مراجعات كتب

“فصول من تجربتي” للمفكر كريم مروة: هذه هي قراءتي لليسار الجديد

 

 

يقظان التقي

فصول من تجربتي» كتاب للمفكر كريم مروّة في الفكر وفي السياسة صدر (عن منشورات «الدار العربية للعلوم»)، في منحى استحضار فصول من تجربة حزبية وفكرية مكملة لكتابه «اعترافات نهاية قرن».

وإذا كانت الاعترافات تختزن ذاكرة من أحداث ومشاعر وأفكار وتجارب ومراجعات نقدية، الكتاب الجديد يفكك المسار إلى فصول ويتبع أزمنة تكرس تجربة مروة ورفاقه من جيل الخيال والأحلام في زمن الأزمات وبتلك الإبداعية السياسية والنضالية التي ازدهرت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي على المستويات كافة السياسية والحزبية والادبية والاجتماعية.

كريم مروة ما بعد الخامسة والثمانين من العمر، كما قبلها من التماع يتابع ما قرأه وكتبه وعما قاله في سيرة لها وزنها في تجربة الحزب الشيوعي اللبناني في نقد الأخطاء، من تجربة الحركة الشيوعية العالمية أيضاً في ايجابياتها وفي سلبياتها، في تجربة اليسار الجديد ككل، إلى القراءة من مسارات الثورات العربية وفي ملامسة وعي أفكار جديدة على المستوى الفردي والجماعي الذي يتكون منه الاجتماع الإنساني الحديث.

يبقى أن كريم مروة شخصية جدلية/ تشابكية مع الأفكار. لكنه شخصية حاضرة بقوة في المشهد السياسي والحزبي وفي غنى التجربة وعلاقاتها مع التيارات والاتجاهات الفكرية التي سادت القرن الماضي.

والأسئلة الافتراضية الكبيرة التي يحاول مروة أن يجيب عليها كانت في المرحلة السابقة ولكن تصلح للحاضر والمستقبل إذا ما توافرت لها عناصر البناء على تجربة ليست سهلة وتجديدها، وتجديد اليسار لبنانياً وعربياً وتصحيح مسار الأزمات التي كسرت كل التابوات السابقة ومنها قيم الاشتراكية والديموقراطية.

وهي قراءة أخرى في أوراق كريم مروة من موقع الانتماء الوطني والمسؤولية المشتركة في مواجهة صعوبات الحاضر وآفاق المستقبل والاستفادة من غنى تجربة كانت جوهرية في سياق المسار الخاص للشخصية والمسار العام للأحداث لجهة الملاحظات الخاصة التي تكتسب أهميتها في المراجعة النقدية لمرحلة مهمة من تاريخ لبنان والعرب والعالم.

يحتوي الكتاب على 14 فصلاً: «لبنان الغد والجمهورية الثالثة واليسار اللبناني»، «استحضار التاريخ الماضي من أجل تجاوزه»، «المقاومة الوطنية اللبنانية»، «موضوعات فكرية وسياسية وتنظيمية»، «الندوة اللبنانية العربية العالمية»، «النظام الاشتراكي العالمي»، «المؤتمر السادس للحزب الشيوعي اللبناني»، «الشيوعية والإسلام»، «محاولات في تجديد المشروع الاشتراكي»، «رسالة إلى فاروق دحروج»، «جردة حساب فكرية»، «الحزب الشيوعي اللبناني في قلب الأزمة»، «قراءة في الجذور السياسية والاجتماعية والأيديولوجية للحركات السلفية»، «من الطريق الصعب إلى مستقبل مختلف».

صفحات تراكم سجل الاعترافات وتستدل ملاحظات وإضافات تجذّر أكثر التجربة وتفتح بالضرورة على نقاشات انطلاقاً من التجربة السابقة والمراجعة النقدية لها.

هنا فصل من كتاب كريم مروة «فصول من تجربتي»، بعنوان «هذه هي قراءتي لليسار الجديد»:

تحدثت في القسم الأول من هذا الفصل عن لبنان الغد الذي نريد، كما أتصوره فيما يشبه الحلم الرومانسي. وأنا، برغم تقدمي في العمر، لم أغادر الحلم بذلك الغد الجميل الذي أتمناه لوطني الخالد لبنان. إلا أنني اعتدت دائماً أن أرفق اليوتوبيا بالواقع وأخضعها له. وفي هذا الربط عندي بين اليوتوبيا والواقع أعتبر نفسي أكثر قرباً من ماركس ومن جوهر فكره اليوتوبي الشيوعي ومن جوهره الواقعي المرتبط بالزمان والمكان. أليس هو القائل في رسالته إلى الحزب الاشتراكي الألماني (نقد برنامج غوتا) بأن دزينة برامج يوتوبية لا تحقق تقدماً، وأن البرنامج الوحيد القابل للتحقيق هو الذي يجب أن يكون برنامج الحزب الاشتراكي في أي بلد!

يقودني هذا المدخل في الحديث عن اليسار الجديد الذي نحن بحاجة إليه في وطننا لبنان إلى الدخول فوراً فيما أنا معني به في هذا القسم الذي أستكمل به القسم الأول من هذا الفصل. وأبدأ في قراءتي لليسار الجديد بوضع فاصل ضروري بين ذلك اللبنان الذي قدمت قراءتي له وبين لبنان الذي نعيش في شروطه وظروفه الصعبة. فمن هذا الواقع بالتحديد سأحاول أن أقدم تصوري لليسار الذي نحن بحاجة إليه اليوم في لبنان. لكنني سأكون وفياً للتاريخ ولمنطق حركته التي هي في تواصل دائم بين الماضي والحاضر والمستقبل. ويقتضيني هذا الوفاء للتاريخ، وأنا أحاول تحديد تصوري لهذا اليسار الجديد، أن ألتفت إلى الوراء قليلاً من أجل أن أستعيد المجيد من تاريخ يسارنا اللبناني منذ التأسيس وعبر المراحل المختلفة، ليس لتكراره، فالتكرار في أحداث التاريخ هو جمود واضطراب وتخلّف ومهزلة ومأساة! بل إن هذه النظرة إلى الماضي إنما ترمي للإفادة من المجيد فيه ومن الدروس التي يقدمها لنا، وتجاوزه وفق الشروط الجديدة التي تقترن بالزمن الجديد وتعبّر عن العناصر الجديدة فيه. وإذ أعود إلى تاريخ يسارنا القديم وإلى المجيد فيه فلأنني أعرفه. فأنا واحد من أبنائه ومن الجيل الثاني فيه وفي قيادته. وأعني هنا بالتحديد الحزب الشيوعي اللبناني صاحب التاريخ العريق بالنضالات على جميع الجبهات السياسية والاجتماعية وفي مقاومة الغزاة والطامعين بأرضنا. وما أكثر ما قدمه الحزب في تلك المعارك من بطولات ومن تضحيات ومن شهداء. وما أكثر ما اقترن بتلك المعارك من إنجازات كان من أهمها في منتصف الأربعينات إقرار أول قانون للعمل في تاريخ البلاد. لكن تاريخ حزبنا، أسوة بكل تاريخ، بما في ذلك أهم التواريخ، كان حافلاً بالأخطاء، إلى جانب الإنجازات التي ارتبطت باسمه، ودفع ثمناً باهظاً لتلك الأخطاء.

من هنا إذن، من هذا التاريخ العريق بالأمجاد فيه وبالأخطاء، سأنطلق من تحديد تصوري لليسار الذي نحن بحاجة إليه في هذا الزمن المعاصر بالذات وفي هذا الواقع الذي نعيش فيه بالتحديد. فاليسار، كما أفهمه اليوم وكما حاولت أن أفهمه بالتدريج منذ ثلاثة عقود من تجربتي، لا يمكن أن يكون فاعلاً في المجتمع إلا إذا كان أميناً ودقيقاً في قراءته لواقع مجتمعه وساعياً لأن يكون قادراً في الآن ذاته على الإسهام في تغيير هذا الواقع في اتجاه الأفضل والأرقى والأكثر حرية وتقدماً وعدالة اجتماعية.

[ المناضل اليساري

لنبدأ إذن من الأول. وأول ما ينبغي أن يتسلح به المناضل اليساري في هذا العصر وفي هذا الزمن اللبناني الذي نحن فيه هو الفكر. لكن لامتلاك الفكر شروطاً لا بد من احترامها. وأول هذه الشروط التعامل مع الفكر، كل فكر، على أنه ابن تاريخه وزمانه ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بشروطهما. فإذا كنت أعتبر أن على اليساري أن ينطلق من أفكار ماركس ومن مشروعه العظيم لتغيير العالم باسم الاشتراكية، فإنني أرى أن على هذا اليساري أن يقرأ بدقة التغيرات التي أحدثتها حركة التاريخ في أفكار ماركس، مثلما فعلت بكل فكر في التاريخ القديم والحديث. ويشير الواقع التاريخي الذي نحن فيه إلى أن الكثير من أفكار ماركس لم يعد صالحاً للعصر. لكن جوهر فكره ما زال مقيماً في صيغة تلائم العصر والتحولات والتغيرات التي جرت فيه. ويعبّر عن هذا الجوهر في فكر ماركس موقفه الحاسم والقاطع بضرورة إزالة استغلال الإنسان للإنسان وتحقيق العدالة الاجتماعية مقرونة بالتقدم في مجالاته كافة. لكن ماركس ذاته كان يعتبر أن القضاء على استغلال الإنسان للإنسان باسم الاشتراكية مشروط بالتقدم الذي رأى أن الرأسمالية هي التي تصنعه. وكان حريصاً على احترام المراحل التاريخية في التطور، لذلك دعا الاشتراكيين إلى أن يحترموا هذه المرحلية وألاّ يغامروا بأفكار التغيير التي يحملونها بالقفز فوق المراحل وشروطها التاريخية. وكتب مع أنجلز في مقدمة الطبعة الثانية للبيان الشيوعي بأنهما لو كانا كتباه في تلك اللحظة التاريخية، أي بعد عشرة أعوام فقط، لكانا كتباه في شكل مختلف. لكن أهم ما في أفكار ماركس إنما يتمثل في اعتباره أن الإنسان هو القيمة الأصلية في الوجود. ويقدّم ماركس في كتبه وفي كتاباته وفي رسائله مع صديق عمره وفكره أنجلز ومع العديد من اشتراكيي زمانه الكثير من الملاحظات التي يؤكد فيها حرصه الدائم على احترام الشروط التاريخية، واحترام ما تقدمه المعارف والاكتشافات العلمية من جديد، وتجنب تقديس الأفكار وتحويلها إلى عقائد جامدة. فالأفكار عنده هي بنت زمانها، وهي في وظيفتها العملية مرشد للعمل في الشروط التاريخية المحددة.

إلا أنني، استناداً إلى ما تقدم من إشارات عابرة ومبسترة لبعض أفكار ماركس الأساسية، أرى أننا لسنا ملزمين اليوم في بلدنا لبنان، حتى لا أعمم وفي ضوء ما جرى للمشروع الاشتراكي على يد من أوكلت إليهم مهمة وضع هذا المشروع في التجربة في روسيا وفي أوروبا الشرقية وفي أماكن أخرى من العالم، لسنا ملزمين بأن نكرر التجربة ونقلّد من سبقونا إليها. أليست الأفكار والتجارب بنات تواريخها! لذلك فإنني لم أعد أرى أي ضرورة لاستخدام كلمة شيوعي تحديداً، وحتى كلمة اشتراكي، واستبدالهما بكلمة يساري لأنها أكثر تطابقاً مع مجريات الاحداث، مع الاحتفاظ بجوهر فكر ماركس الذي أشرت إليه من قِيَم ومُثُل وحقوق أساسية للإنسان القيمة الأصل في الوجود، الذي من أجل حريته وكرامته وحقوقه، صدقاً ونفاقاً، قامت ثورات وحروب. وأكرر بأن هذا الاستبدال يجب أن يقترن على الدوام بالاعتزاز بما تم انجازه في التاريخ السابق من التجربة في الاتحاد السوفياتي وفي البلدان الاشتراكية الأخرى، وما تم انجازه في حزبنا الشيوعي اللبناني بالذات الذي كان يحمل في البدايات اسم «حزب الشعب»، وارمي من ذلك الى هدفين أساسيين يتصلان بالحاضر وبصعوباته في بلدنا، وبالواقع الذي خلقه انهيار التجربة التي حملت اسم الاشتراكية والشيوعية. الهدف الأول من اعتماد اسم اليسار بدلا من الشيوعية والاشتراكية هو احترام الضرورة التي تقضي بتجاوز الماضي والدخول منه الى الحاضر والمستقبل الجديد المختلف. والاساس في هذا التجاوز يتمثل تحديداً بما كان قد سقط في التجربة الاشتراكية باسم الأحزاب التي حملت اسم الشيوعية من مواقع السلطة في البلدان الاشتراكية ومن مواقع المعارضة في البلدان الرأسمالية وفي بلداننا العربية ومنها بلدنا لبنان بالذات. فسقوط التجربة أحدث اضطراباً في فهم ما ساد على امتداد ثلاثة ارباع القرن من امل في تغيير العالم كما حلم به وبشر كارل ماركس وكبار الماركسيين القدامى والحديثين، وجعل استخدام كلمة شيوعي تحديداً خارج شروط الزمن الذي نحن فيه. من هنا جاء اقتراحي بأن نمارس في بلدنا لبنان بديلا من شيوعي واشتراكي اسم اليسار، لأن كلمة يسار تحتفظ بالمعنى الذي يشير اليه المجيد من تاريخنا الاشتراكي والشيوعي. وهو يتجاوزه نحو الجديد الذي نريد تحقيقه باسم هذا اليسار بالذات. واذكر في هذا السياق انني كنت اتلقى نصائح من القائد الشهيد فرج الله الحلو عندما كنت امارس مهمتي في هيئتي تحرير جريدتي الحزب «النور» في دمشق و»النداء» في بيروت تحت اشرافه، نصائح بأن أتجاوز في كتاباتي الكلمات والعبارات التي تضيع الهدف المنشود من الكتابة، وأن أتخلى عن استخدام الشعارات الكبرى باسم الشيوعية التي تدغدغ المشاعر والتي لا تتوفر الشروط لتحقيقها. واضاف بأن استخدام مثل تلك الشعارات هو نوع من الشعبوية التي تتنافى مع فكر ماركس ومع مشروعه لتغيير العالم. واذكر انني قرأت التقرير الذي قدمه الشهيد فرج الله ذاته في عام 1937 امام اللجنة المركزية للحزب حول المهمات الحزبية في ذلك الظرف التاريخي لم ترد فيه كلمة واحدة تحمل صفة شيوعية أو اشتراكية.

كل ذلك كان البداية في الحديث عن اليسار الذي نحن بحاجة اليه في لبنان اليوم. أما الآن فقد جاء دور الحديث عن القاعدة الاجتماعية التي تشكل الاساس في بنية هذا اليسار الجديد، وعن الصيغة التي يمارس هذا اليسار باسمها نضاله من أجل التغيير الديموقراطي. فممن تتشكل هذه القاعدة الاجتماعية وما هي هذه الصيغة التي سيناضل باسمها؟

[ الطبقة العادلة

أسارع الى القول في جوابي عن السؤال الأول بأن القاعدة الاجتماعية انما تختلف اليوم عما كانت عليه القاعدة التي كانت للأحزاب الشيوعية في بلدنا على الأقل، حتى لا أتورط في التعميم. جوهر الاختلاف يتمثل بأن قاعدة هذا اليسار لم تعد الطبقة العاملة لوحدها حصراً، كما كانت عليه في زمن الشيوعية. فقد صار للطبقة العاملة بتشكيلاتها ومواقعها المختلفة في الانتاج وعلى هامشه شركاء كبار في الدور الذي كانت تضطلع به لوحدها بقرار أممي قديم استناداً الى افكار ماركس القديمة. فقد أدت التحولات التي شهدها العالم في ظل العولمة الرأسمالية، وحتى قبل ان تتكون في صيغتها الراهنة، في أعقاب انهيار النظام الاشتراكي العالمي، أدت الى ولادة فئات اجتماعية جديدة مما نصطلح على تسميتها بالطبقة الوسطى أو ما بقي منها، فضلا عن جمهور كبير من الأجراء ومن المهمشين. الأمر الذي جعل جيش المعنيين بالتغيير الديموقراطي اكبر مما كان عليه الأمر في الزمن الماضي. تضاف الى هذا الجيش من القوى الاجتماعية فئات ممن بقي من صغار ومتوسطي العاملين في الاقتصاد الوطني في بلدنا من صناعيين ومنتجين باتوا يشكون من توسع دائرة الرأسمال المعولم وشركائه المحليين في مجالات العمل في البلاد في شتى ميادينه. كما يضاف الى هذا الجيش جمهور المثقفين والمعلمين والشباب والطلاب والمرأة التي اتسعت قاعدة المطالبين بحقوقها في المجتمع. وهكذا تصبح القاعدة الاجتماعية لليسار في هذه اللحظة التاريخية بالتحديد هي قاعدة اليسار راهنا بانتظار نشوء ظروف جديدة مختلفة، فتختلف عندئذ القاعدة الجديدة عن القاعدة القديمة.

هذه هي إذن القاعدة الاجتماعية لليسار الجديد في بلدنا بالتحديد كما افهمها في قراءتي لليسار. فما هي الصيغة التي يفترض ان يناضل اليسار الجديد باسمها كأداة في النضال لتحقيق المهمات التي تحددها له الظروف الراهنة في البلاد؟

سيكون من الصعب تحديد هذه الصيغة الجديدة. لكنها بالقطع لن تكون هي ذاتها الصيغة التي اتخذت شكل أحزاب شيوعية من النوع الذي كانت قد رسمته الأممية الشيوعية لدى تأسيسها بقيادة لينين في عام 1919. وهي صيغة لم تعد صالحة للزمن الذي نحن فيه، ليس عندنا في لبنان وحسب، بل في العالم من دون استثناء. ذلك ان الأساس الجديد للتعاقد بين المنتمين الى اليسار في صيغته الجديدة التي ستولد في التجربة والخطأ هو ما جاء في افكار ماركس من ان الانسان الفرد هو اساس البنية الاجتماعية، وحريته وشخصيته هما الاساس في اية صيغة جامعة لهؤلاء الافراد الأحرار في النضال من اجل الأهداف المباشرة والأهداف البعيدة المدى. لذلك فان على هذه الصيغة ان تتحرر مما ساد من هرمية في الانتظام الحزبي على امتداد قرن ونيف من الزمن، والنضال من أجل اهداف ومهمات محددة باسم اليسار انما يتطلب بالضرورة صيغة جامعة تتعدد النماذج والاشكال فيها، ويبقى رابط أساسي يوحدها، يعود تحديده الى القوى التي ستتخذ صفة واسم القيادة الكفوءة والمختارة ديموقراطياً، والمتغيرة بصورة متواصلة. هل نسمي تلك الصفة الجديدة الجامعة لليسار الجديد احزاباً أم حركات أم تيارات؟ لا أغامر في تقديم أي رأي في هذا الأمر! والتاريخ والتجربة الحية فيه ستولد تلك الصيغة الملائمة لما اشرت اليه من سمات ومهمات لليسار الجديد.

هذا هو ما استطيع تقديمه نظرياً في ضوء التجربة القديمة وفي ضوء الوضع الجديد والحاجات الجديدة التي تفرضها مهمات النضال باسم اليسار في الزمن الذي نحن فيه وفي وقائعه.

لكن كل ما تقدم سيبقى كلاماً عاماً إذا هو لم يقترن بتحديد البرنامج والمهمات التي يتضمنها هذا البرنامج لليسار الجديد. فما هو هذا البرنامج وما هي المهمات المباشرة والبعيدة المدى التي يتشكل منها، وما هي الوسائل المفترضة للنضال من اجل تحقيقه بواقعية، موضوعياً وذاتياً؟

ان تحديد هذا البرنامج وتحديد المهمات فيه انما ينطلقان ويتحددان من الواقع القائم في البلاد. وتحدد هذا الواقع اربعة أمور بالغة الوضوح في التعبير عن الكارثة التي يعيش فيها وطننا اليوم امتداداً في شروط جديدة لزمن الوصاية السورية!

الأمر الأول يعبر عنه ما اعتبره، وفقاً لما يشير اليه واقع الحال، غياب وتغييب دور الدولة في المفهوم المعاصر لها في العالم المتمدن. فالدولة عندنا تاريخياً، حتى قبل ان تصبح شبه دولة في ظل وجود أكثر من دولة في هذا الزمن الذي نحن فيه، لم تكن تحمل مواصفات الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون، الدولة المدنية التي، كما وصفها ماركس، ذات استقلالية نسبية عن القوى الاجتماعية والسياسية التي تمارس فيها سلطتها. وهي الدولة التي تعنى مؤسساتها بالدفاع عن استقلال البلاد وعن امنها وبالعمل لتحقيق التقدم في مجالاته كافة، وبتأمين الحاجات الاساسية للمجتمع من خدمات صحية وتعليمية وسكنية وفي كل ما يتصل بالحقوق الاساسية للمواطنين. لذلك فان استعادة الدولة لدورها، وتحويلها الى دولة مدنية حديثة، هو الهدف الذي يتطلب من اليسار الجديد النضال من اجل تحقيقه مع كل قوى المجتمع المؤمنة بها وبضرورتها.

الأمر الثاني يعبر عنه طغيان الحالة الطائفية في البلاد التي جعلت اقساماً واسعة من الشعب، بوعي منها ومن دونه في الأغلب، تنتمي الى احزاب طائفية هي الأحزاب السائدة في البلاد وتستولي على الحياة فيها، بانقساماتها وصراعاتها وبما يترافق مع هذه الانقسامات والصراعات من خراب للبلاد وتعطيل للحياة ولمرافق الدولة ولكل شيء. ولا يمكن لهذا الواقع الطائفي ان يزول وأن تزول مفاعيله من حياة البلاد لمجرد اقتناع اقسام واسعة من الجمهور وحتى من بعض القوى السياسية السائدة بضرورة زواله. فذلك يحتاج الى زمن. لذلك فان على اليسار، وهو يناضل من أجل دولة ديموقراطية مدنية حديثة، ان يدرك بوعي كامل ان هذه المهمة هي مهمة طويلة، وأن عليه ان يناضل لتحرير ما يمكن تحريره من تأثير هذا الواقع على حياة الوطن والشعب، ويعمل بكل طاقاته لخلق الوعي لدى تلك الاقسام الكبيرة من القوى الملتحقة طائفياً من دون وعي ومن دون ارادة بالأحزاب الطائفية. وعليه في الآن ذاته أن يأخذ في الاعتبار ان الأحزاب الطائفية السائدة ذاتها ليست كلها في موقف واحد، وأن بعضاً منها يمكن ان يتعاون معه اليسار بشروط وأمور محددة.

[ الخراب

الأمر الثالث يتمثل بهذا الخراب الهائل الذي أصيب به الوطن في كل جوانب حياته، الصحية والتعليمية والسكنية والبيئية والخدمات الاساسية من كهرباء وماء فضلاً عن الدواء والمواد الغذائية، أمور يعيش فيها الفساد والغش اللذان ينعكسان على صحة المواطنين. ويتطلب هذا الواقع المتمثل بالخراب من اليسار ليس فقط الاحتجاج والاستنكار، بل ان على هذا اليسار ان يقدم الاقتراحات التي تخرج كلاً من هذه المواقع المشار اليها من الخراب الذي هي فيه، ويناضل من اجل ما يمكن تحقيقه من اقتراحاته، مع الاستمرار في فضح المسؤولين عن حصول ذلك الخراب وعن استمراره.

أما الأمر الرابع فيتصل بسوق العمل الذي تتضاءل الامكانات فيه، الأمر الذي يجعل القادرين على الهجرة ان يهاجروا وعلى غير القادرين على ذلك ان يعانوا من البؤس. يضاف الى ذلك ما تعاني منه الضمانات الاجتماعية من اهتراء يصيب العاملين في القطاعين العام والخاص. وهنا بالذات تبرز ضرورة اعادة احياء العمل النقابي في كل الميادين وتحريره من كل ما شابه من خلل في التجربة القديمة والحديثة. كما تبرز أهمية مؤسسات المجتمع المدني في كل ميادين نشاطها. ووظيفة اليسار في هذا المجال بالغة الأهمية وبالغة الصعوبة في الآن ذاته، فقد يئست جماهير العمال والأجراء في القطاعين العام والخاص من العمل النقابي بفعل اساءة استخدامه وبفعل استغلاله لمصالح سياسية وطائفية وشخصية. لكن لليسار دوراً آخر مهماً هو العمل لتجميع مؤسسات المجتمع المدني بهدف تحويلها الى قوة سياسية واجتماعية ضاغطة على القوى السياسية في اتجاه اعادة الدور الى الدولة ولوظائف مؤسساتها في شكل كامل وصحيح.

في هذه الأمور الاربعة تظهر بوضوح عناصر البرنامج الذي على اليسار الجديد أن يضعه أمامه في نضاله من أجل التغيير الديموقراطي. لكن هذه الأمور ذاتها ستفرض على اليسار أن يتحالف حول بعض بنود هذا البرنامج مع قوى يختلف مع توجهها ومع أهدافها، لكنها تلتقي معه في النضال حول بعض مهمات هذا البرنامج، وعليه الا يتأخر بالتحالف معها. وهذه الأمور المشتركة بين اليسار والقوى الأخرى، بما في ذلك بعض الأحزاب الطائفية، هي ممكنة في الظروف الراهنة التي يعيش فيها لبنان اليوم في زمن الكارثة!

يبقى أخيراً أن نجيب عن السؤال المتعلق بأشكال وأساليب النضال. وهي جميعها وسائل ديموقراطية بالمعنى المتعارف عليه عالمياً في عصرنا الراهن. بمعنى أنها خالية من كل أشكال وصيغ العنف الذي عرفته الحركات اليسارية والشعبوية في الزمن الماضي، وحتى في الزمن الحالي. إلا أن الأساس في أساليب وأشكال ووسائل النضال الديموقراطي التي أدعو لها هي أن تقترن بالواقعية، أي بعدم القفز فوق المراحل، وأن تقترن في الآن ذاته بالوعي، وأن يجري تجنب الوقوع في الشعبوية المغامرة من خلال رفع شعارات براقة غير ذات صلة بالواقع، والذهاب عبثياً في المعارك الفاشلة. وإذ أشير إلى الوسائل الديموقراطية في النضال من أجل تحقيق المهمات التي يتضمنها برنامج اليسار فإنني أؤكد على العمل السياسي بمعناه الأصلي خلافاً لما هو سائد ومشوّه في العمل السياسي في حياتنا الراهنة امتداداً لزمن الوصاية السورية. وأؤكد في الآن ذاته على ضرورة استخدام الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، ومواقع التواصل الاجتماعي لكن بشكل أرقى مما هو سائد فيها، وفي الثقافة في ميادينها المختلفة في الأدب والفن بأجناسهما المختلفة. ويبقى للفكر دور مهم وثابت في البحث والنقاش والحوار والتجديد، سواء في الكتابات وفي الكتب، أم في المنتديات وفي الوسائل الآنف ذكرها جميعاً من دون استثناء.

هذا هو باختصار اليسار الذي أرى أن لبنان بحاجة إليه في هذا الزمن الصعب تجاوزاً لما ساد في تاريخ اليسار، ليس نقداً عدمياً للماضي بل لاحترام المتغيرات التي حصلت والتحولات التي ارتبطت بها، واحترام الظروف الجديدة في بلدنا.

هكذا يكون هذا اليسار جزءاً حقيقياً من الوطن ومن قضاياه ومصالحه، ويكون عضواً فاعلاً في المجتمع مع سائر القوى السياسية والاجتماعية، من كل الاتجاهات. ومن هذا الموقع بالذات يكون اليسار متجاوزاً للتاريخ السابق من دون قطع في مواقفه وفي مواقعه وفي أفكاره وفي سياساته وفي البنى التي يستخدمها أدوات لنضاله من أجل جعل الوطن اللبناني وطناً حقيقياً لجميع أبنائه في تعدد وتنوّع مكوّناتهم ومكوّناته، التي تعبّر عن الشخصية اللبنانية بفرادتها التي تكوّنت عبر التاريخ القديم والتاريخ الحديث على وجه الخصوص.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى