فلسطيني سوري… جدلية الوطن والمنفى/ حسام أبو حامد
ما بين مشروعه الوطني ومتطلبات صمودٍ في وجه نكبة مستمرة ولجوء متكرّر، وبين خصوصيات بلدان اللجوء وما حملته من مشكلاتٍ اجتماعية، سياسية واقتصادية، قُدّر للفلسطيني أن يحمل وزرا مضاعفا، أدرك معه أن “القمح مُرٌّ في حقول الآخرين”.
في الأردن أثخنه أيلول جراحا، وإلى لبنان وفيه، دُفِع ودَفَع، بطرائق تسديد متنوعة، فواتير الطائفية السياسية والمذهبية، واجتياحات إسرائيلية متكرّرة. وما بين العراق والكويت، كانت عواقب عاطفة شعبوية، تعلقت باستعراضٍ صاروخيٍ لديكتاتور عربي دكّ، ببضعة صواريخ في سابقة فريدة، تل أبيب، أكبر من قدرة مجاله السوسيولوجي على الاحتمال، لتكتمل من ثم تصفية وجوده وإقصائه مع سقوط نظام صدام حسين، واستباحة المارينز وحلفائهم بلاد الرافدين وتخومها. أما في ليبيا فكان الفلسطيني باستمرار ضحية تقلبات مزاج ديكتاتور من نوع آخر.
في سورية، نال الفلسطينيون حقوقا شبه كاملة (باستثناء الجنسية وحقي الانتخاب والترشيح، وقيود على الملكية والسفر تفاوتت تبعا للتقلبات السياسية في مراحل مختلفة) في مقابل واجبات كاملة. وكان مجالهم السوسيولوجي نسبيا الأكثر استقرارا مقارنةً ببقية دول اللجوء.
“مع ربيع العام 2011، وانطلاق الحراك الشعبي سلميا في سورية، أدرك الشعور الجمعي للفلسطينيين أنهم الحلقة الأضعف في رحلة أخرى مفتوحة على المجهول”
اندمج الفلسطينيون في سوق العمل في القطاعين العام والخاص، وتشابك النسيجان الاجتماعيان، الفلسطيني والسوري، لا سيما في مناطق تجمعات الفلسطينيين خارج المخيمات التي لم تكن بكل حال تجمعاتٍ محدودة (في دمشق وريفها: ركن الدين، حي الأمين، دمر، جوبر، زملكا، الحجر الأسود، سبينة، السيدة زينب… وغيرها)، قبل أن يتحول مخيم اليرموك، أكبر تجمعاتهم، إلى أحد أهم أسواق دمشق، والتي معها بدأ يفقد من خصوصيته الفلسطينية مع ذروة الاستثمارات العقارية والتجارية التي هزّت ديمغرافيا المخيم منذ التسعينيات.
مع ربيع العام 2011، وانطلاق الحراك الشعبي سلميا في سورية، أدرك الشعور الجمعي للفلسطينيين أنهم الحلقة الأضعف في رحلة أخرى مفتوحة على المجهول. وبالنظر إلى تشابك الوضعيتين الاجتماعيتين، السورية والفلسطينية، وكما انقسم السوريون بين مؤيد ومعارض، تقاسم الفلسطينيون كلا الموقفين، مع انحيازهم جميعا، وفي وقت مبكر، إلى العمل الإنساني إغاثةً لأشقائهم السوريين، وإلى رغبتهم في تحييد مخيماتهم عن الصراع الدائر في سورية، لكنه كان حياداً مرجواً لم يكن سوى ضرب من لا واقعية سياسية.
لم يقتصر الانقسام الفلسطيني على المستوى الشعبي، بل طاول الارتباك المستوى الفلسطيني الرسمي، ولم تجمع الفصائل الفلسطينية العاملة في سورية على موقف موحد من المسألة السورية. وفي خضم صراع الفرقاء السوريين، خضعت الوضعية الفلسطينية لحالة استقطابٍ حاد. ومع أن شبانا فلسطينيين انخرطوا في الحراك السلمي السوري، إلا أنهم التحقوا بالتظاهرات المعارضة، بداية خارج المخيم وعلى تخومه، قبل أن تجد تلك التظاهرات مصلحتها في اختراق شوارع المخيم وأحيائه.
بدأت القذائف، والسيارات المفخخة، تنشر حمم شظاياها على المخيم، ومع إجهاض الحراك الشعبي السلمي في سورية، واتجاه الأمور بوتيرةٍ متسارعةٍ نحو العسكرة والانحدار في حرب أهلية، تنوعت ألوان البنادق داخل المخيم، لتنتهي الأمور، أخيراً، عند سيطرة تنظيم داعش على غالبية أحياء المخيم الذي كان، قبل ذلك، قد خضع لحصار محكم من الداخل والخارج مستمر، في ظل نقص حاد في الماء والغذاء والخدمات الأساسية، قضى بسببه مئات الفلسطينيين، مع عراقيل مستمرة، منعت دخول المساعدات الإنسانية الغذائية والطبية، وإجهاضات متكرّرة لتفاهمات التسوية وفك الحصار.
لم يكن المهجّرون من أبناء المخيم في حال أفضل، إذ رزحوا، في الداخل السوري، تحت رحمة غلاء مضطرد في الأسعار، وكان عليهم لتوفير المأوى الاختيار بين مراكز الإيواء أو دفع أسعار إيجار باهظة لمنزلٍ متواضعٍ تشاركته، في أحيانٍ كثيرة، أكثر من عائلة. ذلك وغيره هو حالهم في ظل عجز المستوى الفلسطيني الرسمي، ممثلا بمنظمة التحرير الفلسطينية، عن القيام بدور فاعل، وتراجع حاد في خدمات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، الجهة الدولية المسؤولة مباشرة عن اللاجئين الفلسطينيين، وعجزها عن توفير حد مناسب من المساعدات في المجالات المختلفة. وعلى الرغم من إغلاق الحدود في وجوههم، وعقبات عدم منحهم تأشيرات عبور، تمكّن ألوف من الأفراد من اجتياز المتوسط باتجاه الغرب، وبقي منهم من ينتظر استكمال إجراءات لم الشمل، ومنهم من قضى نحبه غرقاً قبالة شواطئ ليبيا ومالطا.
في غضون مفاوضات أستانة، كان الأمل يحدو الفلسطينيين، كما السوريين، استبعاد سيناريو محتمل، هو الأسوأ، يتمثل في استمرار الصراع الذي قد ينتهي بتفكّك الدولة السورية، يصبح معه الفلسطينيون أحد ضحايا إعادة تعريفهم وتموضعهم طائفيا وديمغرافيا. لقد بات مصير الفلسطيني في سورية، أو على الأقل عودة أوضاعه إلى ما كانت عليه قبل العام 2011، مرتبطا بالهوية السياسية للنظام السوري المقبل، أما التوصل إلى مجرد تسويةٍ سياسيةٍ هشة، تدفع باتجاه استقرار ظاهري مؤقت، فيعني استمرار بقائهم تحت رحمة المناورات السياسية الداخلية والخارجية.
“طالما حملت نسبة الفلسطيني إلى السوري، في صيغة “فلسطيني سوري”، من الدلالة ما هو أعمق بكثير مما حملته صيغتا “فلسطيني مصري” أو “فلسطيني لبناني” ونحوهما”
طالما حملت نسبة الفلسطيني إلى السوري، في صيغة “فلسطيني سوري”، من الدلالة ما هو أعمق بكثير مما حملته صيغتا “فلسطيني مصري” أو “فلسطيني لبناني” ونحوهما. مع تلك الصيغة، كانت جدلية الوطن والمنفى أكثر وضوحا، وتجلت في أحد تعيناتها في بقاء الشتات الفلسطيني السوري القاعدة العسكرية والديمغرافية الأوسع للمشروع الوطني الفلسطيني في مراحل مختلفة.
تصفية الوجود الفلسطيني في سورية، وتفتيت مجالهم السوسيولوجي، ودفعهم بعيدا لتكريس مسافة جغرافية بينهم وبين حدود وطنهم المحتل، هو تكريس مسافةٍ سياسيةٍ بينهم وبين استكمال مشروعهم الوطني، واستعادة حقهم في العودة. وهنا خطورة اختزال الشأن الفلسطيني السوري في مجرد أزمةٍ إنسانية، بل لا بد من إبرازه بوصفه قضيةً سياسيةً ووجودية بالدرجة الأولى، تُبقي على جدلية الوطن والمنفى، طالما بقي المنفى، بالنسبة للفلسطيني، شرطا للوطن.
كان محمود درويش قد قبض، بحدسه الشعري، على تلك الجدلية، جدلية الوطن والمنفى، حين قال بعيد رحيل قوات الثورة الفلسطينية عن لبنان الثمانينيات، إحدى محطات رحلة اللجوء الفلسطيني المتعثر باستمرار: “ليس لي منفى، لأقول لي وطنُ..الله يا زمنُ”.
العربي الجديد