فاروق يوسف: سؤال الفن والمتاهة/ قصي الحسين
قليلة هي الدراسات النقدية حول الفن عموماً والتشكيل خصوصاً، في مساقات النقد الفني العربي، بل نراها تكاد تنعدم خصوصاً في أيامنا هذه. غير أن الأبرز منها، إنما يأتي على شكل قراءات في الأعمال الفنية والتشكيلية لفنانين، اهتموا اهتماماً خاصاً بدراسة التشكيل والحديقة الخلفية التي تكتنفه. ولكنها ظلت في إطار الدراسة التجزيئية والمنعزلة.
وتأتي محاولة الناقد الفني فاروق يوسف: «الفن في متاهة» لردم هذه الهوة وتقديم حزمة من الأدوات والآراء والمصطلحات النقدية والمفهومية، من شأنها أن تضطلع بهذه المهمة. إذ ليس المطلوب الإدلاء فقط بمفهوم النقد بشكل مدرسي، لا يضيف إلى معارفنا شيئاً جديداً، ولكن التفكير الجدي والمعمق أيضاً في هذا المفهوم. والنظر في ماهية النقد والبحث في مجال اشتغالها ونطاق تجسدها. وربما كان لبلوغ هذا المرمى، نرى الناقد التشكيلي فاروق يوسف ينعطف للتفكير في النقد الفني كظاهرة ثقافية، تتمتع بمجال حيوي، وتستعمل أيضاً نظاماً صارماً لذلك.
ولا يشذ التشكيلي المبدع ضياء العزاوي عن ذلك في تقديمه لهذه الدراسة الفنية تحت عنوان «استراتيجية الإلغاء» (ص 7)، فكتب «قراءة هذا الكتاب هي نوع من الاطلاع على منشور سري يفضح سلوكيات المؤسسة الفنية العربية وفنانيها وما تشيعه من أوهام مثل منفاخ ينفجر بمجرد ملامسته إبرة الحقيقة». ويضيف: «كتاب فيه ابجدية قابلة للنقاش للفنانين كمبدعين، ولجامعي الأعمال الفنية ممن يستولي عليهم هوس الحداثة من غير معرفة فعلية للتجارب الفنية على الصعيد العالمي أولاً والعربي ثانياً وللمؤسسات المعنية بتطوير مجتمعاتها من غير أن يؤدي ذلك التطوير إلى فقدان اللغة العربية وما يتبعها من صور مكررة للعالم الآخر على صعيد الفن والثقافة (ص 11).
يعرض فاروق يوسف في مؤلفه هذا، للعديد من الأسئلة، ويكاد يطرحها بشكل مباشر. ويقول ضياء العزاوي، في مكان آخر، إنه على الرغم من أن فاروق يوسف، كان قد نشر هذه المقالات في صحف مختلفة، إلاّ أنها لم تنل ما تستحق من الاهتمام. إذ لم يدع لنا مؤلفها القليل من الوقت للتمعن في القراءة وما فيها من الأسئلة، بل ظل يغمرنا بالتفاصيل على أكثر من صعيد بشكل بانورامي، «يبدأ بالمزادات الدولية التي يتهمها بعدم امتلاك الخبرة في الفن العربي، وليس لديها مراجع أو وثائق ترجع إليها في عملية تقييم العمل الفني» (ص 8).
يكاد أن يكون فاروق يوسف في حيرة من أمره هو الذي رأى الفن في متاهة، ورأى إلى جانب ذلك أن الفن العربي ينزل كما هو في المتحف والسوق تحت وطأة وإملاءات الفنون المعاصرة. ذلك أنه وقف على ما وصل إليه الفن العالمي المعاصر من كشوفات وما حققه من إنجازات، غير أنه رأى أيضاً كيف يستلقي الفن العربي في ترف انتاج فنون، تواكب الفن المعاصر وتقف مشدوهة أمام اللوحة المسندية متأملة من دون أن تحقق له شخصيته، ليغدو من نماذج الفن الإنساني المعاصر. وسبب ذلك أنه لم يخترق فضاء التشكيل وتنويعاته. وأن الانهماك بالعالمية، عربيا،ً ظل يراوح في آفاق مكررة وأحياناً ساذجة وسطحية، تخلو من العمق التي تقوم عليه اللوحة الحديثة، على الرغم من المحاولات الحثيثة للخروج من النمطية التي ما تزال تعتمل في قلب تشكيلنا العربي:
1- يؤكد فاروق يوسف في كتابه أن كثيراً من الأسماء العربية لا تمتلك المعرفة الفعلية وليس لها تاريخ في التجربة الفنية العربية والمساهمين فيها. وهذا ما جعل مروجي الأعمال الفنية من أشخاص وصالات وتجار متنوعين، سواء كانوا عرباً أم إيرانيين، من التلاعب بالأسعار، وبذلك جعل عملية الاختراق سهلة للغاية، أمام مزوري الأعمال الفنية في كثير من البلدان العربية.
2- يواجه المؤلف أيضاً المؤسسات ذات العلاقة بالمعارض والمتاحف، بحالة الجهل التي تسود فيها، وتحول تلك المؤسسات إلى متاجر محلية مغلقة. ويعزو ذلك إلى وجود نقص كبير في أنواع متعددة من الخبرات لديها، بالإضافة إلى ضعف أصحابها باللغات الأجنبية، مما يشكل عائقاً أساسياً يحول دون تواصلها مع المؤسسات العالمية وبرامجها المتنوعة على صعيد التعاون مع المعارض العربية والصالات العارضة والأشخاص الاختصاصيين في ذلك.
3- يتساءل المؤلف عمّا إذا كان ذلك يشكل سبباً وجيهاً في جعل الخبرات الأجنبية في أعلى الهرم المؤسساتي، وتحويل المواطن العربي إلى تابع خدماتي أو إداري. وعما إذا كان تطوير البنى التحتية يمر عبر التابعية الإدارية السيئة السمعة هذه، أم خلال الحوار غير المتكافئ لأجل اكتساب الخبرة وتطوير الموقف المستقل الذي يتأسس على علاقات تواصلية بين المجتمع والمحيط، إن عربياً أو عالمياً على حدّ قوله وهذا ما يشكل لعنة الفن التشكيلي (ص 55).
4- إذا كان الأمر كذلك، فلمن تتوجه كل هذه الفعاليات الفنية بكل ما تتطلبه إقامتها من تكلفة مادة كبيرة، وما علاقتهما بما يحيط بها من مجتمع له تقاليده وكيف يمكن لها أن تسهم تلك التظاهرات الفنية في تطوير البنى التحتية للمؤسسات الفنية العربية الفقيرة، كما يقول الكاتب، إذ ننفق باسم الثقافة ما يضرب بها وبالناس، ولهذا ربما غدت الظاهرة الثقافية، مثل ظاهرة الكوكاكولا ومطاعم الوجبات السريعة على حد قوله.
5- يقول فاروق يوسف كما نستشف من تضاعيف كتابه، إن لدينا عجزاً لا يزال يسم منجزنا. ولا أدل على ذلك من حجم انتاجنا التشكيلي وغيابه عن المشاركات الدولية، وتردي الكتابة عنه، ونكوص المؤسسات الوطنية العامة والخاصة عن رعايته ودعمه، مكتفية ببعض ما تأذن به كليات الفنون الجميلة والهندسة والعمارة الموجهة، وببعض ما تتيحه الأنشطة البائسة التي تقوم بها وسائر الجمعيات والمنتديات.
6- يعترف الناقد بأن هناك قصوراً عظيماً نعانيه في إنتاج الفن. هذا الفعل الجمالي، الذي يكشف عن كنوزنا الروحية ووجداننا الإنساني، وهو يشكل خزانة اللون والحياة، وصورة أخرى للجمال تفيض بنا وتشير إلينا، لنتحرك في فضائها كي تخالط وجداننا وتشكل جزءاً من ملامحنا الحضارية والثقافية على حدّ سواء. وهذا إنما يحتاج إلى رخاء سياسي وفكري وثقافي واقتصادي، ليتسنى للمبدع العربي أن يقدم فرصة إبداعه بالشكل الذي يشعر به ويريده.
7- يرى فاروق يوسف كما غيره من المنشغلين بالفن، أن مثل هذا الطرح قد يتجنى على ما وصله التشكيل العربي من مكانة عالمياً. غير أن الحقيقة أنه لو حدث ذلك فعلاً، ما كان ليتحقق بفضل الخصوصية العربية، بل بفضل النسج على نول صمم في الغرب أساساً، وصنعت ألوانه وخيوطه في باريس ولندن وفيينا وايطاليا. أما نحن فقد عجزنا عن اللحاق بهذه المسيرة الفنية لقصور فينا وفي أدواتنا وفي طرق استلهاماتنا المشوهة.
8- يشير فاروق يوسف أخيراً وليس آخراً إلى القلة من الفنانين العرب المبدعين ممن ساهموا في بناء تجارب مميزة ومتميزة، ولا يفوته أن يرى بينهم الحرفيين منهم والذين يكررون ما تعلموه، حتى باتوا كمنتجي البضائع الفولكلورية للسياح لا أكثر ولا أقل. لأن المحلية تساوي الفولكلورية. أما الأصالة فعليها حقاً، يقع مشروع مواجهة التبعية من جهة وتحقيق وتأصيل مشروع الإبداع من جهة أخرى.
فاروق يوسف: الفن في متاهة. تقديم: ضياء عزاوي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 2015 (295 ص تقريباً) .