صفحات سوريةطيب تيزيني

“فظاعة” القمع في السياق التاريخي


د. طيب تيزيني

يمثل مفهوم “الفظاعة” في العمل الاجتماعي والسياسي والأمني (المخابراتي) حالة عريقة في التاريخ البشري، وفي مراحل قديمة من هذا التاريخ كانت الفظاعة تظهر عبر وسائل وأدوات بسيطة، ولكن قاسية هائلة. فمثلاً العبد الآبِق (الهارب من موقعه المحدَّد من قِبل سيّده) كان يُعاقَب على نحو يمكن أن يُفقده عينه أو قدمه…إلخ، وقليلاً ما كان يُفقده حياته، خصوصاً بعد أن أدرك مالكو العبيد أهمية الحفاظ على حياة عبيدهم، الذين يبتزَّونهم في أعمال قاسية مُضنية. ولذلك راح السادة يُتقنون استخدام أدوات التعذيب، دون الوصول إلى مرحلة الموت. وهذا يعني أن تعذيب البشر للبشر مرّ بتاريخ طويل تعددت فيه طُرُزُ التعذيب من البسيط إلى الٍأقل بساطة ثم إلى المعقّد والمركب، وأخيراً المدمّر. ولمّا كان العبد أهم ما يملك سيده، فقد كان حريصاً على الحفاظ عليه، وإن كان يخضع مرة أو أخرى لأشكال تعذيبية مميتة، كما حدث مع ثوار سبارتاكوس عبيد روما مع الميلاد.

يأتي حديثنا هنا عن “الفظاعة” المستخدمة في قمع الشعوب العربية بمناسبة “الربيع العربي”. ففي هذه الحال، هل كان ضرورياً أن يحرق بوعزيزي نفسه، كي يعبر عن ألمه واحتجاجه؟ وهل كان مناسباً أن يستخدم ظلاميّو مصر الجِمال كأداة لإرهاب غَلابا مصر؟ وفي ليبيا، ألم يكن مُرعباً أن يعتبر القذافي شعبه أو فريقاً منه نمطاً من الحشرات والهوام، وهو الذي حكمه أكثر من أربعين عاماً؟ وفي سوريا لماذا افترض المسؤولون الأمنيون أن مَن يخرج للتظاهر في سبيل حقوقه إنما هو من السلفيين والمتآمرين وعملاء الاستعمار؟ وفي كل هذه الأحوال يدلّل أصحاب ذلك الرأي على أنهم، في الحد المعرفي الأدنى، لا يدركون أن الإصلاح والنهضة والتحديث إنما هي صيغ من التغيير، الذي يجسد فضيلة عظمى لتطوير الشعوب وأوطانهم، مع ضرورة الإشارة إلى أن غياب الحد المعرفي الأدنى لمعرفة صيغ ذلك التغيير ليس وراءه “قصور معرفي” فحسب، وإنما هنالك ما وراء الأكمة أمر آخر، إضافة إلى أن ذلك يمثل إهانة لشعب صبر على حكم نظام أكثر من أربعين عاماً.

إذاً، كان من الحريّ ومن الحكمة الحقيقية أن يبحث المرء، في الحال الذي نحن فيه، عن حلّ سلمي، حقاً، لما يحدث في سوريا ولصالح الحامل الاجتماعي الجديد للثورة أو الانتفاضة القائمة. نقول ذلك، ونحن نعلم أن من خصوصيات الشعب السوري النسبية ميله إلى السلم، ولكن كذلك إلى التقدم التاريخي. أما أن يحدث ما يحدث على صعيد مناهضة الانتفاضة الثورية، فـإنه يثير الأسى والألم والغضب أولاً، ومن حيث الأساس، اتخذ النظام موقف المواجهة للثورة، رغم بداياتها السلمية، وثانياً، رفض النظام أن تكون المجتمعات العربية مندرجة في سياق قوانين التطور التاريخي، التي أسهم العلم والفكر العربيان -بجدارة- في اكتشافها أو في التأسيس الأولي لمثل هذا الاكتشاف، ونذكر من هؤلاء ابن خلدون والمقريزي، وغيرهما كثير من الشعوب الأخرى. وإذا عدنا إلى مفهوم “الفظاعة” في القمع، فإننا -حالئذ- نرى أن اللجوء إلى هذه الحال سيكون غير ذي جدوى. أما السبب الكامن وراء ذلك فيتمثل في أن الشعوب العربية -وضمنها السوري- بقدر ما هي تواقة إلى السلم والتوافق والمصالحة الوطنية الديمقراطية، فإنها كذلك تدرك أن حرية البشر (مع الكرامة والكفاية المادية) تعادل وجودهم نفسه. ونذكّر بما كان يراه الفيلسوف الوجودي سارتر، من أن الإنسان يولد (يوجد) متلبِّساً بالحرية وبمشروع حريته. وإذا كان هذا القول متوافقاً بالعموم مع كلمة عمر بن الخطاب في حرية الإنسان، فإنه -رغم بعض الخطأ النظري- يمثل دعوة إلى الحرية، حرية الشعوب العربية، والسوري ضمنها.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى