فلسطين: القضية والمدافعون عنها
حسام عيتاني
تحظى أحداث سيناء باهتمام إعلامي وسياسي كبير. ويتابع المشاهدون العرب تفاصيل تحركات الجيش المصري والهجمات التي يشنها المسلحون بالتزامن مع التطورات في القاهرة. وعلى بعد كيلومترات قليلة من الحدود مع مصر، يقف آلاف من بدو النقب وحدهم أمام مشروع استيطاني إسرائيلي جديد.
وبعد أعوام من التحضيرات والمناوشات التي استهدفت البدو المقيمين في بلدات النقب والصحراء، ظهر أن حكومة بنيامين نتنياهو اتخذت قرارها بمصادرة مئات آلاف الدونمات من أصحابها لمصلحة “تطوير المنطقة” و”فرض القانون والنظام” عليها، وفق القانون الذي يحمل اسم “برافر – بيغن” الذي سيقره الكنيست الاسرائيلي رغم مطالب فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 بإرجاء النظر فيه مدة 6 أشهر تدرس فيه السلطات الإسرائيلية مطالب السكان.
ومقارنة مع اتساع المتابعة السياسية العربية والدولية للحدث المصري، يبدو أن سكان النقب متروكين وحدهم باستثناء عدد من هيئات المجتمع العربي في إسرائيل وبعض الناشطين الإسرائيليين المدافعين عن حقوق الإنسان.
يفترض بهذا الفارق الشاسع بين المسألتين أن يطرح أسئلة عدة. وبغض النظر عن عمق الآثار التي ستتركها أحداث مصر على المنطقة والعالم، مقابل الأثر المحدود لما يجري في النقب، فإن وقوع مصادرة أراضي بدو النقب ضمن إطار “القضية المركزية” ينبغي أن يجلب المزيد من الاهتمام بها. وهو ما لم يحصل. يضاف ذلك إلى التجاهل شبه الكامل للقرارات شبه الأسبوعية التي تصدرها سلطات الاحتلال ببناء آلاف الوحدات السكنية في مستوطنات الضفة الغربية وتعمق الانقسام الفلسطيني واتخاذه صفة الديمومة.
ويصلح مسار الأحداث في فلسطين مادة ممتازة لكشف خواء وانتهازية “محور الممانعة” الذي يبتز العرب والمسلمين بمقولات “المقاومة” ومواجهة الأطماع الإسرائيلية فيما يقف جامداً أمام كل امتحان يتعرض له فلسطينيو الداخل. بيد أن ذلك كله لا يخرج من عالم المظاهر الخارجية والسطحية ولن يكون استحضار حديث “الممانعة” غير سقوط في فخ المزايدة اللفظية.
من جهة ثانية، ثمة قول يكثر تكراره هذه الأيام وهو أن فشل المدافعين عن القضايا المحقة يعني ضرورة تغيير المدافعين وليس القضايا. ويُنسب هذا الكلام إلى الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني.
في زعمنا أن المسألة أكثر تعقيداً من كون القضايا محقة أو عادلة أو غير ذلك.
فالتاريخ يعج بالأمثال عن القضايا العادلة التي سُحقت ومنيَ حملة ألويتها بهزائم لم تقم لهم بعدها قائمة. وبعد أكثر من 65 عاماً من النكبة الفلسطينية، تبدو “القضية المركزية” قد بلغت الطريق المسدود وربما ستبقى أمامه لفترة طويلة مقبلة، من دون أن تقل عدالة القضية مثقال ذرة.
يتعين هنا رسم خط فاصل بين “العدالة” كمفهوم حقوقي وبين سبل تحقيق هذه العدالة كممارسة سياسية. ورغم الإنجازات المهمة التي حققها الشعب الفلسطيني ومؤسساته السياسية في تثبيت فكرة عدالة قضيته، إلا أن الفشل ما زال طاغياً على رسم الخط الذي يصل المفهوم المجرد بالواقع القائم. يفتح باب الفشل هذا ملفات شائكة تتعلق بمدى تطور القيادات الفلسطينية وفهمها لمعطيات العالم المعاصر (وهو فهم ظهر قصوره الشديد في الانتفاضة الثانية، على سبيل المثال، بعد تعرض الانتفاضة لتصفية وافق العالم بأسره عليها)، وغير ذلك من آراء تتصل بالاجتماع والاقتصاد الفلسطينيين والمقارنة مع نظيريهما الإسرائيليين.
الوقائع هذه قد تذهب إلى تأكيد مقولة “تغيير المدافعين عن القضية” وليس القضية ذاتها. لكن ثمة التباس عميق في العلاقة بين القضية ومن يدافع عنها. فالأخير يفترض أن يكون ابن القضية وليس مجرد محام موكل قضية أمام محكمة. بكلمات ثانية، هو جزء من هذه القضية غير قابل للعزل من أجل تعيين بديل أكفأ عنه.
وعلى خلاف ما يقول صاحب العبارة الشهيرة، يبدو لنا من المحال تغيير المدافعين عن القضية من دون أن يتغير معناها ومضمونها، وموقعها في ضمائر المدافعين عنها.
بلاغة العبارة الظاهرة تخفي إذاً لا جدواها. فالقضية هي هي المدافعين عنها. وهؤلاء هم القضية. ذلك أنه لا يمكن تصور انخراط أياً كان في الدفاع عن قضية، بالمعنى الكبير للكلمة، ما لم يكن متأثراً وجودياً بها وبتقدمها وفوزها، إذا أسقطنا بطبيعة الحال المرتزقة والمتسلقين على جراح غيرهم.
تغيرت القضية الفلسطينية كثيراً وتغير المدافعون عنها. وتقول الوقائع إن حال القضية والمدافعين عنها يسير من سيء إلى أسوأ وسط لامبالاة العالم وصمته. ومن بعيد، يلوح أمل ضعيف في أن تفتح الثورات العربية آفاق تغيير في أساليب التفكير والعمل في بلادنا هذه.
موقع 24