فاعل خير/ عسّاف العسّاف
كان ذلك في صباح يوم ربيعي من عام 2001. أنا مستلقٍ بكسل في غرفتي في المدينة الجامعية بدمشق. يدخل صديقي الحوراني الغرفة مستعجلاً طالباً مني النهوض والخروج معه لأمر هام. خرجنا، وقبل أن أسأل، بدأ بتوضيح الأمر لي: “أريدك أن تتصل بهذا الرقم من الهاتف العمومي، وتخبر من يرد عليك أن فلان الفلاني معتقل منذ يومين عند أحد الفروع الأمنية، وإن سألوك عن اسمك وهويتك، فقل إنك فاعل خير، ولا تجب بأكثر من ذلك”. سألت الحوراني عن صاحب الاسم المعتقل، ولماذا لا يتصل هو ويخبرهم بنفسه عن الأمر.
فأجاب: “إنه صديقي، وهو ضابط في مبتدأ حياته العسكرية. وأهله سيعرفون صوتي حتماً لو اتصلت أنا. ولن يكون لي طاقة لتحمل هذا الأمر، وربما سيظنون إني أخفي معلومات أو أخبار سيئة عن ابنهم المعتقل. لكن لاتنسَ، لو سألوك، أنت فاعل خير”.
تحمّست للأمر من منطلق أن هذا أقل ما يمكن فعله تجاه قضية إنسانية وسياسية كهذه. ثم إن الأمر بسيط، سأطلب الرقم وأخبر من يرد علي بخبر الاعتقال، وأقول إني فاعل خير، وأقفل الخط… سيكون الأمر بهذه السهولة.
في الطريق إلى كابينة الهاتف، بدأ الخوف والقلق بالتسرب إلي، ومنسوب الأدرينالين يرتفع مع كل خطوة إضافية تجاه كابينة الهاتف. ماذا لو كان هاتفهم مراقباً؟ حتماً، إنّ هاتفهم تحت المراقبة، خاصة بعد اعتقال الابن الضابط، وهل لدى عناصر الأمن من عمل سوى مراقبة الناس، وإحصاء أنفاسهم. بالتأكيد، سيسجّل الأمن هذه المكالمة، وسيبقى صوتي دليلاً علي حتى لو لم أفصح عن اسمي. ماذا لو التقطوا الرقم الذي أجريت منه المكالمة، ووجدوا الكابينة، وكانت هناك للحظ السيئ كاميرا ما في المكان تصور الداخل والخارج منها؟ ربما تضع هذه المكالمة الأهل في خانة الاتهام والمضايقة، إن أصرّ الأمن على معرفة صاحب المكالمة.
يا الله ما هذه المحنة!
ولكن، لا، لا تراجع أو استسلام أمام هذا الخوف، أقول لنفسي. سأكون حذراً ما استطعت، سأمسح المكان بعيني قبل الدخول للكابينة، وأتأكد إن كان هناك كاميرا قريبة أم لا، سأضع منديلاً ورقياً بين فمي والسماعة حتى تتغير طبقة صوتي. هكذا رأيتهم يفعلون في الأفلام والمسلسلات. ثم إني لن أطيل الحديث. سأخبرهم بجملة مقتضبة عن الأمر، وأنهي المكالمة وأخرج فوراً.
دخلت الكابينة مغلقاً بابها الأوكورديون علي. وضعت المنديل الورقي على السماعة، وطلبت الرقم مع نداء محافظة حمص. أهل صديقنا المعتقل يسكنون هناك. بدأت أسمع رنة التلفون عبر أذني اليسرى التي ألصقتها على السماعة. في الجانب الآخر من رأسي البعيد عن السماعة، حيث أذني اليمنى، أسمع أصواتاً سريعة حادة تشبه صرير الأظافر على معدن صدئ تنخر رأسي بالأسئلة.
ماذا لو ردّت أمه على مكالمتي، وأصيبت بالصدمة، أو انفجرت بكاءً من جراء الخبر. هل سأتحمل أنا هذا الموقف. ماذا لو توسلت لي أو قالت لي ببحة صوت دامعة: “الله يخليك يا ابني، إذا بتعرف وين معتقل أو فيك توصلّله، خبّرنا وساعدنا”.
ماذا سأقول لها حينها، هل سيصمد قناع فاعل الخير أمام هذه الهجمة العاطفية؟ يالله، أي ورطة أنا فيها.
ربما ستظنني عنصر أمن أقوم بتسريب هذه المعلومة لها لأساومهم على حرية ابنهم مقابل مبلغ مالي كبير، وارد جداً هذا الأمر، فعناصر الأمن ملوك هذه التجارة، التجارة بمصائر البشر وحيواتهم وأخبارهم. كم من قصة أحفظها عن مبالغ خيالية دفعها بعض أهالي المعتقلين لمتنفذين أو ضباط كبار ليعرفوا مكان اعتقال أبنائهم، ومبالغ أكبر للحصول على زيارة، ومبالغ أكبر بكثير مع سعي محموم على أبواب هؤلاء المتنفذين لشراء حرية المعتقل، وإخراجه من وجار الضبع.
يا ربّ، اجعل والده أو أحد إخوته يرد على مكالمتي ونجني من التجربة.
ثلاث أو أربع رنات كأنها الدهر، وأنا محاصر بهذه الهواجس والأفكار السوداء. أريد أن أبالغ وأقول أني شعرت كأني معتقل أيضاً داخل كابينة الخوف والهواجس هذه.
أخيراً، فُتِح الخط..آلو.
“مرحباً، هون بيت فلان الفلاني؟”. ردّت: “تفضّل”.
الصوت أنثوي، وقدَّرت أنه لصبية صغيرة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها. هكذا هيئ لي.
“ابنكم فلان معتقل منذ يومين”. ردت الصبية بهدوء واتزان: “لقد وصلنا الخبر قبلاً، شكراً لك مين عم يحكي؟”.
انفرجت أساريري كلها مع جملتها في اللحظة ذاتها التي فتح بها صديقي الحوراني باب الكابينة ليستفسر عمّا جرى.
أجبتها قبل أن أغلق الخط وأخرج من الكابينة: “صديق، أنا صديقه فلان، نعم أنا صديقه، ولستُ فاعل خير”.
أخبرني الحوراني بعدها بفترة أن صديقنا إياه خرج من المعتقل بعد بضعة أشهر، وأنه سُرِح من الجيش، وسافر لإحدى دول الخليج للعمل هناك.
قبل سنة، مرّ اسمه من أمامي في فيسبوك، لا صورة شخصية ولا معلومات أخرى. كيف لي أن أعرف أنه هو، أساساً أنا لا أعرف شكله أو أي تفصيل عن حياته يقودني لمعرفته والتأكد أنه هو ذاته.
بعد تردد أرسلت له رسالة قصيرة مباشرة، “مرحباً، أنت فلان، ضابط سابق ؟”. هكذا بدون مقدمات.
أجابني، بعد لحظة صمت قصيرة، “نعم”. قرأتُ الـ”نعم” مع كل ما أحاطها من مفاجأة وتساؤلات وذهول ودهشة.
أكملت هجومي بسؤال آخر: “أنت كنت معتقل قبل 15 سنة؟”.
أجاب بالإيجاب أيضاً، وهو في حالة ذهول تام، كمن فتح باب بيته صباحاً، وخرج وانهمرت عليه المفاجآت، واحدة بعد أخرى، وعند كل واحدة يسأل نفسه، ماذا بعد؟ لم تعد لوحة مفاتيح الكومبيوتر تلحق بالأسئلة والاستفسارات، من أنت؟ من أين تعرف هذه المعلومات؟
لأطمئنه، أجبته بسرعة، أعرف هذه المعلومات من خلال صديق مشترك بيننا، وذكرت اسم صديقنا الحوراني، وسردت بقية الحكاية كما حدثت تماماً.
بكى صديقي من التأثر، وبكيت أنا وبكى صديقنا الحوراني المشترك، ولوحة المفاتيح، وكابينة الهاتف.
تحادثنا كصديقين يعرفان بعضهما من عشرات السنين. حدثني عن تجربة الاعتقال، وألمها، وكيف قضت عائلته تلك الشهور بأسوأ حال.
ولأغلق الدائرة، وأتمّ الحكاية، قلت له “ضع صورتك لأراك، أنا لا أعرف شكلك حتى”.
أرسل لي صورته فوراً، نظرت إلى الصورة وندمت أيما ندم، ليتني لم أطلب هذا الطلب، فلتلعنك الآلهة يا لساني، لماذا تكلمت؟ ليت الشلل أصابك قبل أن تتحرك وتلفظ كلماتي. لو أن قطاً شيرازياً مضغك بأسنانه الحادة قبل أن تنطق وتفتح الدائرة على حكايات جديدة لا يبدو لها من نهاية.
العربي الجديد