صفحات الرأي

قراءة في كتاب عزمي بشارة “في الثورة والقابلية للثورة


الـمـثـقـف والأمـيـر ومـا بـيـنـهـمـا

قاسم عز الدين

نيكولا دي برناردو ماكيافيللي (1469 ــ 1527) صاحب كتاب «الأمير» الذائع الصيت، سرَت عليه تهمة الانتهازية التآمرية بسبب تسخير فكره في خدمة «الأمير». فما هو متفق عليه بين المثقفين غير المزوّرين أن أولى أخلاقيات المثقف الذي يلقى الاحترام هي المثقف النقــدي تجــاه «أمــيره»، لا تجاه أعداء أميره على وجه الخصوص. الرجل كان مفكراً ومكافحاً ضد استبداد «المديشيين» في فلورنسا وأول من استنبط قوانين الدولة من «العقل الخبرة» وليس من اللاهوت. كان والده من كبار الداعين إلى الجمهورية فشبّ ماكيافيللي جمهورياُ (ديموقراطــياً بمقـياس عصره) هدفه «خلق دولة وطنية حرّة»، كهدف عزمي بشارة متحررة من الاستــبداد. وكان أول من اكتشف أن المجتمع يتطور بـ«أسباب طبيعــية»، هي المصـلحة المادية والسلطة، لكنه توسّم تحقيق طموحاته في أمير «مديشي»، جمهوري، أطلق عليه أهل فلورنسا لقب «لورنزو العظيم». وبقي ظل هذا الأمير يلاحق ماكيافيللي في منفاه بعد دخول الجيش الفرنسي إلى فلورنسا، فأخذ على عاتقه نفع أميره ب«عقله وخبرته»، لا في مواجهة الغـزو الفرنسي إنما في قمع الاضطرابات الشعبية. كان يخرج إلى الحطّابين والقصّابين والبنّائين… بحسب رسالته إلى فرانسيكو فيتوري عام 1513، يجمع الأقاويل والشائعات، ثم يعود إلى مكتبه مرتدياً ثياب البلاط والتشريفات، يدوّن تعليمات نفعية في كتاب صغير أسماه «الأمير»، الذي نشر بعد موته.

لا نعرف ما إذا يتوسّم «المفكر العربي» تحقيق ما يصبو إليه من الديموقراطية ضد الاستبداد، إنما نعرف تمام المعرفة أن «المفكّر» يخرج في منفاه إلى الشارع العربي ثم يعود إلى مكتبه، يلقي تعليمات نفعية في محاربة للأعداء والخصوم، وفي استثمار «الاضطرابات الشعبية». لا يهتم «الماكيافيللي» العربي بتحرره من النفي وبتحرير «فلورنسا» من جيش الاحتلال وقواعده العسكرية، فديموقراطيّ القصور على دين أميره «المديشي لورنزو العظيم» ومَن يأكل من خبز السلطان يضرب بسيفه. قبيل استئناسه في محاربة الاستبداد والدعوة للحرية والديموقراطية، بمحــاذاة أكـبر قاعدة عسكرية أميركية، ذهب يشحذ موهبته في قصر الرئاسة في دمشق. كان هناك يشير ويستشير على قول أقرب صَحبه وخلاّنه الذين لم يسمعوا منه يوماً غير المدح والتبجيل في شخصية الرئيس وقيادته الحكيــمة. ولطالما كان يزهو في حرص الرئاسة على حماية تنـقلات «المفــكّر» الأعجوبة بسيارة الرئيس الخاصة على الحدود، من «العدو الإسرائيلي». ذاع صيته في تلك البلاد مفكراً قومياً فذاًً في معاداته للإمبريالية والصهيونية، بل «بطلاً» يسارياً ذا شبهة ماركسية دون أي مسوّغ فكري في هذه وتلك.

كتب في تلك الفترة ما قلّ ودلّ لكنه جاب مغارب البلاد ومشارقها يسوّق رأسماله الرمزي في «محاضرات» محميّة بالمخابرات والأجهزة الأمنية «من العدو الإسرائيلي»، بل كان بعضها مخصصاً للأجهزة التي انقلب عليها ما ان وصلت أعجوبته «الفكرية» إلى منابع النفط.

في أوّل دخوله إلى عرينه الجديد تحت خيمة القصر كتب «وثيقة» داعياُ بعض صحبه إلى رابطة سياسية، لكنه كان يتوخى رابطة قلـميّة في «توحيد المصطلحات والمفاهيم». رأيتُ حينها مشروعه أشبه برابطة موظفين أتباع تربطهم طاعة ذاتية في «توحيد المصطلحات والمفاهــيم»، فكـتبتُ نقداً في «وثيقته السياسية» بأسلوب لائق على ما يقال في «احترام الرأي الآخر». كان الجزء الثاني من المقالة بعنوان «عزمي بشارة المفكر ضد عزمي بشارة المناضل» (نُشرت المقالة في «السفير»)، أوضحتُ فيها، على براءتي في ألاعيب مثقفي السلطة، أن الحوار (بين المثقفين) ينبـغي أن يكون في ما ورد في «الوثيقة السياسية» من «شوربة فكرية»، لا في المفاهيم والمصطلحات.

كان رده لصديق مشترَك: « إعجابه بي لا يخفى لكنني لا أريد أن أبني حزباً فليفعل هو إذا شاء». ظننتُ أن المرء إذ يشير إلى «الوثيقة السياسية» بإصبعه لا ينظر «المفكر» إلى الاصبع. لكن جوابه زادني يقيناً بأن رأسمال «المفكر العربي» الرمزي في لسانه، لا في فكره. ولا شك في أن مثقف «الأمير» يعرف من أين تؤكل الكتف، فكبار المثقفين العرب المعاصرين أمثال مالك بن نبي وياسين الحافظ والياس مرقص ومحمد عابد الجابري وغيرهم ماتوا معدَمين. فالأمير أكره ما يكره الثقافة والفكر النقدي. لكنه يُغدق على جيش من المحدّثين والرواة والمدّاحين في الاعلام والهجّائين… وهم لا يفكرون، يقول ماكيافيللي في إحدى مقولاته الشهيرة: «ليس أفيَد للمرء (المفكّر) من ظهوره بمظهر الفضيلة».

كتاب عزمي بشارة «في الثورة والقابلية للثورة» لا يسعه أن يحفظ ماء وجه أحد في الظهور بمظهر الفضيلة، حتى إذا كان من عجائب الدنيا السبع. فموضوع الثورة بحد ذاته يمكن أن يقبل مروحة واسعة جداً من الثوريين ودعاة الثورة، إنما لا يمكنه أن يقبل مطلقاً أياً من إصلاحيي «الأمير» وبقية دعاة الاصلاح. فهذا طريق وطريقة، وتلك طريق وطريقة أخرى، بقطع النظر عن محاكمة هذا وذاك في طريقه وطريقته. نحن هنا أمام حقل معرفي في مواجهة حقل آخر يستحيل على أي كان أن يخلطهما في بعضهما البعض من دون أن يفضح غرضه في خدمة «الأمير» ويعرّي نفسه.

قبل عزمي بشاره لم يضطر «مفكّر» في العالم إلى القول «يجب أن يكون الثوري اصلاحياً يقود اصلاحاً في النهاية، والاصلاحي يمكن أن يقود تحوّلاً ثورياً» (ص 33). قالوا جميعاً إما بالاصلاح أو بالتغيير الثوري على وجهي نقيض. وكانت لكل منهم حجج وصولات فكرية إنما كان كل منهم في صف ناس من لحم ودم مقابل ناس آخرين واختار كل منهم صفّه عن غرض أو قناعة. لكن عزمي يخاطب الثوار العرب في عزّ أزمة التفكير في التغيير الثوري بعد الثورة. وعلى هذا الوتر يلعب مثقف «الأمير» محاولاً طمأنتهم بالاصلاح كي يخففوا اضطرابهم الشعبي لخدمة «أمراء أصلاحيين» جدد، يرى الثوار العرب أن أصلاحهم هو في صف ناس مقابل ناس آخرين ومقابل الثوار. لقد اختار عزمي بشاره صفّ ناسه عن غرض أو عن قناعة، إنما وظيفته أن «يفكّر» في توظيف الثورة الشعبية لصالح «الأمير» والاصلاحيين الجدد في السلطة.

الكتاب في خمس وثمانين صفحة، نصفه بحث عن تعريف السياسة من أرسطو طاليس إلى «مصطلحات» الخروج والهيْج والفتنة والوثبة… عند العرب. إنما كتاب حنة أرندت «في الثورة» هو بيت القصيد في هذا الشيء الذي يسميه عزمي «ثورة» في النصف الأول من الكتاب. استعان عزمي «بثورة» حنة أرندت بعد خمس صفحات من البداية، ثم أخذ عنها ما رآه مناسباً أربعة «مفاتيح» مطوّلة في كتابة أربعين صفحة. يقول عزمي «كتبت حنة أرندت كتابها «في الثورة» سنة 1963 تحت تأثير الثورات الحديثة الفرنسية والروسية، ولكنها لفتت بقوّة إلى الثورة الأميركية….» (ص38)، محاولاً بذلك الإيحاء أن أرندت استخلصت الدروس والعبَر من الثورات التاريخية الكبرى، خلافاً للحقيقة. والحقيقة أن أرندت كتبت كتابها «في الثورة» بين عامي 1960 و1961 كما تشير في «تشكرات» مقدمة كتابها، وليس العام 1963 والتاريخ في هذا المعرض شديد الأهمية. أصدرته إثر تغطية محاكمة «أيخمن» في القدس المحتلّة عام 1961 وكان لتغطيتها أثر مباشر في إصدار الكتاب. المخلوقة كانت ناشطة في منظمات صهيونية مقاتلة حتى تغطية محاكمة «ايخمن» حين انفصلت عن منظماتها رافضة «الوعد الإلهي» مع زميلها غودا ماغنس. لم تكتب أرندت «في الثورة» العام 1963 تحت تأثير الثورات الفرنسية والروسية، كما يقول عزمي عن جهل أو غرضية، إنما كتبته بعدما فكّرت بمساومة ذهنية تعطّل الثورة بدعوى أن تعطيل الثورة يعطّل الحرب. أصدرته كوصفة سحرية لتجنّب ثورات مشابهة لثورات فرنسا وروسيا، ولهذا «لفتت بقوة إلى الثورة الأميركية». كانت قد تخوّفت من الثورة والحرب في كتابها «أصول التوتاليتارية» العام 1958، فرفضت نشره ثم حسمت أمرها في فلسطين لتجنّب الثورة والحرب بالدعوة إلى «مساومة ديمقراطية». رأت في «ديموقراطيتها» أن حق اليهود في فلسطين «تاريخي» نتيجة ثمرة رؤوسهم وأيديهم، لا نتيجة الوعد الإلهي أو وعد بلفور، وهو حق مماثل لحق العرب. رأت الخطر على اليهود والعرب في فلسطين هو «في كل شيء أو لا شيء»، ما يؤدي إلى الثورة والحرب. ورأت أن كل ثورة تؤدي إلى الحرب، فكتبت «إن المبرر الوحيد للحرب يأتي من ثورة تزعم خدمة «قضية الحرية» لكن هذه الثورة تلجأ كما الحرب إلى العنف وهذا في حقل «مضاد للسياسة» يهدد مصير الحرية بالخطر».

على خلاف ما يوحي عزمي بشارة، لم تكتب حنّة أرندت كتابها «للثورة» أو «عن الثورة» بل كتبته «للا ثورة» تحت تأثير الخوف من الثورة. يقول «جونثان شيل» ناشر كتبها وناشر مجلة «ذي نايشون» ومؤلف عشرات الكتب، يقول إنها رفضت نشر كتابها «أصول التوتاليتارية» الذي كتبته بعد ثورة هنغاريا العام 1956 خوفاً من تشاؤم تحليلها في الثورة، فنشره بعد موتها. اعتقدت أن كل ثورة تؤدي إلى الحرب في عصر باتت فيه الحروب نووية، الأمر الذي دفعها إلى التفكير بالثورة كعامل سياسي، أو «كمساومة ديموقراطية». وفي مقدمة كتابها «في الثورة» تقول: «في الطريق المسدود الذي أغرقتنا فيه القوة النووية، باتت الثورات العامل السياسي الأساس في عصرنا. ففهم الثورات يمكن أن يقدّم لنا الوسائل لفهم المستقبل». لقد حاولت في كتابها فهم الثورات لتجاوزها على قول «ديك هوارد» الذي خصص لكتابها بحثاً «في نقد المحاكمة» محاولاً أن ينصفها في تخوّفها من الثورة، خلافاً لأيحاء عزمي أن تخوّفها على الثورة. وفي أي حال لم تكن أرندت مرجعاً بين المراجع الكبرى في الثورات ولا في النظريات السياسية. كانت «أستاذة» للإصلاحيين الليبراليين من تيار يمين الوسط الذي ينتمي إليه عزمي، ثم للنيوليبراليين دعاة الحروب في معاداتهم للتغيير الثوري. فهل اكتشف عزمي بشارة حكمتها في نقض الثورات مصادفة كمن وقع على كنز؟ أبداً فوظيفته مخاطبة الثوار العرب بثورة حقوق الانسان على يد «لورنزو العظيم» والاصلاحيين الجدد، في حضن ديموقراطية الاستعمار. ولم يجد أفضل من حنّة أرندت مدخلاً لوضع إيريك أوبزباوم وماركس ولينين…. تحت خيمة «الأمير»، على ما سنبيّن وظيفة «المفكّر العربي» في نقض الثورات العربية. يقول ماكيافليللي في إحدى تعليماته النفعية «لا يجدي أن يكون المرء (المفكّر) شريفاً دائماً».

كاتب وأكاديمي ـ لبنان

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى