فرناندو بيسوا: قديماً كنتُ أعرف القراءة
ترجمة وتقديم: مزوار الإدريسي
بحلول 30 من تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، تكون قد مرَّتْ ثمانون سنةً على رحيل فرناندو بِيسْوَا (1888-1935) عن عالم الفانين، ولا تقتصر شهرة الشاعر والكاتب على بلده البرتغال وحده، فشهرته ملأت الدنيا وشغلت الناس.
وُلِدَ بيسوا في لشبونة، ونشأ في جنوب أفريقيا، فكانت اللغة الإنجليزية لغته الأمّ مثلما البرتغالية، حتى إنه كان يكتب بها إبداعَه أيضاً، ويُحكى عنه أنه استدرك على القاموس الإنجليزي أخطاء، فصوَّبَها إبَّان اشتغاله مُحرِّراً ومترجِماً في شركة تصدير بلشبونة، وراسل دار النَّشر بإنجلترا، فكان أن تعاقدتِ الدارُ معه ليكون مُراجعاً لأعمالها.
كما اشتُهِرَ كثيراً في العالَم العربي بكتابه “اللاطمأنينة” الذي ترجمه الشاعر المهدي أخريف قبلَ صدور ترجمات عربية أخرى للكتاب.
هذه “الملاحظات الشخصية” هي نص ضمن “يومياته”، وتعود إلى فترة زمنية محصورة بين شهر أيار/ مايو وكانون الأول/ ديسمبر 1913، وتكشف عن بيسوا القارئ الواعي، وعن اختياراته القرائية وبعض مواقفه النقدية والفكرية من بعض أعلام الكتابة والفكر في العالم، كما تُبرز بعضاً من هواجسِه التي كانتْ، دون أدنى شك، أصلاً لابتكاره الأندادَ الذين كانَ يكتب الأشعارَ والنصوص باسمهم.
ملاحظاتٌ شخصية
خلَّفتُ ورائي عادةَ القراءة. ما عُدتُ أقرأُ شيئا سوى الصُّحف مصادَفةً، والأدبِ الخفيف وبعضِ كُتب الدّعم التي تعالج قضايا أكون بصدد دراستها، والتي يُمكن أن يكون مجرَّدُ التوثيقِ ينقُصُها.
*
لقد نسيتُ النموذج الأدبي الذي على هذا النحو، عمليًّا. يُمكن أن أقرأَ لأجل التعَلُّم أو المتعة، لكنْ ليس لديَّ ما أقرأه، ثم إنَّ اللذة التي تنبعث من الكُتب هي من صِنف يُمْكِن أنْ يُعوَّض بانتفاع، إذ بوُسْع الاتصال بالطبيعة وملاحظة الحياة أن يُقدَّما لي مُباشَرة.
*
الآن، أنا أمتلك كُلِّيًّا القوانينَ الأساسيةَ لفن الأدب. لا يُمكن لشكسبير أن يُعلِّمني كيف أكونُ ثاقب الفكر، ولا مِيلْتُون كيف أكون كاملا. لقد اكتسب ذكائي طلاقةَ الحركة وشأوا بحيث إنهما يُقْدِرانني على أنْ أتحمَّل أيَّ انفعال يُرغَب فيه، وأنْ يدخلَ وَفْقَ إرادتي في أيِّ حالٍ ذهنيَّة. وفي الاتجاه ناحيةَ ما يَكُونُ كفاحا دَوْما وقَلَقًا، أيِ الكمال، لأنَّ لا كتابَ بمقدوره أنْ يُقدِّمَ لي عونا.
لا يعني هذا أنَّ استبدادَ الفنِّ الأدبي قد رَجَّني. فأنا لم أَقُمْ سوى بتحمِّله وبالإبقاءِ عليه خاضعا لي أنا نفسي.
*
لديَّ دوْما بجانبي كتابُ: مذكِّرات بيكويك. وقد قرأتُ مرات عديدة كُتُب السيد و.و.جاكوبس. إنَّ انحدار الرواية البوليسية قد أوْصَدَ إلى الأبد بابا، وانفتَحتْ لي إثر ذلكٌ أبوابٌ في الكتابة الحديثة.
*
تخلَّيْتُ عن الاهتمام بالناس الأذكياء فحسب. ويلز، وشيسترتون، وشاو. أفكار هذه الشخصيات شبيهة بأفكار كثيرٍ من الأشخاص الذين لا يكتبون؛ فبناء أعمالهم مُحصِّلتُها صفر.
*
السوسيولوجيا هي غباءٌ صِرْف؛ مَنْ ذا بوسعه أن يتحمَّل هذه النزعة السكولائية في بيزنطة الحالية التي نسكُنها؟
*
جميع كُتُبي هي أعمال مرجعيَّة. أقرأُ شكسبير لأستطلع إشكالية شكسبير فقط، أما الباقي فأنا أعرفه.
*
لقد اكتشفْتُ أن القراءة شكلٌ للحُلُم في حال استعباد. إنْ كان عليَّ أن أحْلُمَ، فلماذا لا أحلُمُ بأحلامي الخاصة؟
*
إن افتقادَ الاتصال بتفاصيل المحيط هو مَعْلَمٌ للفنان الأدبي، وتكونُ مُهمّتُه تمثيل المجموع، وليس التفاصيل التي للمُحيط المذكور.
*
قديما، كنتُ أعرف القراءة. اليومَ، عندما أقرأُ أضيع.
*
الميتافيزيقا- عُلبة لاحتواء اللانهائي- تجعلني أفكِّر دوما في ذلك التعريف الذي للعلبة، الذي سمعته من فَمِ طِفل. أتَعْرِف ما العلبة؟، سألتُه، ولستُ أدري الآن لماذا. بل أعرف، يا سيدي، أجابني، إنها شيءٌ لحِفْظ أشياء.
*
لقد تصرَّفتُ دوما جهةَ الداخل… أبدا لم أمسَّ الحياة… وكلما كنتُ أرسمُ حركةً كنتُ أنتهي في حُلُم، بشكل بطوليٍّ… إنَّ سيفا يَزِنُ أكثرَ من فكرة سيف… لقد سيَّرتُ جيوشا كبيرة، وانتصرْتُ في معارك كُبرى، واستمتعْتُ بهزائم كُبرى؛ وكلُّ شيءٍ كان يَحْدُث داخلي.
استمتَعْتُ بالتجوُّل في الممرّات المحفوفة أشجارا، وعَبْرَ الممرّات الطويلة، مُصدِرًا أوامر إلى الأشجار وإلى الصُّوَر المرسومة على الجدران.. وعبْر الممرّ الطويل الموجود في القصر تجوَّلْتُ مرَّاتٍ كثيرةً مع خطيبتي.. لم تكن لي خطيبةٌ حقيقيَّةٌ أبدا.. وأبدا لم أعْرفْ كيف أُحبُّ.. عرفتُ كيف يُمكن أن أحلُمَ بالحبّ فقط.. إنْ كان يُعجبُني أن أضَع خواتمَ النساء في أصابعي، فلأنه كان يَروقني أحيانا أنْ أتصوَّر في شبابي يديَّ على أنهما يَدَا أميرة، وأن أتخيَّل أني، على الأقل في تلك الحركة ليدَيَّ، الشخْصُ الذي تُحِبُّه..
ذات يومٍ عُثِرَ عليَّ مرتَدِيًا ملابس ملكة.. وذلك أني كنتُ أتخيَّلها أنها كانت زوجتي الملكيَّة.. كان يُعجبني أن أرى وجهي منعكسا، لأنه كان بمقدوري أن أتخيَّل أنه كان وجه شخص آخر؛ لأنه كانتْ له ملامح أنثوية، ذلك أنّ الانعكاسَ كان لمُحيّا محبوبتي.. كم مرّةٍ لامسَ فمي في مرآةٍ فمي! كم مرَّةٍ أزَحْتُ إحدى يدَيَّ باليد الأخرى، وكم هِمْتُ بشَعَري عَبر يدي المجنونة كي تبْدُوَ يدَها عند لمْسِها إيّايَ. لستُ أنا من يقول لك هذا… بل بقيَّتي هي التي تتكلَّم.
*
أتوقَّف أحيانا بين الحياة التي تمضي وتؤوب، أعْزِل فضاءَ المرور. والاندهاشُ الذي يُثيرُه فيَّ كلُّ شيءٍ ينقضُّ عليّ.
وهنالك لحظات أخرى يبدو فيها الكونُ، فجأة، يُمَثَّل سيئا وأنه يقوم بدورِ كونٍ آخَرَ، يبدو لي فيه أني أسْمَعُه، بغتةً، بصوتٍ آخر، وأني أفاجئه لثانية يُنجز حركةً أخرى، كأنه سِتار تُحرِّكه الريح، وفي لحظة، يتركك ترى صورة شيء مجهول وغير منتَظَر..
العربي الجديد