فخ قصيدة النثر/ عبده وازن
كل كتاب نقدي جديد يصدر عن قصيدة النثر العربية يعيد طرح قضية هذه القصيدة وكأنها حتى اليوم، وبعد مضي أكثر من نصف قرن على انطلاقها، لا تزال ضرباً شعرياً غريباً أو طارئاً أو «دخيلاً». وبينما تخطّى الغرب لا سيما فرنسا، مسقط هذه القصيدة في القرن التاسع عشر، هذه «التسمية» كنوع شعري، حتى أن ما من شاعر اليوم يُسمى شاعر قصيدة نثر، ولو كتب هذه القصيدة، ما برحنا نحن العرب، نقف عند عتبة «التسمية» وإشكالاتها المصطنعة التي كان يفترض التخلص منها قبل عقود. الشاعر انسي الحاج الذي كان سباقاً في كتابة هذه القصيدة عربياً لم يُخف مراراً تبرّمه بهذه «التسمية»، وقصر تجربته الفريدة في إطارها خصوصاً أنه ما لبث أن تجاوز هذا النوع نحو القصيدة الشاملة التي بلورت ما يسمى شعر النثر الذي يقارب الشعر الحر في أصله «النوعي»، قبل أن يُساء فهمه ويُعمم سوء الفهم هذا، مع نازك الملائكة ورفاقها «المحافظين».
ما زال النقد العربي الجديد يتعامل مع قصيدة النثر بصفتها قصيدة «بداية» لم تترسخ أو تتطور مع أجيال من الشعراء الجدد استطاعوا أن يتخطوا مرحلة «شعر» ويفرضوا معالم جديدة لهذه القصيدة مشرّعين آفاقها على مدارس وتيارات غير معهودة سابقاً. ما زال هذا النقد يجتر مقولات سوزان برنار التي دخلت «متحف» النقد الحديث من دون أن تفقد قيمتها المرجعية طبعاً، ومرجعيتها هذه كانت أصلاً حافزاً على ولادة نقد ما بعد حداثي للشعر الراهن فرنسياً وعالمياً. الشروط التي استخلصتها سوزان برنار ناقشها هؤلاء النقاد، نقضوا بعضها ووسّعوا آفاقها واستفاضوا في شرح مفهوم الإيقاع النثري ومنهم الشاعر والناقد هنري ميشونيك، والنقاد الان مونتادنون وأيف فاده وميشال ساندراس وجيرار ديسون الذي وضع كتاباً مشتركاً مع ميشونيك، هو من أهم المراجع لقراءة المفهوم الإيقاعي الجديد للشعر الحديث وعنوانه «مقالة في الإيقاع: الشعر والنثر» (دار دونو- باريس). هؤلاء النقاد أزالوا صفة «الثابت» عن معايير أو مقاييس قصيدة النثر التي استنبطتها سوزان برنار، وأثبتوا أن لا «توصيف» ثابتاً وجاهزاً ونهائياً لما يسمى شعر النثر ومن ضمنه قصيدة النثر نفسها.
يُفرد الشاعر والناقد شربل داغر في كتابه الجديد «الشعر العربي الحديث: قصيدة النثر»(منتدى المعارف) وهو يجمع بين التأريخ والتجميع والتحليل، فصلاً للشاعر محمد الماغوط ويعدّه شاعر قصيدة النثر الأول، ويخلص إلى أن قصيدة النثر العربية أضافت بعض التجديد مع الماغوط إلى الشعر العربي، وهذا التجديد يتبدى في نزول القصيدة من علياء البلاغة والموضوعات والقيم إلى «دنيوية» الأرض والإنسان والقصيدة الجديدة. وهذا ما تحدث عنه أيضاً سابقاً الناقد محمد جمال باروت في بحوثه الشعرية. إلا أن الشاعر عبد القادر الجنابي الباحث في خصائص قصيدة النثر العالمية حذف اسم محمد الماغوط من الأنطولوجيا العالمية لقصيدة النثر التي أنجزها تحت عنوان «ديوان إلى الأبد» والسبب أن صاحب «حزن في ضوء القمر» لم يكتب قصيدة نثر بحسب المعايير الثابتة التي استخلصتها سوزان برنار في كتابها الشهير والتي استعرضها الجنابي في مقدمته الضافية وهي المجانية والإيجاز والكثافة، عطفاً على كلامه عن «الكتلة» أو الفقرة «المكوّنة من جمل تتلاحق بكثافة». ويشير إلى أن «غياب التقطيع أو التشطير في قصيدة النثر يشكل علامتها الأساسية». إنها المعايير أو المقاييس التي ناقشها النقاد الفرنسيون الجدد ونقضوا بعضها، بل أن الناقد ميشال ساندراس تساءل عن موقع قصيدة الشاعر الكبير اندريه دو بوشيه الذي أدخل مساحة البياض إلى شعر النثر.
ما أحوج المكتبة العربية اليوم إلى دراسة تتناول قصيدة النثر الجديدة التي تجلت مع الأجيال التي تلت مجلة «شعر». هذا هو التحدي الذي يجب على النقاد أن يخوضوه.
الحياة