويرى الروائيّ جبّور الدويهي، الذي أرّخ تلك «الحادثة» في روايته المتعدّدة الأصوات والسرود «مطر حزيران»، أنّ الزعامات العائليّة اكتسبت بسبب مزيارة «شرعيّة» الدم والشهادة فأضافتها إلى ما تراه حقّاً لها في التمثيل والتمكّن.
وعلى العموم، باتت زغرتا مذّاك تُعرف بنسائها الملفّحات بالسواد حداداً على أبناء أو أزواج قضوا في لعبة الثأر والثأر المضادّ، وصارت صورة الأمّ المحرّضة على الانتقام فدًى للعائلة ولزعيمها، بعضَ ألبوم الحياة الزغرتاويّة الفعليّة والمتخيَّلة.
معوّض قطباً وسليمان رئيساً
ومثلما كان لرئاسة كميل شمعون (1952-1958) أثرها الكبير على زغرتا، كان لرئاسة فؤاد شهاب (1958-1964) ومعظم سنوات عهد الرئيس «الشهابيّ» شارل حلو (1964-1970) أثر آخر، فقد صعد رينيه معوّض، الذي كان من أركان الشهابيّين، بوصفه الوجه الذي يقاسم سليمان فرنجيّة زعامةً آلت إليه بسبب المرض الذي ألمّ بشقيقه حميد. وهنا ارتسمت لمعوّض في مقابل سليمان فرنجيّة، صورةُ «رجل الدولة»، فيما وجد الكثيرون من عائلته في الدولة والوظيفة العامّة ما كان يجده كثيرون من آل فرنجيّة خارج الدولة والوظيفة.
لكنْ في 1966 و1967، وبالتوازي مع معارضة سليمان فرنجيّة للشهابيّة، تصدّع التحالف بين عائلتي فرنجيّة ومعوّض، كما تصدّع التحالف المقابل بين عائلتي الدويهي وكرم، ولم يخلُ الأمر في الحالتين من احتكاكات دمويّة عابرة. بيد أنّ فرنجيّة لم يندمج في المعارضة المارونيّة الجبليّة للشهابيّة كما عبّر عنها «الحلف الثلاثيّ»، الذي ضمّ شمعون وريمون إدّه وبيار الجميّل، بل آثر الحفاظ على الاستثناء ودخول المعارضة من باب «تكتّل الوسط» الذي ضمّه إلى صائب سلام وكامل الأسعد.
على أنّ 1970 كان العام الذي شهد التحوّل الكبير، لا لزغرتا وحدها بل للبنان كلّه، فقد اختير سليمان فرنجيّة، الذي كان نجله طوني أسّس «المردة» كواحدة من أوائل الميليشيات، رئيساً للجمهوريّة، وهو ما اعتُبر هزيمة للشهابيّة ونهايةً مُرّة. هكذا بدأت المعادلات التي تحكم زغرتا تتحوّل معادلاتٍ لحكم لبنان كلّه، فقد استُخدمت السلطة على أوسع نطاق لمصلحة فئات مقرّبة، فيما صير إلى تصليب مواقع العائلة وزعامتها. وفي النطاق هذا، وفضلاً عن الإتيان بطوني سليمان فرنجيّة نائباً عن بلدته في 1972، ليحلّ محلّ أبيه، جيء بصهره عبد الله الراسي نائباً عن عكّار.
أهمّ من ذلك أنّ التراجع الذي مثّلته رئاسة سليمان على الصعيد السياسيّ إنّما تزامن مع بلوغ الازدهار الاقتصاديّ اللبنانيّ ذروته، بحيث بات لبنان أوائل السبعينات يملك أعرض طبقة وسطى في الشرق الأوسط. هكذا بدت السلطة السياسيّة التي تُدار صقلّيّاً أشبه بخوّة تُفرض على العمليّة الرأسماليّة، فتطبّق على نطاق البلد ما كانت تطبّقه على القرى المزدهرة في الزاوية.
ولم يمرّ ذلك من دون اعتراض في زغرتا، كما في الزاوية، ففي هذه الأخيرة بدأ يتنامى «حزب الكتائب» الذي تزعّمه هناك يوسف الضاهر، ومن بعده «القوّات اللبنانيّة»، ردّاً على «الإقطاع» الزغرتاويّ ممثَّلاً بآل فرنجيّة. أمّا في زغرتا نفسها، فوُلدت «حركة الشباب الزغرتاويّ»، وظهر رجال كالأب هكتور الدويهي، ممّن التفّ حولهم عشرات الشبّان الذين انتمى كثيرون منهم إلى أحزاب اليسار.
وقد لوحظ أنّ أقلّ المنتمين إلى الموجة الاعتراضيّة هذه كانوا من آل فرنجيّة، فيما توزّع معظم المقبلين عليها على الأسَر المهمّشة سياسيّاً أو الفقيرة، مشكّلين ما يمكن اعتباره شياطين زغرتا الصغار الذين يتحدّون أعرافها، فقد انخرط فيها شبّان من «العرّة»، أي قاموسيّاً القطعان الصغيرة التي تلتحق بقطيع كبير، وهي التسمية التي تُمنح محلّيّاً لعائلات صغرى توالي آل كرم من دون أن تكون منهم. كذلك انتسب إليها أفراد من آل الدويهي، أفقر العائلات وأكبرها عدداً وأبعدها منذ نهاية العهد الشمعونيّ عن مراكز القرار. والحال أنّ آل الدويهي هم أيضاً الأكثر تفتّتاً في داخلهم ما بين زعامات طامحة صغرى، وأشدّهم إقبالاً على الإكليروس، حيث تقع في حيّهم الكنيسة الأهمّ، كنيسة سيّدة زغرتا، فمنذ القرن السادس عشر هناك بطاركة ومطارنة من تلك العائلة، أبرزهم البطريرك إسطفان الدويهي، فيما كان آل فرنجيّة، وعلى الدوام، أقلّ العائلات دخولاً في السلك الدينيّ. ولم يكن الرسّام صليبا الدويهي الاسم اللامع الوحيد بين الدويهيّين الذي عُرف على نطاق لبنانيّ في القرن العشرين.
على أيّ حال، تولّى اندلاع حرب السنتين في 1975 إنهاء تلك التجربة الاعتراضيّة، التي سبق أن أضعفها، وفق جبّور الدويهي، بعض شعاراتها المتطرّفة ودفاعها المعلن عن السلاح الفلسطينيّ.
حرب السنتين وما يلي
وفي حرب السنتين، بدا لوهلة أنّ الطائفة تطغى على العائلة. هكذا تضامنت العائلات الزغرتاويّة، لكنّ كلّ واحدة منها شيّدت متاريسها الخاصّة بها، والمهيّأة في أيّ لحظة لأن تغيّر وظائفها وأعداءها. والواقع أنّ هذا الانضواء العابر في القاعدة المارونيّة والتخلّي عن الاستثناء كان أملاه وجود سليمان فرنجيّة في رئاسة الجمهوريّة لحظة اندلاع حرب السنتين. هكذا بدا أنّ التحالف الفلسطينيّ – السوريّ – الإسلاميّ – اليساريّ إنّما يستهدف زعيم زغرتا، فيما هو يستهدف الموقع المارونيّ الأوّل في الدولة.
وبالفعل، كان للزغرتاويّين معاناتهم الخاصّة مع النظام السوريّ: فقد هاجمتهم مطالع 1976 قوّات اليرموك التابعة لجيش التحرير الفلسطيني المرعيّ سوريّاً، وكادت زغرتا تسقط في الهجوم الذي قُتل فيه عشرات من أبنائها وأبناء الزاوية، كما قضى أضعافهم من المهاجمين. هنا استعاد الزغرتاويّون شعوراً بالافتخار، مؤسَّساً هذه المرّة على قاعدة الطائفة، لا العائلة، ذاك أنّ «تركيّا نفسها لم تستطع دخول زغرتا»، كما قال زغرتاويّ فخور، «فكيف يدخل هؤلاء؟».
لكنْ لئن تولّى الاستثناء وضع زغرتا في مواجهة بشرّي والزاوية، فإنّ الانضواء في القاعدة وضعها في مواجهة طرابلس، فقبل حرب السنتين، كانت هناك 400 إلى 500 عائلة زغرتاويّة تقيم في عاصمة الشمال، موظّفين ومدرّسين وأصحاب مهن حرّة على عمومها، يدرس أبناؤهم في مدارسها الإرساليّة. وهؤلاء انسحبوا تباعاً إلى بلدتهم، خصوصاً وقد راح أداء المستشفيات والمدارس والحياة الاقتصاديّة في طرابلس يتراجع بخطى متسارعة، وهذا قبل أن تثقل على صدر المدينة قبضة الشيخ سعيد شعبان. كذلك توقّفت لسنوات وفادة عائلات وأفراد طرابلسيّين للاصطياف في إهدن.
بيد أنّ الاستثناء ما لبث أنّ أطلّ برأسه مجدّداً، ففي 1978، وبعد خلاف اندلع في شركة الترابة في شكّا حول تقاسم عائداتها، اغتيل الكتائبيّ جود البايع، فردّ الكتائبيّون بمذبحة في إهدن كانت إحدى أبرز مآسي الحروب اللبنانيّة وإحدى أبشعها. يومها قُتل في منزله النائب والوزير طوني سليمان فرنجيّة وزوجته وابنته وعدد من مناصريه، وانفجرت بين المارونيّة الزغرتاويّة ومارونيّة جبل لبنان، ممثّلةً بـ «الكتائب»، حربٌ حصدت 400 قتيل. ولمّا كان الشابّ الكتائبيّ والبشراويّ سمير جعجع مشاركاً في الهجوم، وجد التنافر التقليديّ «الزغرتاويّ – البشراويّ» ما يشحذه، عاملاً على أيْقَنَة المأساة وإسباغ الجوهريّة عليها.
وبالفعل، تكرّست عزلة زغرتا عن جبل لبنان، فيما تضامنت الأُسر الأخرى مع آل فرنجيّة ضدّ الكتائب، ولو أنّه تضامن لم يستمرّ طويلاً.
-2-
زعامة سليمان فرنجيّة وتحدّيات ما بعد الانسحاب والثورة السوريّين
بعد أن تناولت الحلقــة السابقة فائض التاريخ الذي خلّفه يوسف بك كرم في الواقع وفي ذاكرة الجماعة، هنا التتمة الأخيرة:
لم تعد زغرتا إلى الواجهة السياسيّة اللبنانيّة إلاّ مع انتخاب رينيه معوّض رئيساً للجمهوريّة، أواخر 1989، بعد توقيع اتّفاق الطائف. لكنّ هذا الحدث لم يتحوّل إلى سياق ووجهة بسبب اغتيال معوّض بعد 17 يوماً فقط على انتخابه.
هكذا استمرّت الزعامة الأولى معقودة لسليمان طوني فرنجيّة، الشاب الذي ذهب بعيداً في موالاته النظام السوريّ، ضدّاً على الموقف شبه الإجماعيّ لموارنة الجبل. وموقفه هذا إنّما بدا تعزيزاً قويّاً ونافراً للاستثناء جنى منه فرنجيّة الكثير من العائدات. فبعد سنوات من توزير جدّه ومن رئاسته للجمهوريّة، وبعد توزير أبيه، حلّ سليمان، من دون انقطاع تقريباً، وزيراً في سائر الحكومات.
وإبّان تولّيه وزارة الصحّة خصوصاً، بين 2000 و2003، شاعت نكتة تقول إنّ ما من فتاة زغرتاويّة مؤيّدة له إلاّ وأجرت عمليّة لأنفها على حساب الوزارة. ولا يزال مستشفى الشمال، الأهمّ في تلك المحافظة، شاهداً على الخدمات السخيّة التي تُسدى لفرنجيّة الذي يسديها، بدوره، لطالبيها. وما بين شركة الترابة في شكّا وفرص العمل التي يتيحها الكازينو في المعاملتين، يبدو سليمان فرنجيّة لمحازبيه، بحسب وصف أحد الزغرتاويّين، «شركة تأمين لمدى الحياة». وكما هو معروف، فإنّ السلوك هذا لا يُعدم «إيديولوجيّته»، إذا صحّ التعبير، وهي خدمة الفقراء وإعانتهم على مصاعب الحياة. لكنّ الشعبويّة هذه كثيراً ما تصطدم بحالات نافرة تقاوم التبرير السهل؛ فمثلاً، تكوّنت في زغرتا، إبّان الحكم السوريّ، شريحة ثريّة عبر كوتّا نفطيّة مصدرها بنزين مدعوم من سورية يباع في السوق اللبنانيّة، فانضافت هذه إلى الفئة العريضة المستفيدة من تنفيعات السلطة.
والحال أنّ السوريّين وفّروا لفرنجيّة دعماً غير محدود فصار رجل الحلّ والربط حيث يرغب في أن يحلّ ويربط. وهو، بدوره، كان أكثر سوريّةً من جدّه الذي كان يمانعهم بين وقت وآخر. وفي تبرير هذه السياسة، يرى أنطوان مرعب، الصناعيّ المقرّب من سليمان فرنجيّة، أنّ هناك أسباباً موضوعيّة للصلة المتينة بآل الأسد ونظامهم. ذاك أنّ سليمان الجدّ قد وجد مبكراً في حافظ الأسد الحليف الذي ضرب السنّة ممّن ثاروا على الموارنة في 1975.
ووسّع نفوذ فرنجيّة الحفيد عدد لا يُستهان به من المتموّلين الذين يدعمونه، وسيطرة حليفيه المطران سمير مظلوم ثمّ الأب إسطفان فرنجيّة على مؤسّسات الكنيسة وما يتّصل بها. والمعروف أنّ الكنيسة في زغرتا لم تتعرّض، هي الأخرى، لأيّ تغيير يُذكر: فبعد الأراضي الكثيرة التي باعتها، يقدّر البعض أنّها لا تزال تملك أكثر من 40 في المئة من مساحة القضاء. يكفي، مثلاً، أنّ دير مار سركيس وحده يضع يده على ثلث مساحة إهدن. وبطبيعة الحال فإنّ العمالة في أملاك الكنيسة تتمّ وفقاً لاعتبارات سياسيّة وعائليّة صارمة.
ويصعب على الكنيسة في زغرتا أن تقف في وجه سليمان فرنجية الذي كان محازبوه يهتفون له، إبّان خلافه مع البطريرك نصر الله صفير، «أنت البطرك يا سليمان». ففي ذاكرة الزغرتاويّين أن البطريركيّة خانت يوسف كرم، وأنّ الطريقة المتعالية التي يخاطب بها فرنجية البطاركة تشبه الطريقة التي كان يوسف كرم يتحدّث بها عن البطريرك بولس مسعد أو يخاطبه.
لقد ســـهّلت هذه العوامل مجتمعةً لزعامة سليمان فرنجيّة أن تقضم العائلات الأخرى، كالدويهي وكرم ومكاري، بقوّة الخدمات والنفوذ، حتّى أنّ رئيس البلديّة الحاليّ، توفيق معوّض، يوالي فرنجيّة ويُحسب عليه.
أحوال الزعامة!
بيد أنّ للقدرة على تقديم الخدمات حدوداً. فقد جاء الانسحاب السوريّ من لبنان، على أثر اغتيال رفيق الحريري في 2005، ضربةً قاصمة لسليمان فرنجيّة، ضربةً ردّته من زعامة شماليّة عريضة إلى حدوده الزغرتاويّة البحتة، كما جعلته يواجه أكلاف الاستثناء دفعة واحدة.
لهذا رأيناه، لدى الانسحاب السوريّ، كأنّه يحلّ المعضلة بشيء من توهّم التطويق الاستباقيّ، فيتوسّع في إنشاء مراكز لـ «المردة» خارج زغرتا، حتّى أنّه أنشأ مقرّاً لها في صيدا. لكنّ الواقع جاء ردّه سريعاً: فقد خرج سمير جعجع من سجنه وعاد ميشال عون من منفاه فلاحت أشباح منافسين أقوياء جدد، ثمّ رسب سليمان فرنجيّة نفسه في انتخابات 2005. والحال أنّ هذا الرسوب، في ظلّ انتخابات قامت على أساس المحافظة، وقع وقْع الصاعقة عليه، الأمر الذي عبّر عنه هجوم بعض مناصريه على منزل المرشّح الفائز، وابن عمّه البعيد، سمير حميد فرنجيّة. كذلك حقّقت «القوّات اللبنانيّة» انتصارات انتخابيّة في البترون، ثمّ في الانتخابات الفرعيّة في الكورة.
وهذا مجتمعاً يملي بعض الحسابات والمراجعة. ففضلاً عن العلاقات المضطربة مع الزاوية وبشرّي وطرابلس والجبل، لا تبدو نيابة فايز غصن عن الكورة، وهو المقرّب من فرنجيّة، كافية لإسباغ الدفء على علاقة الزغرتاويّين بالكورانيّين. ذلك أنّ الكورة الأرثوذكسيّة التي أحرق يوسف بك كرم عاصمتها أميون، أقبل أبناؤها مبكراً على العلم وكرهوا تسلّط جيرانهم المزمن. فهي، بحسب أنطوان مرعب، لا تنتمي إلى النسيج الفلاّحيّ المارونيّ، «وقد اقتصرت العلاقة بيننا على الشخصيّات السياسيّة».
والمعطيات هذه قد تجد في أيّ لحظة انعكاسها الانتخابيّ، إذ ماذا، مثلاً، لو تمكّن أهل الزاوية من الاتّفاق في ما بينهم على مرشّح يمثّلهم ويلتفّ حوله ثلثا سكّان القضاء، وهذا مع العلم بأنّ لائحة ميشال معوّض، التي نافست فرنجيّة، نالت في الزاوية، في انتخابات 2009، أكثر ممّا نال فرنجيّة ولائحته؟ ثمّ ماذا عن المقترعين السُنّة المناهضين له والذين يقارب عددهم في القضاء تسعة آلاف ناخب، فيما «لا مكان لنا في المشروع السنّيّ، لا سيّما بعد ظهور رفيق الحريري ومشروعه»، بحسب ما يضيف مرعب؟
والمأزق هذا، ذو الأوجه الكثيرة، هو ما قد يفسّر الامتداد السكنيّ الذي بدأ يصل زغرتا بجبل محسن في طرابلس، حيث يقيم العلويّون، عبر قريّة مجدليّا. فكأنّنا، هنا، أمام ثمرة من ثمار «تحالف الأقليّات» الذي يأخذ فرنجيّة إلى «حزب الله» البعيد عن الشمال ويحمله ويحمل محازبيه على التغنّي بالأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله. لكنْ ماذا إذا اكتمل سقوط النظام السوريّ، وكيف، في هذه الحال، يتمّ وقف التداعيات المترتّبة على زغرتا وعلى زعامة سليمان فرنجيّة، ولا سيّما في علاقتهما بـ «القوّات» وبطرابلس؟ يكفي القول، مثلاً لا حصراً، أنّ ألفي زغرتاويّ لا يزالون ينزلون يوميّاً إلى عاصمة المحافظة بسبب الوظيفة أو لتخليص أمور إداريّة فيها.
وعلى العموم ففكرة الجزيرة المحاطة بالكارهين والأعداء قد يحتملها البشراويّ والتنّوريّ المعتادان على درجة من العزلة، فيما يصعب أن يحتملها الزغرتاويّ الذي احتفظ دائماً بحضور شماليّ أوسع وأنشط، كائناً ما كان نوع الحضور المذكور.
وهذا ما يحمل أنطوان مرعب على عدم استبعاد انفراجات في العلاقة مع طرابلس، وربّما مع «القوّات»، لأنّ سليمان فرنجيّة «براغماتيّ وغير عنفيّ». بيد أنّ الأكيد أنّ العلاج المطلوب يتعدّى كثيراً مجرّد إحلال طوني الابن في زعامة يُخليها سليمان الأب؟
تحوّلات السياسة والاجتماع
غنيّ عن القول إنّ الزغرتاويّين الذين يتعاطفون مع نظام الأسد إنّما يفعلون هذا بوصفه امتداداً للفرز السياسيّ داخل زغرتا، من دون أن تداخل مواقفهم أيّ عاطفة أو هوى إيديولوجيّ. وبحسب النائب السابق سمير فرنجيّة، «إذا وضعنا جانباً الخلافات العائليّة – السياسيّة، لم يبق بين الزغرتاويّين مؤيّد واحد لذاك النظام». وهذا ما يظهر في كلام سليمان فرنجيّة حين يتحدّث عن الصلة بآل الأسد، فيركّز على «الوفاء» والعلاقات الشخصيّة ممّا يموّه السياسة أكثر كثيراً ممّا يشير إلى السياسة ومسائلها المُلحّة.
والزغرتاويّون، اليوم، لأسباب شتّى ومن مواقع شتّى، يُبدون اهتماماً ملحوظاً بأخبار الثورة السوريّة وباحتمالاتها. وهم يفعلون هذا عبر الأحفاد الذين يتداولون ما يرد على تويتر وفايسبوك، وأيضاً عبر العمّال السوريّين الذين، بحسب سمير فرنجيّة، صار الزغرتاويّون ينادونهم، بعد الثورة وبسببها، بأسماء علمٍ تميّز واحدهم عن الثاني. لكنْ قبل الثورة السوريّة، وعلى مدى عقود أربعة، ظهرت وتراكمت، في الحياة الزغرتاويّة، تحوّلات لا بدّ أن تنعكس، عاجلاً أو آجلاً، على منطق السياسة وطرق اشتغالها. فعلى أثر الهجرة عن طرابلس بسبب حرب السنتين، تحوّلت زغرتا، للمرّة الأولى في حياتها، إلى سوق شعبيّة، هي التي لم تعرف من قبل أيّ نشاط تجاريّ. صحيح أنّ ذلك لم يمسّ النظام العصبيّ والعائليّ، إلاّ أنّ النظام المذكور بات مدعوّاً إلى درجة أعلى من التكيّف مع المصالح الناشئة.
ومنذ الثمانينات شرعت الأجيال الجديدة تُقبل على الدراسة التي بدأت تحتلّ موقعاً لم يكن لها في أنظمة القيم السائدة، فتحسّنت مكانة المتعلم والمثقّف وإن لم تبلغ، بطبيعة الحال، مكانة القبضاي. لكنْ يبدو أنّ الهاجس الذي أملى المستجدّ هذا، وهو ما وفّرت الجامعة اللبنانيّة تلبيته، كان الحصول على فرص عمل من دون منّة الزعيم ومكرمته.
والتحوّلات المذكورة لم تأخذ بعد شكلها السياسيّ، خصوصاً أنّ التجّار ليسوا أقوياء بما يكفي، فيما معظم أثرياء زغرتا يقيمون في الخارج، في بيروت والسعوديّة والإمارات وفنزويلاّ. بيد أنّ الزغرتاويّين بدأوا يبنون أحياء تختلط فيها عائلاتهم، كحيّ العقبة الجديد، وصار ابن معوّض يستأجر في حيّ لآل فرنجيّة والعكس بالعكس. ومثلما لعبت الانتخابات دوراً في دفع التناحر العائليّ إلى أمام، كان لها دورها، من خلال التحالفات الانتخابيّة المتغيّرة، في الحدّ من القطيعة بين عائلة وأخرى. فاختلاف عائلتي فرنجيّة ومعوّض لا يلغي عشرات السنين من تحالفهما، كما أنّ حادثة مزيارة لم تحل دون تحالف عائلتي فرنجيّة والدويهي منذ 1964.
ويشير المحامي والناشط الاجتماعيّ سمعان اسكندر إلى انتهاء ظاهرة الثارات العائليّة مع بداية التسعينات وعودة الدولة، حيث غدت المشاكل التي تطرأ تنحصر في الأفراد المعنيّين. وفي هذا اضطلع التعليم بدور أكيد، فيما أمست الرابطة العائليّة تعادل طلب التنفيعات مقابل الولاء الانتخابيّ، من دون تقديم أضاحٍ دمويّة. ويضيف جبّور الدويهي سبباً آخر وجيهاً هو تراجع سلطة المسيحيّين وتقديماتها على صعيد وطنيّ بعد اتّفاق الطائف، بحيث أضحت المكاسب والتنفيعات أكثر محلّيّة، وذات عوائد أقلّ، ممّا كانت في عهود شمعون وشهاب وفرنجيّة. أمّا النائب السابق سمير فرنجيّة فيصرّ على ظهور قناعة جديدة بين الزغرتاويّين جميعاً، مفادها أنّ العنف داخل بلدتهم لا يحلّ أيّاً من المشاكل.
كائناً ما كان الأمر، في 1991، حين توفي الرئيس السابق سليمان فرنجيّة، بدا رمزيّاً كأنّ تاريخ الدم ارتاح قليلاً وانفتحت لمستقبل آخر احتمالات مغايرة.
8 و14 وشبّان يحاولون
ليس الزغرتاويّون أهل أحزاب وعقائد إلاّ عَرَضيّاً. ومثلما كان حالهم مع الكتلتين الوطنيّة والدستوريّة، صارت حالهم مع 8 و14 آذار، إذ شكّل الموالون لسليمان فرنجيّة قاعدة 8، والموالون لميشال معوّض قاعدة 14. لكنْ، هنا أيضاً، لم يتحوّل الاستقطاب الحادّ الذي ساد عامي 2005 و2006 صداماً عنفيّاً بين العائلات. صحيح أنّ الزعماء لا يزال في وسعهم، إذا شاؤوا، أن يشنّجوا الوضع مع عائلة أخرى أو مع منطقة مجاورة، لكنّ المرجّح ألاّ تمضي الرغبات الزعاميّة من دون اعتراض جدّيّ، ولا سيّما أنّ العائلات الزغرتاويّة جميعها، ولو بتفاوت، تشهد ظهور طامحين، صغار أو كبار، لا يسلّمون بالزعيم الأوحد للعائلة.
وإذا كان سليمان فرنجيّة قد ورث عن أبيه وجدّه «تيّار المردة»، فقد أسّس ميشال معوّض ما سمّاه «حركة الاستقلال» التي أريد لها احتكار 14 آذار في زغرتا. أمّا خارج العائلات و «أحزابها»، فتبدو «القوّات اللبنانيّة» موجودة بقوّة في الزاوية التي تمدّدت إليها بسبب الكره الذي يكنّه أبناء القضاء لزعامة زغرتا. لكنّ ما يحدّ من تأثير «القوّات» تفتّتها، هي الأخرى، ما بين ساحل ووسط وجرد.
وحين كان ميشال عون منفيّاً التفّ حوله شبّان تعرّض بعضهم للملاحقة، أكثريّتهم من العرّة، في محيط آل كرم، الذين سبق لشبّانهم أن انتسبوا إلى اليسار والقوميّين السوريّين. ويبدو أنّ العائلة المذكورة راودها تقديم ميشال عون كاستنساخ عن يوسف كرم في مغامراته وفي فشله في بلوغ ما يريد بلوغه.
هكذا تعرّض سليمان فرنجيّة لضغوط جدّيّة كي يصطحب القطب العونيّ فايز كرم على لائحته، قبل أن يبدأ الانحسار العونيّ. فحاليّاً، انتهت هذه الحالة أقليّةً ضئيلة، خصوصاً أنّ سياسة العونيّين على النطاق الوطنيّ تتلاقى وسياسات فرنجيّة بما يقلّل الحاجة إليهم. ويضيف سمعان اسكندر سبباً آخر لضعف قائد الجيش السابق في زغرتا، هو عدم الانتساب الزغرتاويّ التقليديّ للمؤسّسة العسكريّة. بيد أنّ السبب الأبرز للانكماش كان افتضاح عمالة فايز كرم لإسرائيل، الشيء الذي وقع، من دون شكّ، وقع الخبر السعيد على فرنجيّة.
وهذا لا يلغي أنّ على الأخير، بعد اليوم، أن يحسب حساباً لـ «القوّات»، وبدرجة أقلّ لعون. لكنّ ثمّة ما يشبه القناعة الزغرتاويّة العامّة بأنّ أيّاً من الأطراف لا يريد صداماً مفتوحاً مع الآخر، وأنّ هذه المعادلة لا يهدّدها إلاّ إصابة فرنجيّة بانتكاسة سياسيّة كبرى كالتي ألمّت به في 2005.
خارج القوى تلك ثمّة نوى صغرى ومحاولات متواضعة. فالناشط البيئيّ والاجتماعيّ بطرس معوّض يحدّثنا عن مؤتمر انعقد قبل نحو ثلاث سنوات في دير مار يعقوب في قرية كرم سدّه، لتأسيس «منتدى زغرتا الزاوية» الذي يضمّ مجموعة من الناشطين. وهؤلاء ثلاثينيّون وأربعينيّون جمعت بينهم الصداقة من دون روابط سياسيّة أو إيديولوجيّة ملزمة، وهم من العائلات كلّها، بينهم محامون وتجّار ومهندسون وأساتذة. أمّا أهدافهم فاستيلاد أصوات جديدة وكسر الحواجز بين زغرتا والزاوية، حيث مارست الأولى وصاية مديدة على الثانية، كما بين عائلات زغرتا نفسها. ويلاحظ معوّض أنّ مساحة الحريّة أكبر في الزاوية نظراً إلى بعدها عن المركز السياسيّ، خصوصاً بعد رحيل السوريّين وعودة الأحزاب إلى الوجود. وتندمج في هذا الجهد نشاطات بيئيّة، كحماية جبل المكمل في جرود إهدن من أعمال البناء التي يقف وراءها متموّلون محسوبون على الزعامات العائليّة.
لقد شاع في هذه البيئة، وفي موازاة الثورات العربيّة، تعبير «ربيع زغرتا الزاوية»، ولا يتردّد رموز «المنتدى» في وصف أنفسهم بـ «مستقلّي 14 آذار»، رافضين الانحصار في إطار زعامة آل معوّض، من دون أن يُخفوا تعاطفهم مع سمير فرنجيّة.
فالحركة، بحسب بطرس معوّض، «تلامس حسّاً مكبوتاً عند الناس. كثيرون يقولون لنا: «الله يقوّيكم، لكنّنا لا نستطيع أن نكون معكم».
ويحدّثنا سمعان اسكندر عن ترشّح سبعة أعضاء مستقلّين في انتخابات 2004 البلديّة تمكّنوا من نيل 2500 صوت، بينما فازت لائحة سليمان فرنجيّة بأصوات تتراوح بين 4 و6 آلاف صوت.
وينمّ تحرّك معوّض واسكندر ورفاقهما عن همّ ثقافيّ؛ ذلك أنّ زغرتا تعاني قحطاً ليس من الصعب تبيّنه على الصعيد هذا. فقد نشأ «البيت الثقافيّ» في الثمانينات ثم أغلق أوائل التسعينات، كما نشأ «مركز الغزال الثقافيّ» الذي أسّسه رجل الأعمال ميلاد معوّض، لكنّ الإكليروس وضع يده عليه، ما حدّ من حرّيّته. وهناك مكتبة عامّة صغيرة نشأت عن تبرّع السفارة اليابانيّة ببعض الكتب لزغرتا، فضلاً عن نشاطات «ثقافيّة» ذات طبيعة سياحيّة تشهدها إهدن صيفاً. وإلى ذلك تُحسب على الثقافة مؤسّسات لتوسيع نطاق الخدمات العائليّة والزعاماتيّة، كـ «مؤسّسة رينيه معوّض» التي تقدّم خدمات زراعيّة واجتماعيّة في زغرتا والشمال، أو «مؤسّسة إيريس فرنجيّة» التي تقدّم، هي الأخرى، الخدمات المألوفة.
وعلى العموم، لا يزال الاستثناء الزغرتاويّ يقاوم مشدوداً إلى ما كانه أمسُ جبل لبنان. لكنْ لا يزال هناك زغرتاويّون يحاولون، بالقدرات القليلة التي في يدهم، أن يقاوموا تلك المقاومة.
الحياة