فايز ملص: أن تكون سورياً بامتياز/ صبحي حديدي
في اليوم الأربعين لرحيل فايز ملص (1940 ـ 2015)، يجدر بي التوقف، أولاً، عند السمة الأبرز في شخصيته: أنه كان مواطناً سورياً انتمى ـ بامتياز رفيع، كما يتوجب القول ـ إلى طراز خاصّ من معارضة وطنية وديمقراطية، عريضة وائتلافية، لا تنغلق عند هاجس إيديولوجي واحد (رغم انتماء الراحل إلى فكر يساري وتقدمي لا لبس في خياراته). كان مآلاً طبيعــــياً، إذاً، أنّ تلك المعارضة لم تقتصر على مناهضة نظام الاســـتبداد والفساد، في ميادين السياسة والاجتمــاع والاقتصاد والثقافة، فحسب؛ بل تنفتح على مفهوم مستقبلي عن سوريا، يُدرج اختلاف الأفكار وتعدد العقائد واتساع الآفاق واغتناء الجماعات.
مآل متمم آخر هو اتساع رؤية ملص الشخصية، أو الذاتية بالأحرى، لأنها انبثقت من أواصر واعتبارات ذات صلة بالذات أيضاً؛ بحيث تصدّرت القضية الفلسطينية مكانة مركزية في جهازَي الوعي والممارسة معاً. ولم يكن ذلك غريباً على غالبية أبناء ذلك الجيل العربي، والسوري خاصة؛ ما خلا أنها طوّرت عند ملص مستويات إدراك وعمل تتجاوز الانحياز المحض لمفهوم «المقاومة الفلسطينية». في عبارة أخرى، لاح وكأنّ ملص ـ أسوة بصفوة لامعة من النساء والرجال على شاكلة جدله ذاك ـ معنيّ بالبرنامج الاجتماعي ـ السياسي عند «فتح» مثلاً، بقدر بحثه عن الثقافي والفكري عند «الجبهة الشعبية» في مثال ثانٍ. وها أنه، في دراســـة بالفرنسية، نشرتها «لوموند دبلوماتيك» في أيار (مايو) 1967، يقرأ أسباب انصراف الجماهير الفلاحية عن الأحزاب السياسية التقليدية في مصر وسوريا، وإقبالها على الأحزاب الراديكالية مثل الشيوعي والإخوان المسلمين. قضايا اليمن، بين شمال وجنوب، وتيارات ناصرية وأخرى ماركسية وثالثة قبائلية، كانت لها حصة في تأملاته وكتاباته؛ وكذلك المغرب العربي، والســـودان، والعراق. وفي ذلك كله، امتزج المقال والموقف المعلن، بالمشاركة في اعتصام تارة أو تظاهرة طوراً، وفي توقيع العرائض وصياغة البيانات…
يهمني شخصياً، في المقابل، أن أتحدث عن بُعد آخر في شخصية الراحل، أي صلة ملص الوثيقة بالشعر. ففي مقالته «ذهنية الشتاء: تأملات حول الحياة في المنفى»، التي نشرها في عام 1984، حدّد إدوارد سعيد بعض خصائص المنفى، والمنفيّ بالتالي؛ فرأى أنّ المنجز الأساسي في الثقافة الحديثة صنعه منفيون، أو مهاجرون، أو لاجئون، من أمثال ألبرت أينشتاين وجيمس جويس وصمويل بيكيت وفلاديمير نابوكوف وإزرا باوند وسواهم. وهكذا، أنْ نفكّر بفوائد المنفى كباعث على الموقف الإنساني والإبداع، أمر لا يعني التقليل من عذابات المنفيّ الكبرى؛ وأنْ نرصد أنماط المعاناة اليومية التي يعيشها شاعر في المنفى، أمر آخر غير أن نقرأ شعره عن المنفى، لأنّ الشعر هذا يسبغ الكرامة على شرطٍ، كان القصد منه في الأساس حرمان الشاعر من الكرامة.
ورغم أنّ ملص لم يكن شاعراً، ليس بصفة معلَنة في الكتابة والنشر على الأقلّ، فقد أوحى لي شخصياً، ومذ أن التقيت به للمرّة الأولى سنة 1986، بذلك المنفيّ / الشاعر الذي تحدّث عنه سعيد؛ وذلك الشعر الذي لا يكتفي بلَعْق جراح النأي والفقد والغربة، ولا يلبث ساكناً على الخطوط الجانبية للحياة في المنفى، بل يطوّر حسّاً بالذات عالياً ومعمقاً، ثمّ وطنياً وإنسانياً رحباً بالضرورة.
ثمة مستوى أوّل أتاح لي تلمّس ذلك الشاعر في شخص ملص، أي علاقته بالنصّ الأدبي، أو بالفنون إجمالاً، والتي كانت حيوية من جهة الاستقبال، وإبداعية من جهة الإرسال، إذا جاز لي عَقْدُ المعادلة هكذا. ولقد أسعفني حسن الطالع فكنتُ طرفاً في جلسات باريسية، شهدت آراء الراحل في نتاجات كبار من أمثال نزار قباني ومحمود درويش وسعد الله ونوس وعمر أميرالاي، بحضورهم؛ حيث اشتبكت، طيّ مداخلاته، صرامةُ الناقد وعذوبةُ الشاعر.
المستوى الآخر كان ترجماته البديعة للشعر، وأخصّ بالذكر مجموعتَيْ إيتل عدنان «أمواج»، 1997، و»قصائد الزيزفون»، 2001. وفي هاتين المجموعتين، أسوة بمعظم ترجماته الشعرية الأخرى، صرف الراحل جهداً بالغاً في تقليب عشرات المقاطع على أكثر من وجهة وصياغة؛ والمقارنة بين الأصل الإنكليزي والترجمة العربية، تبيّن مقدار السلاسة الذي نجح في بلوغه، وهو يغالب نصوصاً عالية الكثافة وشديدة الوعورة.
وأما المستوى الثالث، المعلَن هذه المرّة، فقد كان سلسلة الخواطر الوجدانية التي اعتاد الراحل على نشرها في هذه الصحيفة، «القدس العربي»، تحت عنوان «تداعيات». وهنا، كذلك، كانت شخوص ملـــــص المتعددة تتبارى داخل سطور النصّ، فلا يتراجع السياسي المعارض، إلا لكي يتقدّم الاقتصادي أو خبيـــــر المعلوماتية؛ ولا تعلو نبرة القارىء / الناقد الحصيف، إلا لكي تخفت نأمة الشاعر الحساس؛ وبين هذه وتلك، هيهات أن تغيب الشام عن السطور، أو بينها؛ وهيهات أن يبهت الملمح السوري المقيم.
ويبقى، يا صديقي، ذلك التفصيل الوحيد الجارح، الذي يعزّينا في رحيلك: أنّ ذاكرتك تواطأت معك، بالحسنى وبالتراضي، فجنّبتك أن ترى ما فعل ببلدك ذلك الطاغية قاتل الأطفال، سليل القَتَلة ومجرمي الحرب؛ فأغمضتَ العين وأنت تردد، أغلب الظنّ: يا طير سلّملي ع سورية!
القدس العربي