صفحات الناس

الزواج المدني في سوريا: ثورة مؤجلة/ راشد عيسى

منذ اندلاع الثورة السورية بادرها النظام السوري بعنف استثنائي رهيب، ما زال مستمراً حتى الساعة، فأفسد كل شيء. أفسد أولاً قيم الثورة التي ظهرت مع كل شعار ولافتة وصرخة. حاول المتظاهرون حماية ثورتهم وقيمها بأرواحهم، إلا أن الموت لفّ كل شيء، فبات هو الشاغل الوحيد؛ كيف سندفن أمواتنا، وأين، كيف سنحمي المشيِّعين، والمقبرة، وهكذا.

 اختفت شعارات “الشعب السوري واحد”، “لا للطائفية”، وشعارات أخرى تعزف على وتر المواطنة وبناء الدولة المدنية الديموقراطية وغيرها من مفاهيم أطلقت، حتى قبيل اندلاع الثورة. وربما لو سمح الموت قليلاً للسوريين الثائرين بأن يتنفسوا لوجدوا الوقت كي يطرحوا مشاريع أخرى تطاول مفاهيم اجتماعية وثقافية بالية. كانوا وجدوا الوقت كي تصل ثورتهم لمعالجة قضايا من قبيل جريمة الشرف، المخدرات، العنف، وسواها. وربما كانت مسألة الزواج المدني هي الأخرى على الطريق. لكن من يهتم الآن في خضم أولويات النجاة بالنفس؟

 غير أن هناك من بين السوريين من يهتم لذلك فعلاً، ناشطون وجدوا أنفسهم خارج الصراع الدائر، بل ورغماً عنه، يفتحون صفحات تناقش، وتروّج، وتبحث في مسألة الزواج المدني في سوريا. صفحات اختارت البقاء بعيدة من صخب المعارك. بل إن إحداها وجدت نفسها، تحت إلحاح السؤال، مضطرة إلى الإجابة في شأن علاقتها بالسياسة، والتي يمكن اختصارها بإدانة “طرفي الصراع”، أو الرغبة في التقريب بين وجهات النظر. ومع ذلك فإن إحدى هذه الصفحات، حين تضطر إلى التحديد أكثر، ستقول مثلاً: “تتمثل قذارة جبهة النصرة في انتهاك أحد أبسط قواعد الحرب الأخلاقية بعدم إعدام الاسرى… ويتوقعون منا أن نثق بالإسلاميين حين يعدونا بدولة تتسع للجميع”. لا تلتفت صفحات “الزواج المدني” بالقدر ذاته إلى الآلاف الذين قتلوا أو عذبوا أو اغتصبوا وانتهكوا في سجون النظام السوري، بحسب تقارير حقوقية موثوقة. فهي سرعان ما تعود إلى شغلها الشاغل، الزواج المدني، وبالتالي مناهضة الطائفية، وإدانة جرائم الشرف، والاغتصاب.

 صفحات تُجري مطالبات تمرّ بلطف، حيث لا اعتراضات كثيرة تذكر، ولا مجادلات. تبدو هذه الصفحات وكأنها تقتصر على مؤيدي فكرة الزواج المدني. ومن الواضح أنه، رغم إشكالية الفكرة وخطورتها، فإن ناشطي “فايسبوك” لا ينظرون إلى الأمر بهذه الجدية والإلحاح.

مناف زيتون، مؤسس ومدير صفحة “زواج مدني في سوريا “، تحدث إلى “المدن” عن ضرورة وجود هذه الصفحة: “من حيث المبدأ، أحدى نتائج إقرار زواج مدني هي قدرة أبناء الطوائف المختلفة على الزواج من دون عائق قانوني، يضاف إلى العوائق المجتمعية الحائلة دون هذا النوع من الزواج، وهو أمر ضروري في بلد يحتوي على تنوع مذهل في الطوائف والأديان، أما التوقيت فمتعلق بتوافر البيئة التكنولوجية وإقبال السوريين عليها أكثر من أي وقتٍ مضى، وبالتالي سهولة جمع وتسهيل تواصل المؤيدين للزواج المدني”. أما بخصوص الوضع الوضع الراهن في سوريا، فيقول: “قد يبدو هذا المطلب مفرطاً في الرفاهية، لكن المجتمع السوري والبيئة القانونية السورية تمر بمرحلة من المرونة قد لا تتكرر، وأي مطالب هذا هو وقتها، كون التغيير يبدو ممكناً الآن”.

 لا ينكر زيتون أن ما يجري في البلاد يشجع على هذا التفكير، لكنه يستدرك: “ليس بشكل مباشر. التطرف الديني في أقصى حالاته في سوريا اليوم، والاحتقان الطائفي على أشده، أعتقد أن هذا الوضع يسلط الضوء على ضرورة اعتماد بيئة قانونية تكسر العزلة النسبية بين الطوائف، وتمهد لمستقبل أكثر تعايشاً بدلاً من الشعارات الفارغة التي كانت تردد كل يوم لتسقط مع أول حدث طائفي”.

ولدى سؤاله عن التجاوب مع صفحات “الزواج المدني”، يؤكد زيتون “التجاوب معها جيد إلى الآن، قياساً لأولوية السياسة في اهتمامات الجمهور السوري، لكن بالطبع هو اهتمام دون طموحنا، وهناك حملات افتراضية أخرى تحمل المطلب نفسه وحققت تجاوباً أوسع”. وعن الصدى الرسمي قال: “ليس بعد. لم يسبق أن سمعنا صدى رسمياً بهذا الخصوص أصلاً. الصدى الرسمي الوحيد الذي سبق سماعه هو مسودة قانون أحوال شخصية أسوأ من الموجود حالياً. أما الصدى الشعبي -وإن كان من المبالغة الحديث عن ذلك- فبدأ بالظهور، سواء بخروج مؤيدي الزواج المدني إلى الضوء أكثر من ذي قبل، أو الهجوم الحاد من معارضيه، والذي كشف عن جهل واسع النطاق بطبيعة الزواج المدني”.

نقول لزيتون إننا لاحظنا أن الصفحة أقرب إلى طروحات النظام، حين يتعلق الأمر بالسياسة، فيجيب: “لا أريد الخوض في نقاش سياسي أو تبني موقف مدافع عن أحد الطرفين، نحن ننتقد الانتهاكات التي تصيب الحريات الشخصية للسوريين، والتي يبدو اليوم أن معظمها يبدر عن المعارضة المسلحة وما يتبعها من كتائب إسلامية”. ويتابع زيتون متسائلاً: “هل نحن مع أو ضد النظام؟ لا هذا ولا ذاك. مناصرو الزواج المدني تقريباً من جميع الفرق السياسية في سوريا، وكذلك نحن كقائمين على الصفحة. بالنسبة إلى الحاضنة، لا أعتقد أن السلاح المعارض (الأكثر تأثيراً على الأرض) على الأقل يبدو مهتماً بالحقوق والحريات الفردية حتى الآن، ومعظمه يسير في الاتجاه المعاكس تماماً، وعلى الطرف الآخر فإن النظام الحاكم موجود في سدة الحكم منذ عشرات السنين، ولم يقم بأي تعديل جذري على قانون الأحوال الشخصية أو يقلل من نفوذ المؤسسات الدينية في حياة المواطن السوري، سوى بعض التعديلات لتصبح القوانين أكثر اختصاصاً بالطوائف، كموضوع كيفية توزيع الميراث لدى المسيحيين”.

 لم يتح للثورة السورية أن تمضي في مسارها الطبيعي، وإلا لكانت وصلت، باعتبارها ثورة الحرية أولاً، إلى طرح مفاهيم اجتماعية من هذا الحجم. أما نوع النتائج التي يمكن الوصول إليها، فالأمر ليس بتلك السهولة، ولا شك في أن ذلك رهن بالثورات التالية على سقوط النظام. حينها، لا يمكن أن تبقى صفحات ومواقع “الزواج المدني” على الانترنت، على حالها الراهن، الهادئ. لكن مما لا شك فيه أن النظام الذي جرّ البلاد إلى أتون الأحقاد الطائفية، سيجعل الأمر أصعب من ذي قبل.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى