فسيفساء الحاضر/ رفيق شامي
الحلقة الثانية
حول الأمل في زمن السلاح: ملاحظات نقدية على اليأس كظاهرة مرضية
“اعجب لمن لا يجد قوت يومه ولا يخرج شاهرا سيفه”
ابو ذر الغفاري
بعد صدور الحلقة الأولى في “صفحات سورية” بدأت بترتيب وصقل مواد الحلقة الثانية لهذه المقالة، لكن ردود الفعل على الحلقة الأولى اوقفت عملي، فلقد تلقيت أسئلة كثيرة عن طريق الإيميل والهاتف أجبت عليها، وما أن أرسلت جواباً أو إنهيت حوارا هاتفيا، حتى طرح سؤال آخر نفسه علي، سؤال نبع من إجابتي، ولم أكد ارضي نفسي بمحاولة إجابته حتى ولد للسؤال أربع بنات وثلاث بنين، وهكذا دواليك. بعد أن هدأت وتيرة الأسئلة وجدت ان أغلب ما كنت سأصيغه في الحلقة الثانية قد اصبح جزءاً من أجوبتي، وهذا ليس بالغريب فهو كان حاضرا في ذهني ووجداني، فأنا اكتب مقالاتي ببطء ولا أحسد أي من الأصدقاء والزملاء الصحفيين المجبرين يوميا على الكتابة…
ولهذا السبب أيضا أريد ان اتابع مقالتي بمحاولات للتقرب من صورة للوضع الحالي يتداخل فيها العام بالخاص، الذاتي بالموضوعي والحاضر بالمستقبل. هذه المداخلة ستكون كأحجار فسيفساء تكمل بعضها للوحة عن الحاضر والمستقبل وهي بذلك قريبة من وضعنا الحالي المفكك وصور مستقبلنا التي لاتتعدى معرفة بضعة أحجار مبناه .
هل يتفكك النظام يوما بعد يوم؟
النظام يتفكك لكن قوى الثورة تتفكك ايضا. ومن يقدم نفسه من جهاديين كخيار هو أسوأ من النظام. فالنظام سلطة عائلة وطدت نفسها عبر إنقلابات عديدة علنية وسرية شارك فيها قلة فحولت البلد لمزرعتها. لكن هذا النظام لم يصعد على أكتاف مئات آلاف الضحايا وجبال من الألم في معتقلات. النظام نظرا لطبيعته الفاسدة يضطهد شعبنا العظيم يتعابير قومية جوفاء والجهاديون يتسلقون فوق أكتاف شهداء وشهيدات الثورة وأبطالها وبطلاتها في سجون النظام ليضطهدونه في المناطق المحررة تحت شعار ديني، لادين له، أجوف متعجرف. النظام واكب الحضارة بسطحية المستهلك وبتخلف مزري وتبعي كسمسار حقير، لكن الجهاديين، ليس عملاء الأنظمة ومخابراتها في إيران وسوريا وقطر والسعودية فقط، بل حتى تلك الأقلية من الأغبياء ذوي الأنفس الطاهرة، يريدون إخراج سوريا والشعب السوري من المدنية والتاريخ. وكل هذه الأدلة لا تطمئن عن حال الثورة لكنها لا تمس الأمل المحق بشجاعة هذا الشعب البطل الذي سيتجاوز محنته التاريخية.
صرنا بحاجة لمصنف وفهرس بأسماء الألوية
التهريج بتأسيس الوية فوق الوية وجيوش فوق جيوش لا يصب في صالح الثورة بشيء. إنه شرذمة لجيشها الحر، وقيادة هذا الجيش بائسة بشكل أنها لا تعي حتى ذلك. لا بل تحتفل وبحضور رئيس أركان الجيش سليم إدريس (المطرود قبل أيام) بإعلان ولادة الوية جديدة هذه المرة بإسم “حزم” وبنفس لهجة الإنقلابيين: “حرصاً منا في الحفاظ على ثوابت ثورتنا و الوقوف في وجه كل من يحاول حرف مسارها المتمثل بإسقاط النظام وتحقيق طموحات شعبنا في حريته و إستعادة كرامته …. لنؤكد لشعبنا العظيم أننا سنقف بوجه كل من يحاول المساس بثوابت الثورة وتضحيات شعبنا أو الإساءة الى شهدائنا ومجاهدينا…” وكأن إدريس حفظها بصما من مسرحية “غربة” للكاتب الرائع محمد الماغوط… لم يبق سوى “الضرب بيد من حديد وتحرير فلسطين….” لم أعد استطيع تحمل هكذا صراخ فارغ….
على الإئتلاف ان يسرع بدفع ما طرحه منذ خريف 2013 كمشروع بناء جيش وطني كذراع عسكري للإئتلاف قدما. أهداف هذا الجيش تنبع من قلب المواطنين الشجعان بنات وابناء هذا الوطن الذين صرخوا وهم يتعرضون لرصاص القتلة: واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد. على هذا الجيش ان يناضل من أجل حرية وديمقراطية الوطن وأن يكون حنونا رقيق القلب تجاه الشعب بكل طوائفه وإثنياته وصلبا شجاعا عنيفا تجاه أعداء الوطن والشعب وأن يرفض منذ لحظة تأسيسه بشكل قاطع ودون رياء أسلمة الصراع. وأطمئن القائمين على الإئتلاف أن هذا الجيش سيصل مهما كانت نواة بدايته صغيرة إلى هدفه وإن تقدم ببطء عبر وضوح هدفه، هدف الشعب السوري في الحرية والكرامة لأن هذا هو المحرك الثوري الذي دفع السوريين للقيام بثورتهم. وأنا متأكد أن هذا الجيش سيسبق، كما سبقت السلحفاة الأرنب، هذه الألوية الهوجاء التي صمت آذاننا بأخبار إنتصاراتها وخططها وإضطهدت بذات الوقت في المناطق المحررة (حتى هناك حيث إحتلت داعش بجبن وخبث مثلا مناطق محررة سلفا) الشعب السوري.
مواطن الضعف ليست على أي حال داعي للشماتة إنما لإصلاحها بشجاعة
أهمل الإئتلاف كما أهمل قبله المجلس الوطني فرصة تاريخية، بعدم وضوحه وعدم رص صفوفه وراء ما نادى به ملايين الثائرين في الشوارع، وعدم تواجده بين صفوفها، منذ لحظة تأسيسه لصياغة أهداف الثورة من هناك بلغة الناس الذين يحملون بتضحياتهم علم الثورة ووضع برنامج يسبق بخطواته ما وصلت اليه الجماهير لا أن يلهث وراءها ويستهلك وقته وطاقته في كواليس سياسة مزرية التي أدت به إلى ما يقارب العدمية. الكوارث السياسية ليست على الأغلب سوى عقاب التاريخ، القاضي عديم الرحمة، ليس فقط لجريمة خيانة المبادئ الإنسانية التي تطرحها ثورة او حركة او حزب ما، بل ايضا لتردد وتخلف قيادة ما عن نبض وتواتر الشارع الثوري وعقم إقتراحاتها.
النقد البناء لم يضر أحد. لكن ما اتابعه في وسائل الإعلام لا علاقة له بالنقد الهادف إلى تحسين عمل الإئتلاف. لم يبق من الفصائل والمفكرين والكتاب إلا قلة ممن لم يُخَوِنوا ويُشهِروا بمعارضة الخارج ومجالسها وإئتلافها. وانا لست بصدد لعب دور “محامي الشيطان” ولكني ارى وبكل هدوء أن هذه المعارضة ممثلة بإئتلافها لم تضر الثورة رغم فشلها في قيادتها بقدر الضرر الذي الحقه بها مسلحون. وآسف ان اقول، أن مكاييل المشهرين ليست ذات مصداقية عالية فهم لا يتأثرون ولا يندبون ولا يشهرون بالتنظيمات العسكرية التي تخطف وتقطع الرؤوس وتغتصب النساء والأطفال بقدر تشهيرهم بأعضاء المعارضة وتجمعاتها. وقلة هي الأصوات التي تنتقد المنظمات العسكرية، حتى أصبح ذلك مبررا للشك بالنقاد..
ياحبذا لو تكلم كل منا بما يفهمه.
أنا لا اريد ولا اقصد نقد هذا التكتيك العسكري أو ذاك الهجوم او الإنسحاب في معركة ما فأنا اولا لا خبرة لي بالمسائل العسكرية وثانيا لا أستطيع حتى ولو كنت أملك تلك الخبرة أن ارى من هنا، من منفاي البعيد، ما على مقاتل وسط الخراب والدمار أن يفعله تجاه قوات النظام التي تحاصره أو تلك التي يحاصرها. لذلك لا تعنيني هذه الناحية في هذه المداخلة إطلاقا. وأنا آسف كل الأسف أن بعض المعارضين يضحكنا عن غير قصد وهو الذي لم يمسك في كل حياته بندقية ولا قضى يوما واحدا في حركة مسلحة عندما يتحول وراء طاولته لمهرج عسكري برتبة جنرال.
ما يعنيني ولي الحق ككل أبناء وبنات سوريا أن انتقده هو هذه العسكرة المميتة لنشاط الجماهير الثوري التي تغلبت على خوفها وأرعبت النظام. وأصابنا كما يقول المثل العامي. “أراد أن يكحلها فعماها”. خرج المسلحون الشرفاء من الجيش السوري رافضين إطلاق النار على إخوتهم وأخواتهم، خرجوا ليحموا المتظاهرين وبعد سنة اقصوا عبر خططهم وتصرفاتهم كل الجماهير عن أية فعالية سوى التعرض للقتل والدمار والجوع.
وقد عبرت عن مخاوفي أول نقد لي على ” صفحات سورية” في 16 أوكتوبر 2011 بعنوان الثورة السلمية بين تطبيل المسالمة والعسكرة . وتابعت هذا النقد في كل المقالات التي تلت، لأني توقعت بإزدياد العسكرة إزدياد سلبية الجماهير وتحويلها لمتفرجين وضحايا على رقعة الشطرنج العسكري بين كل القوى المتناحرة وهذا ما حصل فعلا، لكنه أبدا لم يدفعني لليأس ووثقت أن هذا الشعب العظيم سينتصر على خوفه ايضا تجاه الجهاديين ويطردهم من كل أماكن تواجدهم، ليستلم قيادة الثورة من جديد.
وكما شرحت سابقا ليس المقصود بنقدي للعسكرة نقد الدفاع عن النفس، بل ذلك التطور السلبي للعسكرة كطريق وحيد أحد وبأيدلوجية واحدة تخون كل الآخرين، هذه العسكرة هي، وليس النضال الثوري السلمي، التي فتحت الباب لهؤلاء القتلة المحترفين فعملوا سواء بأمر مباشر اوحتى بدون علم كمتمم للنظام وليس كنقيض له.
للمرة الواحدة بعد الألف هل التفاوض ضروري؟ هل هو خيانة أم بطولة؟
ليس التفاوض فضيلة او رذيلة ولا هو مبدئيا بطولة أو خيانة، و ليس التفاوض ضروري بأي ثمن، لكن إن لم يكن منه بد فلا بد من تحمل مسؤوليته بالكامل لا رفضه بطفولية و”ثورجية” فارغة. تملي الحاجة للتفاوض في كل عصر وزمان نفسها بمجرد إندلاع أي قتال. ونتيجة المفاوضات لا يمكن أن يعرفها مسبقا إلا الأنبياء الكذبة، ويا لكثرتهم في ايامنا. هؤلاء الذين يعرفون كل شيء سلفا، المفاوضات كالسير في الأدغال تتطلب الكثير من الحنكة والمرونة والمعرفة والصبر. إنها من أشرس انواع النضال الغير مسلح. هذا ما يحضرني عندما أفكر مليا بكلمة مفاوضات.
معارضة الخارج إرتكبت كثيرا من الأخطاء لكنها تتعلم بسرعة. والتاريخ سيشهد أن هذه المعارضة في الإئتلاف والمجلس الوطني لم تؤسلم الثورة رغم وجود وزن هام للإخوان في صفوفها، بينما تبدأ كل فرقة من ثلاثة رجال تحمل سلاح ولم تقم بشيء بعد في أول تصريحاتها بأسلمة الصراع.
وقد قامت المعارضة في جنيف 2 وجنيف 3 رغم كل العقبات بعمل لا بأس به. انا لم أر يوما نية حسنة واحدة للأمريكين أو الروس في اية قضية يضعوا ايديهم فيها لأعود بعد شيبتي إلى حسن ظن بدائي غبي فيهم، لكني أصر على مقارعة العدو على كل الجبهات لأن ثورتنا على حق وتناضل من أجل أبسط الحقوق بديهية في نظر العالم: الحرية والديمقراطية. واول تلك الجبهات… وأشدد أولها هي النضال السياسي على خشبة المسرح العالمي وامام عيون العالم. فإذا اوصلتنا المفاوضات إلى خطوة متقدمة على هذا الطريق ووفرنا بها دمار وشهداء فيا أهلا وسهلا بها، وإن فشلنا فإنما نكون قد قمنا بواجبنا تجاه شعبنا وحريته وإحترمنا أرواح البشر.
يغدق الجهاديون التهم من العيار الثقيل على مفاوضي المعارضة متهمين إياهم بالخيانة والولوغ في دم الشهداء إلى ما هنالك من كذب تحريضي بذيء ورخيص. وكأن معارضة الخارج وقفت في وجههم ومنعتهم من التقدم حتى القصر الجمهوري.
هذه المعارضة رفعت على الأقل صوت الثورة وكشفت بقدرة دهائية جيدة كل الاعيب المعلم والجعفري إلى حد إجبارهم على الهستيرية… وإلى حد إعتراف الإبراهيمي، صديق كل الأنظمة، أن وفد النظام عرقل المحادثات… النظام أراد تحويل المفاوضات لتهريج عن مكافحة الإرهاب وخرج بفضل مفوضي المعارضة بخفي حنين. وبالتالي أوصل الإئتلاف صوت سوريا الحرة للعالم بينما لم يكترث المسلحون بتصرفاتهم الشائنة ولا بالكوارث الدعائية التي خدموا بها سواء عن قصد خبيث او بغباء منقطع النظيرعن غير قصد النظام وأصدقائه في العالم. وأتذكر نفس الكارثة التي جلبها المسلحون الفلسطينيون على قضيتهم بحيث إحتقروا السياسة وارادوا الحسم العسكري وخدعوا شعبهم بالقول أن النصر قريب، وهم أعلم الناس بمقدرة إسرائيل العسكرية، ولما لم ينجحوا في مواجهة الإسرائيلين عسكريا قاموا بخطف الطائرات ( وكان كل نقد لهذه القرصنة آنذاك يتهم بالخيانة) وإن لم يجلب ذلك سوى الويلات فبتفجير أنفسهم في مقاهي وباصات ركاب… واليوم تراهم وقد خمدت كل عملياتهم وتركوا الشعب الفلسطيني لمصيره تحت رحمة وهيمنة الإسرائيليين.
لا يحتقر الثوار المسلحون اي شكل من أشكال النضال يقرب ثورتهم من النصر. زعران السلاح فقط هم من يتهكم على كل سياسة وكل مفاوضات نتيجة ضعف أنفسهم وقصر باعهم الفكري. ويذكرني هذا بضحك وهزء الجهلاء من كل جديد عسر فهمه عليهم سواء كلن ذلك فن، أدب أو حتى طعام لم يألفوه.
نقد محق وردة فعل غبية
يعيب بعضهم وينتقد بشكل عديم الرحمة كون هذا العضو في المجلس الوطني أو الإئتلاف أو ذاك الصحفي المقرب لعضو في الإئتلاف قد كان (او لا يزال) عميلا للنظام. هذا النقد صحيح ويصعب علي أحيانا فهم كيف لصحفي إنتهازي مثل جهاد بلوط أن يتسلل ليصبح رئيسا ومسؤولا عن الإعلام اثناء مفاوضات جنيف 2 … وأنا أعتقد عن معرفة ان هناك صحفيين سوريين أكفاء كانوا حتى قبل إندلاع الثورة معارضين للأسد ويمتلكون خبرة الحديث بعدة لغات مع وسائل الإعلام العالمية، فكيف تعامى القائمون على الإعلام في الإئتلاف عن هؤلاء ليسلموا اهم مهمة إعلامية لوكالة ومنها لرجل حزب الله؟ هذا السؤال لم يجيب عليه الإئتلاف حتى هذه الساعة إلا بشكل يثير السخرية. للأسف!
الإئتلاف مسؤول تاريخيا عن صمته كمسؤوليته عن كلامه.
ماذا سيبقى بعد إختفاء الجهاديين والذي سيتم بشكل مفاجئ كما كان ظهورهم؟ شراذم مسلحة إنتهازية تضر يوميا هنا وهناك بالثورة ما دام لم تردعها قوى أمن وجيش يحملان إحترام الإنسان والوطن السوري بقلبهما. هذه الفوضى بين المسلحين ليست إلا بوابة مفتوحة لكل الإنتهازيين وترى أحد المناضلين الأشاوس في الجيش الحر ممن يصفق للنضال ضد داعش كان للبارحة شبيحا للنظام ثم اسس كتيبة جهادية ثم إلتحق بداعش لينقلب عليها بعد إنحسار سلطتها. ولا محاسبة!!!
على الإئتلاف ان يبدأ وبشجاعة بعد أن صمت دهرا بنقد ومحاسبة هؤلاء العسكر المعاديين للثورة بإسمها. وتسميتهم بأسمائهم. عليه مثلا محاسبة الجبهة الإسلامية على إختطاف وتعذيب مناضلات ومناضلين الحراك المدني ومحاسبتها علنا مثلا على إصدارها بيانا رسميا بخصوص “حقوق إخواننا المهاجرين وذويهم”، في إشارة إلى المقاتلين الذي وفدوا من خارج سوريا؟ بئس التسمية، من أين حصلت الجبهة الإسلامية على تفويض بتسمية هؤلاء المغامرين والقتلة بالمهاجرين وكأنهم اصحاب النبي محمد؟ هل يعني إمتلاك أي إنسان سلاحا حقه في الدوس على كل المفاهيم الوطنية وقوانين العيش؟ لا بل يستبيح هؤلاء تشويه سمعة الدين الإسلامي بتعابيرهم الفظة وأفعالهم الأكثر فظاظة. لا اريد أن اعدد كل حقارات “داعش” لسياسة الحياة اليومية من خطف وضرب ومنع للتدخين وامر بإطلاق اللحى وحجاب المرأة. كل هذا يدل على إبتذال صورتهم للعالم المعقد في عصرنا وتحجيم العلاج غلى مظاهر سطحية لاتشبع جائع ولا تحرر اسير. الأخطر من ذلك ان صورتهم هذه للمجتمع بدون الوان، فهي أسود وابيض، كل من ليس معنا كافر او خائن. وكاني اسمع ابواق الأسد وكأني أسمع جورج بوش.
لا يمكن للحساب أن يكون اليوم عسكريا ما لم يقود الإئتلاف جيشا وطنيا، لكن لا ضير، فالحساب العلني السياسي الواضح يعطي الجماهير سندا لها في وقوفها ضد الجهاديين. وهذا الحساب السياسي أمام التاريخ يبيض صفحة الإئتلاف التي تشترك في الجرم يوم تسكت عنه.
الإئتلاف وقبله المجلس الوطني تركوا المدنيين بدون توجيه ناهيك عن برنامج واقعي. ما الذي منعهم من رفض واضح وثوري لكل من يسمون أنفسهم بالمحاكم الشرعية وتجريمهم ومطالبتهم أمام القضاء مستقبلا بكل ما يقترفوه الآن من أحكام؟
هل لا نزال نخشى تطور الأمور للأسوأ بعد كل هذا السوء؟ بعد خطف وقتل افراد وضباط في الجيش الحر؟ بعد سرقة قوت الشعب في المناطق المحررة؟ وماذا بعد خطف جبان لنشطاء وناشطات شجعان عزل كالمناضلتين سميرة الخليل ورزان زيتونة واللتين أختطفتا مع الناشط وائل حمادة والشاعر ناظم حمادي (الحروف البارزة لكي يحمل كل من يقرأ هذه السطور اسماء هؤلاء البطلات والأبطال في ذاكرته كما شرفني أن أحملها) في دوما وهي المنطقة التي يشرف على كل صغيرة وكبيرة فيها زهران علوش؟ ماذا بعد سرقة مستودعات أسلحة بكاملها؟ ماذا ينتظر الإئتلاف بعد جلد سوريين بيد أجنبية وبإسم الإسلام؟ بعد خطف راهبات دير ما تقلا المسالمات (في معلولا التي هاجم الجهاديون أهاليها العزل كما هاجموا أهالي صدد المسيحيين) والأب اليسوعي البطل باولو دالوليو (في الرقة)؟
عن الإقتتال في صفوف الثورة.
الآن وقد إشتعل القتال ضد داعش سيصفق النظام له لأن هكذا إقتتال يخفف من الضغط على قواته، ولكنه لن يصفق طويلا بعد كشف شركاء داعش والنصرة، وهو الذي أخرجهم من سجن صيدنايا وسلحهم عبر قنواته السرية ليغتصبوا الثورة العارمة لكل الشعب السوري ويحولوها لقتال هنا وهناك وليقيموا في المناطق التي حررها الشعب بعد أن يسرقوها من أيدي غير خبيرة بالصراع المسلح وهم الخبيرين به من إيام عملياتهم في العراق التي قاموا بها بإشراف النظام السوري، حكما رجعيا معادي للوطن وسوريا ولحرية الإنسان ويقرف اكثر السوريين مسالمة، ناهيك عمن لا يريد حكم جهاديين. هزيمة هذا التنظيم الدخيل هي اول خطوة على الطريق الطويل لإعادة الثورة لبناتها وابنائها. كل الخيارات احلاها مر، لكن أسوأها على الإطلاق الجبن من مواجهة الواقع.
أين فشلت ثورتنا حتى الآن؟
ما فشلت كل فصائل الثورة في الوصول إليه بجناحيها العسكري والمدني وما نبه إلى ضرورته كثير من الكتاب والصحفيين المتعاطفين مع الثورة وهو اولوية اهداف الثورة في الحرية والديمقراطية وعقاب النظام الذي اجرم حسب كل قوانين الدنيا بحق شعبه. بدل ذلك إنتصر النظام هنا من تحويل أنظار العالم إلى ان الصراع في سوريا هو صراع بين إرهابيين ودولة. وهو اول من يعلم ان نظام عشيرة الأسد سحق الدولة منذ إغتصب الأسد الأب السلطة وفتت الدولة ليحل محلها سلطة العشائر. النظام إستطاع ايضا بيع بضاعته وتحويل جريمة قصف المدنيين العزل بصواريخ سكود وبراميل متفجرة وحتى بغازات سامة إلى مسألة تفكيك جزء من ترسانته الكيميائية، التي بناها أصلا بموافقة إسرائيل والغرب. هذه الهزيمة لا يمكن لأحد التنصل من تحمل مسؤولياتها سواء كان يحمل السلاح او القلم.
جبهة النظام تتمتن وتتوسع وجبهة الأصدقاء تتفكك وتضمر.
إذا لم نغلق أعيننا ودماغنا امام الواقع فعلينا وإن كان ذلك مؤلما أن نتعرف على الوضع بكل تروي. لنطرح مثلا السؤال التالي بعد مرور حوالي ثلاث سنوات على إندلاع الثورة: ما هي الوان جبهة المعارضة؟ هل لم يبق في الميدان سوى حديدان الجهادي؟ والجيش الحر؟ أصبح يكثر صلواته على النبي ويكثر كذبه على لسان متحدثه الصحفي البائس لؤي المقداد الذي ينتصر يوميا على النظام بأوهامه؟
دعونا نقارن قوس قزح الجبهتين جبهة النظام وجبهة معارضته:
بالنسبة لجبهة أصدقاء النظام فهي تضم إلى جانب كل شبيحة النظام السوريين بدءا من الشبيحة الطائفية إلى شبيحة البعث والأحزاب المهترئة في جبهة النظام من قومجيين وستالينيين فقد تصاعد عدد افراد جبهته الأجانب لتعويض خساراته الفادحة بالأرواح وهي نقطة ضعفه التي كادت تسقطه، فإلى جانب خبراء ومقاتلين إيرانيين ومقاتلين تابعين لحزب العمال الكردستاني والذين يطلقون على أنفسهم اسماء عديدة، يشارك مباشرة في القتال: حزب الله اللبناني، حركة أمل اللبنانية، الحزب القومي السوري الاجتماعي فرع لبنان، حزب التوحيد العربي بزعامة وئام وهاب، عناصر من حزب البعث اللبناني، ميليشيات علوية وحزب الله العراقي، لواء “أبو الفضل العباس”، لواء” ذو الفقار”، “جيش المهدي”، “لواء الحمد”، لواء “الحسن المجتبى”، لواء “عمار بن ياسر”، كما يشارك قتلة قوميون عرب من مختلف البلدان العربية إلى جانب “مرتزقة “شيعة” من الحوثيين في اليمن إلى جانب ميليشيات المجرم أحمد جبريل الفلسطينية والسفاح علي الكيالي واتباعه الذين يطلقون على أنفسهم إسم: الجبهة الشعبية لتحرير لواء إسكندرون.
هذا على أرض المعركة يضاف إليها قوى عالمية لها مصلحة في بقاء النظام من روسيا إلى الصين وإيران وإسرائيل ومرورا بالدول الغربية المؤثرة في الصراع الحالي كألمانيا وبريطانيا وأمريكا وفرنسا. دول العالم الثالث لا تأثير لها مباشر في الصراع كتلك التي عددتها أعلاه.
بإزدياد أسلمة صوت الثورة وإزدياد وزن عسكرها وطول مدة الصراع تراجع تأييد الثورة السورية عالميا. الدول الغربية لم تقف يوما بشرف إلى جانب الثورة السورية فهي كانت ولا تزال تعمل يدا بيد مع النظام ، واوباما أكثر رياءً من نتنياهو، والدول الغربية الأوروبية لاتهمها الثورة إلا بقدر مصلحتها ولهذا ترى موقف الدول هذه متذبذب ويصب عبر ذلك في مصلحة النظام.
ما خسرناه هو الموقف الواضح للشعوب الأوروبية وكثير من مفكريها خاصة وان إعلام الغرب في غالبيته موالي لمصلحة حكوماته، فتراه يطبل ويزمر لأسابيع على كل جريمة شنعاء ( فعلا شنعاء) يرتكبها الجهاديون ويصمت ويتعامي عن جرائم النظام ويحذفها بسرعة هائلة من أخباره فور نشره مجبرا لما وزعته وكالات الأنباء.
لم ينجح كل شركاء المعارضة للأسف في إيصال الحقائق للقراء والمشاهدين الغربيين. الأمر ليس بالبسيط كما علمتني تجربتي الأليمة وتجربة كثبر من أصدفاء المنفى في فرنسا وبريطانيا وأمريكا، لكن الأمر يصبح مستحيلا إذا ظل إعلام المعارضة يلهي نفسه بفضائح جنسية لبشار الأسد وبالتهكم على صورته وشكله وهذا سخيف لحدود مذهلة. فمن ذاك الغربي الذي يهتم بطول وقصر رقبة بشار الأسد أو أي شيء آخر فيه. وما تفسير هذا الإنحطاط الإعلامي في صفوف المعارضة حتى صارت إيميلات لونة الشبل لبشار الأسد تنشر في أولى صفحات المعارضة ؟
هذا الضعف تممه إنحسار الطيف السياسي في جبهة المعارضة وإختفاء أغلب ألوان طيفه بعد عسكرة وأسلمة الصراع التعيسة وتحولها إلى لون جهادي إسلاموي (لا علاقة له أحيانا إلا سطحيا بالإسلام) وبالتالي حَجّمَت قاعدتها الشعبية في الداخل وقاعدة الأصدقاء في الخارج. مما أدى إلى حصار خانق للحراك المدني السوري الثوري، حتى لم يعد عمل مناضلاته ومناضلية آمنا في المناطق ” المحررة” وهذا فضيحة.
مرة ثانية العسكر
وأنا ادقق نص الحلقة الثانية للمقالة أتى الخبر المفاجئ بإقالة ( طرد) رئيس الأركان سليم إدريس وتعيين العميد عبد الإله النعيمي بدلا عنه. وهو يذكرني بطرد رياض الأسعد، هكذا بين ليلة وضحاها، حتى أن الأسعد وصف ذلك بالإنقلاب. ويذكرني كل هذا بتصرف الأنظمة العربية التي كانت تسمي رئيس نظام آخر صديقا دون ان تكلف نفسها بشرح سبب هذه الصداقة للشعب السوري وبعد فترة، كانت أحيانا لا تتجاوز 24 ساعة، يصبح هذا الصديق الحميم عدوا لدودا لابد من القضاء عليه في العراق، الأردن أو المغرب لتحرير فلسطين. وهذا التصرف تجاه المواطنين السوريين يبدو وكأنه صبياني، لكنه يدل على إحتقار كبير يكنه العسكر في قرارة أنفسهم للشعب. وهو في حالة الجيش الحر مضر ومخرب للثورة أكثر من كل دعاية ودبابات وبراميل نظام الأسد. الشيء الجميل الوحيد في هذا الإنقلاب أننا لن نرى خلقة لؤي المقداد الكريهة وبياناته التي لاتقنع برغوثا. لكن من يعلم؟ الغبي رياض الأسعد كان في زمان عزه قد عين متحدثة أغبى منه تدعى لمى الأتاسي وهي خبيرة في الستراتيجية العسكرية وحاملة درجة دكتوراة بإختصاص “يا هيك مصداقية يا بلا”.
الأقليات… مفتاح المستقبل
الثورات مناسبة لتتعرف الغالبية على أقلياتها ولتعترف بحقوقها وإلا فهي ستتحول لمسخها وتنقلب عاجلا على حقوق الأغلبية وتخونها.
هذه الخاطرة كتبتها في مفكرتي بعد ان رايت صورا مخزية لداعش ومنظمات إسلاموية اخرى وهم يحطمون الصلبان ويعتلون قبة الكنائس.
الثورة قامت لتحرير كافة أطياف المجتمع السوري من الخوف. كان هناك صور مؤثرة لتعاطف كل الأقليات الدينية والإثنية مع الثورة السورية في الشهر الستة الأولى. لكن النظام نجح في اثارة الخوف بين صفوف الأقليات عبر سيطرته بالكامل على المراكز المؤثرة في هذه الأقليات والتي تعاملت معه خلال اربعين سنة بشكل إنتهازي نفعي. لكن نجاح النظام له سبب تاريخي أعمق من أحداث اليوم في وجدان وذاكرة الأقليات.
لنأخذ كمثال الأقلية المسيحية والتي قدمت عبر التاريخ برهانا ساطعا على رغبتها بالتعايش السلمي مع الغالبية المسلمة في هذا الوطن الجميل وشاركت في كل عمليات النضال التحرري والبناء الإقتصادي والثقافي السياسي للبلد.
لكن ولكي لا ينتشر ضبابا ورديا يعيقنا عن النظربدقة للأمور كما هي، لا بد لي من توضيح بعض من معاناة الأقلية المسيحية التني أنتمي إليها والتي تسهل على كل نظام وليس فقط على نظام الأسد إستغلالها ما لم تنتبه الأغلبية إلى تلك الحوادث التاريخية المؤلمة وما لم تدافع هي عن حقوق الأقليات، لا أن تنتظر حتى تحل كارثة بنا لتندب سوء حظها ولتشتم المتآمرين.
الإنتماء لأقلية لا يعني في البلاد العربية أنتماء لإعتقاد ديني فقط، إنما لجماعة تختلف ثقافيا عن الغالبية المسلمة لأن تراكمات ثقافية وتراثية في ذاكرة هذه الأقلية تصيغ شخصيتنا سواء كنا مؤمنين أم علمانيين. وهي تؤثر يوميا على سلوك وحياة هذه الأقلية في عبادتها، صومها، حزنها، فرحها، علاقة المرأة بالرجل، تربية الأطفال. كل هذا وأكثر يجعلها تختلف في مواجهة الحياة عن جيرانها من الغالبية المسلمة. هذا الإختلاف جميل ومثمر وينتج قوسا قزحيا لمجتمع تعددي.
والمسيحي يعيش منذ قرون كأقلية بحقوق مدنية وإنسانية محددة بسقف دون سقف حقوق غالبية الشعب المسلم. ولا أريد أن اذهب إلى تفصيل اسباب ذلك فهذا تعرضت للعديد منها في مقالات سابقة وهناك أبحاث قام بها مؤرخون وفلاسفة وعلماء إجتماع ونفس بقدر كاف. ما يهمني هو تذكير الغالبية المسلمة أنها تتعامى لقرون عن كون المسيحي يعيش في مجتمعها كمواطن درجة ثانية وقد ذكرت ذلك في عدة مقالات في “صفحات سورية” ليس للتشهير بل لكي نعي ما علينا أن نحرر أنفسنا منه. وانا اصر على أن تحرر المسيحي من كل ضيم حقوقي، سياسي أو إنساني هو تحرر لجاره المواطن المسلم.
في هذه الذاكرة جوانب مضيئة كثيرة لكن، ولطبيعة البشر، تتأجج الذاكرة بجوادث أليمة ، بموجات من الغضب اطلقها بعض الخلفاء عن كره عميق غير مبرر إجتماعيا بل نفسيا عند الخليفة نفسه ( كمرضه النفسي بكرهه أمه المسيحية مثلا) ولتحويل إخوة وجيرة لهم بجرة قلم لكفار. رغم أن القرآن، الكتاب المقدس للمسلمين، يفرض على اتباعه حماية المسيحيين واليهود. والنبي محمد كان اول المدافعين عن الأقليات الدينية. مصيبة المسيحيين العرب هي أن دين الدول التي قارعت الإمبراطورية العربية كان على الأغلب مسيحي وبما ان الإنتماء آنذاك لم يعرف بعد معنى تعابير “وطنية، مواطنة، قومية، ثقافة مشتركة”…إلخ فقد كانت العدائية لمسيحيين شبه بديهية. هنا نرى ان اليهود كانوا حتى عام النكبة 1948 أكثر حظا لأنه لم يحصل حتى ذاك التاريخ ان هاجمت دولة يهودية السيادة العربية، لكن المثير للدهشة هو ان الشعوب العربية المسلمة كانت محبة رحيمة صديقة ومضيافة تجاه المسيحيين في أظلم لحظات تاريخها وهي الحروب الصليبية التي دامت أكثر من قرنين والتي حمل القتلة الأوروبيين فيها الصليب كعلم لهم. رغم ذلك أبدى العرب رقيا لا مثيل له (اقولها ليس شاعريا بل بعد تدقيق تاريخي) في كل بلاد العالم وحموا الأقلية المسيحية من أي أذى. ليتصور قرائي تلك النفس الكبيرة التي تقول لجارها المسيحي “أنت اخي” ومدينته محاصرة بالصلبان!!!
وبنفس الدهشة ترى تعسفا لا مبرر له ايام عز وصعود الدولة العربية وإنتصارات إمبراطوريتها كما حصل تحت سلطة عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وهما من أشرف الخلفاء خلقا. لا اريد هنا تكرار ذكر كل ضيم لحق بالمسيحيين عبر العصر العباسي ومرورا بالفاطميين والعثمانيين، بل أريد أن انبه أبناء وبنات الأغلبية المسلمة ان محو هذه المآسي من ذاكرتهم لا يعني حذفها من التاريخ ولا من ذاكرة ضحايا هذه المآسي ومنها مثلا لا حصرا مذابح 1860 والتي تمت بإجرام بارد وسببت مقتل آلاف المسيحيين الدمشقيين الأبرياء (العدد لا يمكن تحديده بدقة ويقال أنه يتراوح بين 5.000 و10.000 قتيل في دمشق وحدها). نتج هذه المذابح نوع من الخوف الدائم لما هو قادم لا يعرفه أبناء وبنات الأغلبية المسلمة إلا في وقت الحروب والثورات.
اريد التأكيد، قبل أن يفهمني أحد القراء خطأً، أنه ليس هناك مجتمع في العالم محصن ضد العنصرية والفاشية الدينية أو العرقية. فالمجتمع الألماني الذي قدم للعالم خيرة الشعراء والفلاسفة والموسيقيين والمخترعين والعلماء هو نفسه الذي خرج من رحمه رعاع نازيون القوا بالمجتمع إلى أحقر قاع للبربرية بمحرقتهم التي ذهب ضحيتها ملايين اليهود الأبرياء وشنوا حربا عشواء هدمت أوروبا وقتلت في الإتحاد السوفييتي وحده عشرين مليون إنسان بريء. هذا المجتمع نفسه الذي يحاول فيه جاري الألماني الأهبل أن يحول قطته إلى قطة نباتية رحمة بالفئران. وهو نفسه الذي يمنع إرسال نقود عن طريق البنوك لذوينا ( لمقاطعة سوريا) ويسمح بتصدير مفاعلات ومواد الغازات السامة للنظام…
الغالبية في كل بلدان العالم بليدة الحس تجاه مصاعب ومصائب الأقليات، وقلة من أفرادها يمتلكون الحساسية والشجاعة اللازمة للوقوف إلى جانبنا. والشجاعة هذه ليست وقفا على اي إتجاه او حزب سياسي، فكم من علماني غبي ظن إن إحتقاره للدين ( وهذا حقه) يسمح له بالتعالي على الأقليات الدينية تاهما إياها بجبن ما بعده بالرجعية وكم من محافظ أو ليبرالي وقف موقفا بطوليا مع المسيحيين!
لذلك أكرر هنا. سأظل أدافع عن المسيحيين مادام هناك إسلاموي واحد يكفرهم
ما نلاحظه عبر التاريخ عبرة لمن يعتبر: كلما كان العرب يتقدمون حضاريا كلما فقدوا إهتمامهم بالتفريق بين الطوائف، وكلما إرتدوا وإنهزموا كلما تسارعوا كباقية الشعوب في التفتيش عن كبش الفداء. هذا لا يدهشني بقدر إنفلات الحقد ضد المسيحيين في أيام صعود حضارة المجتمع العربي وإنتصاراته كما لمحت أعلاه.
يؤدي خوف المسيحيين إلى عدة ظواهرسلوكية للدفاع عن النفس بعضها مؤذي لهم وللغالبية، أول تلك الظواهر إزدياد التعصب للطائفة الدينية (هذا ليس طائفي بعد لكن يمكنه أن يصبح ذلك) التي تعطي أفرادها، كالقبيلة في العرف الإثني، حماية فيتكلم بإسم الجماعة الدينية التي يخصها وتخصه ويشعر بأمان وقوة، ويفقد شخصيته الخاصة المميزة له عن باقي المسيحيين… وأذكر أن احد الأصدقاء الشيوعيين الفقراء قال لي في مجرى حديثه: “هذا من جماعتنا”، فعجبت لأني أعرف الرجل المقصود وهو ثري ليبرالي ومحافظ، سألته: ” كيف من جماعتك؟” فقال وهو منبسط الأسارير: “يا عمي، هذا مسيحي مثلنا”.
الظاهرة الثانية، التي تبدو وكأنها النقيض المباشر للأولى لكنها متممتها، هي محاولة المسيحيين اليائسة الذوبان في مجتمعاتهم وتفتيشهم الدائم عن قاسم مشترك أعظم (كما يسمى بالرياضيات) مع الغالبية المسلمة وذلك بالإنخراط (واحيانا بتأسيس) أحزاب تموه وتترفع (دون أن تستطيع إزالة) الفروق الناجمة عن إختلاف الإنتماء الديني كالأحزاب القومية والإشتراكية والشيوعية حيث تجد نسبة عالية من المسيحيين في تلك الأحزاب السورية. لا بل تصل نزعة الذوبان إلى حدود ان رئيس وزراء مسيحي (فارس خوري العظيم) يدافع عن إدخال مادة في الدستور السوري تنص أن الإسلام هو دين رئيس الدولة!!! بينما يتظاهر ليبراليون من كافة الأديان في الشارع ضد هذا التضييق لشكل الدولة ونفي مكونات المجتمع الثانية، وقد بالغ الرجل الكبير وأخطأ أخطاء كبيرة في تضخيم الإسلام السياسي وتصويره بصور رومانطيقية لا علاقة لها بالواقع، حتى صار الإخوان المسلمين يفتخرون به.
في وقت الأزمات ونتيجة فشل الإيدلوجيات القومجية والستالينية في إعطاء الأمان لهذه الأقلية إنكفئت الأقلية المسيحية على نفسها، وهذا التقوقع، برأيي، هو ردة فعل طبيعية لكل أقلية، وكان لهذا التقوقع أن ينفرج لو لم يسقط المسيحيون ضحية بين مطرقة الجهاديين وسنديان السلطة، فإزدياد وزن الجهاديين وتكفيرهم للمسيحيين والعلويين والدروز له تراث مظلم منذ إبن تيمية ( القرن 13الثالث عشر) وأسلمة الصراع من جهة وخيانة القائمين على رأس الكنيسة لأبسط مبادئ المسيحية في الوقوف إلى جانب المظلومين (وقيادة الكنيسة لم تقم بذلك منذ أصبحت المسيحية دين رسمي في القرن الرابع). من جهة أخرى أدى إلى ضبابية في وعي المسيحيين. وقد دهشت اثناء حديثي مع مثقفين مسيحيين إلى سقوط الوعي الوطني وحتى الديني إلى درجة منحطة ظهر فيها الأسد وكأنه إخترع الدين المسيحي وكأن سقوطه سيمحي المسيحية ليس فقط في سوريا بل في العالم…وهذا لا يتعدى مقولة السلطة : ” الأسد أو نخرب البلد”. وبرأيي لا يختلف الأمر كثيرا عن هذا الوضع في الطائفة الدرزية او العلوية أو بين الأكراد الذي غرر بهم حزب الإتحاد الديمقراطي، وليد حزب العمال الكردي. وأصبح جزءا من المشكلة بدل أن يكون جزءا من حلها.
أريد أن أذكر: نعم النظام يستغل الأقليات لكنه كربيبه نظام صدام حسين عرف رغم غباء النظامين أكثر من المعارضة في التوجه للمسيحيين وكسبهم. فإلى أي حد وصل غباء المعارضة التي تفرجت ببلادة على أسلمة الصراع، لا بل صار بعض أفرادها ممن يحملون أسماء مسيحية يطمئننا بغباء لا مثيل له ان جبهة النصرة ممتازة ومتحضرة وانهم إستقبلوه وكأن إستقباله دواء سحري لخوف الملايين التي عاشت وتعيش منذ سنوات تهجير بربري لمسيحيي العراق.
قصة معبرة هزت وجداني
قبل حوالي ثلاث سنوات قرأت للمفكر الكبير الشجاع سيد القمني مداخلة في الحوار المتمدن العدد 3300 بعنوان مرير:
هدم الكنائس وإضطهاد المسيحيين
أمر قانوني مُلزِم حسب المادة الثانية بالدستور
وفيها هذه القصة: “في الأحداث الأخيرة بقرية إطفيح مركز صول بشرقي النيل، حدثت حالة حب بين شاب مسيحي و شابة مسلمة، و هو شأن طبيعي فالحب لا يعرف الأديان و العناصر، فهو حالة وجدانية خاصة بين طرفين بالتراضي بينهما، لكنه في بلادنا يكون كارثة كونية تقوم بسببها الحروب و تٌحرًق البلاد، فليس لدى المسلم مانعا من ركوب مسلم لمسيحية بحسبانها سبية، ولأن الإسلام هو الدين الأعلى، يعلو و لا يُعلى عليه، فهو يركب ولا يُركب، و هي ثقافة الفاتح الغازي الذي يستولي على بلاد بكاملها بما عليها، و يحول أهلها إما أتباعا له يعتنقون عقيدته و لا يرتقوا بذلك لمستواه إنما يظلوا موالي، أي درجة من العبودية بين الأحرار وبين العبودية الكاملة، وإما عبيدا بالمعنى الكامل في حال بقائهم على دينهم و ثقافتهم المحلية الوطنية، و تكون أموالهم و أعراضهم عُرضة طوال الوقت للاغتصاب بالحكم الشرعي.
و لعل شر أنواع الاستعمار طرا هو الاحتلال الاستيطاني الذي يُوًطن الغزاة سادة ويجعل المواطنين الأُصلاء عبيدا ويمحو ثقافة هذا الوطن بالتمام و يقضي على لٌغًته الوعاء الثقافي الحامل لتاريخه، و يستبدله بثقافة المستعمر لتُصبح ثقافة للوطن، ليُصبح الاستعمار ليس فقط للأرض أو الناس إنما يصل إلى الروح، وما أبشع الاستعمار الروحي للشعوب بين كل أنواع الاستعمار.
و في أحداث إطفيح جلس العقلاء من قسوس و كبار القرية لحل المشكلة، وانتهت بتطبيق قانون الإذلال للأقلية، بنفي الشاب و أسرته من القرية وإعلان بيع بيتهم لمن يُريد، لكن المتشددين من أهل القرية رأوا أن ذلك أمر لم يرد بالشريعة الإسلامية، فقاموا بقتل وتصفية عناصر الجريمة بما فيهم أب الفتاة الذي وافق على هذا الاتفاق الغير شرعي، و قاموا بتطبيق الشرع بهدم الكنيسة و مطاردة ستة اّلاف أسرة مسيحية ونهب بيوتهم و إخراجهم من القرية بعد الاعتداء الوحشي عليهم.
ورغم ما يعلمه المصريون عن أن هذا الشق من الوطن شرقي النيل يتعيش معظمه على تجارة المُخدرات تهريبا و توزيعا، فمن الغريب أن يقوم هؤلاء بتطبيق الشريعة الإسلامية على المسيحيين من مواطنيهم، ربما لأن المخدرات لا يوجد بشأنها تجريم في الشريعة كتحريم الخمر و الخنزير، وهي بذلك ليست مطعنا في صدق الإيمان، وللحق فإن هدم الكنيسة حسب الشريعة هو أمر سليم مئة بالمئة حسب الوثيقة العُمَرية الشهيرة، بهدم ما يُستحدًث من كنائس وعدم تجديد القديم منها حتى يتهاوى ويزول مع الأيام ، لكن أهل إطفيح المسلمين الخلصاء رأوا أن يُقدموا للشريعة فضلا زائدا بعمل لم تُقٍره الشريعة وهو إخلاء القرية من المسيحيين، لأن هذا الأمر خاص فقط بجزيرة العرب ولا يسري على الأقطار المفتوحة، و بذلك أصبح تُجار المُخدرات يُشرعون للإسلام المزيد من الفضائل، كالذين شرعوا النقاب كفضل زائد زايدوا به على الحجاب.”
عندما أقرأ في صحفنا هكذا خبر أسأل نفسي. هل يقوم البقر بمثل هذا التصرف الهمجي؟
حول خطر ضياع بوصلة الثورة
ليست المحاكم الشرعية سوى دليل على فقدان الثورة لبوصلتها، لكن وللمؤسف ليست المحاكم الشرعية سوى ظاهرة طفت على السطح نتيجة أحكامها الغريبة العجيبة. هناك ضياع للبوصلة أعمق وأخطر في أنفسنا تتهاوى عبره آخر قلاع العقل، فيحتل التافه مركزا للإهتمام وينبذ الهام من دائرة نظرنا. وكمثال بسيط: أن يصبح مثلا مكان الإقامة دليل على الوطنية. أنا لا أسخر، إنه الواقع الأليم وترى كتابا ومثقفين أذكياء يسقطون في حبائل هذا الضياع وكأن الوجود بالوطن أصبح وثيقة حُسن سلوك. وصار المنفى تهمة بحد ذاتها. الا نسمع عبر هكذا صياغة صوت النظام؟
ومن ظواهر ضياع البوصلة أن يصبح عسكري إنشق البارحة أهم من المثقف الذي أمضى عمره في السجون أو المنفى لدفاعه عن كرامة هذا الشعب.
وددت أن أكتب قائمة بكل الظواهر المرضية لضياع البوصلة وبما أعتقده ضروري لتمييز اصدقاء الثورة وتوضيح الفرق بينهم وبين أعداء الثورة واردت أن ابين أن بعض مواقف المؤيدين للثورة تصب في خانة أعداء الثورة… لكنني تذكرت مقالا فريدا هاما وذكيا، كتبه حازم نهار، قرأته العام الماضي شخص فيه عبر 50 نقطة وبشكل دقيق ومركز أهم الظواهر المرضية في صفوف الثورة وأنفس من يقف معها. وأنا انصح كل قرائي أن يقرأوا هذا المقال الهام ويوزعوه على أصدقائهم، فهو لا يزال بنضارته.
http://www.zamanalwsl.net/readNews.php?id=40162
– يتبع –
رفيق شامي
شباط، فبراير 2014
خاص – صفحات سورية –
أي نشر أو اعادة نشر لهذا المقال يجب الاشارة فيه إلى المصدر: صفحات سورية
كل الحقوق محفوظ للكاتب ولصفحات سورية.
يحيي كاتب هذه الأسطر أي نسخ وإعادة طباعة هذه الخواطر في أية صحيفة، طبعا بأمانة مهنية مع الإشارة إلى المصدر، لكنه لا يعترف على اية منها إنما على الأصل الذي ينشر دوما في صفحات سورية