حازم نهارصفحات مميزة

فهم التجربة التركية/ حازم نهار

تركيا دولة علمانية ديمقراطية لا تختلف بالعموم عن الدول الحديثة إلا بشكل جزئي ونسبي، على الرغم من جوانب القصور التي تعتري تجربتها والتجاوزات التي تحدث في محطات عديدة، ولا يغير من هذه الحقيقة وجود حزب ذي مرجعية إسلامية في الحكومة أو السلطة. فهناك معياران أساسيان متوفران في الدولة التركية، وهما: الأول، التساوي القانوني في المواطنة بغض النظر عن الدين أو المذهب أو الجنس أو العرق. الثاني، دولة حيادية غير أيديولوجية نسبياً، بمعنى أن الدولة غير مطبوعة بأي ملمح أيديولوجي أو ديني، وتقف أجهزتها نوعاً ما على مسافة واحدة من جميع الأيديولوجيات والمعتقدات والأديان والأحزاب والجماعات، بما يجعل منها دولة وطنية لجميع مواطنيها، أياً يكن الحزب الحاكم أو الممسك بزمام السلطة.

نعلم اليوم أن الدولة التركية تديرها حكومة إسلامية التوجه (حزب العدالة والتنمية)، وهذه الحكومة قامت بدورها خلال عقد من الزمن بطريقة لافتة، وبنجاح كبير على المستويات الاقتصادية والاجتماعية بشكل رئيس، وحتى على المستويين السياسي والدبلوماسي، على الرغم مما نشهده من انتقادات البعض لها استناداً إلى خلفيات أيديولوجية أو اختلاف المصالح والتوجهات السياسية.

في المنطقة العربية، لا زال عدم التمييز بين مفهومي الدولة والحكومة، إن كان على المستوى الشعبي أم “النخبوي” هو الأساس والمسيطر على العقول لدى مقاربة التجربة التركية أو سواها، ربما لأن أنظمة الحكم السائدة في بلداننا أعطت صورة نمطية سيئة وشاذة لماهية الدولة، فقد التهمت السلطات أو الحكومات الدول القائمة، حتى غدت الحكومة والدولة والوطن شيئاً واحداً كريهاً.

“العلمانيون” العرب يتعاملون في الغالب الأعم مع تركيا بوصفها دولة إسلامية، وهذا غير صحيح. فهم محكومون بكرههم لأردوغان ومواقفه السياسية، وبرؤيتهم الأيديولوجية المعتقدية للعلمانية التي حولوها إلى دين متطرف، حتى نكاد لا نميزهم عن المتطرفين الإسلاميين كداعش وأخواتها، على الرغم من اختلاف القشرة الخارجية واللباس والشعارات المعلنة. وللمفارقة، هؤلاء أنفسهم معجبون بالتجربة الإيرانية ويدافعون عنها، على الرغم من كونها تعبيراً صارخاً وفاضحاً عن الدولة الشمولية المحكومة برجال الدين، والدولة التي تغيب فيها الديمقراطية والحريات على المستويات كافة.

كذلك، يتعامل “الإسلاميون” العرب مع تركيا بوصفها دولة إسلامية بحكم وجود حكومة أردوغان الإسلامية على رأسها، وهذا ينم عن رؤية زائفة وقاصرة. وهنا يتمنى المرء على القوى الإسلامية أن تتعلم بعض الشيء من تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا إن أرادت أن تكون ابنة الواقع والعصر وأن يكون لها دور إيجابي في مستقبل بلدانها.

إن سر النجاح النسبي لتركيا، مقارنة بدول المنطقة، هو دولتها العلمانية الديمقراطية بشكل أساسي، إذ من دونها ما كان من الممكن لحكومة حزب العدالة والتنمية أن تنجح. بمعنى آخر، كان الشرط الضروري لنجاح حكومة أردوغان هو احترامها لماهية هذه الدولة، فهي لم تسعَ إلى أسلمة الدولة التركية والهيمنة على مفاصلها، كما فعلت الأحزاب القومية العربية “البعث مثلاً” التي طبقت في الواقع نهجاً عسكرياً وأمنياً من جهة، وحكماً “سلفياً” شمولياً في جوهره ولا علاقة له بمقومات وشروط العلمانية من جهة ثانية. فهيمنة البعث وطغمته الحاكمة على الدولة بمؤسساتها كافة (الأجهزة الإدارية والجيش والأمن والمدارس والجامعات والشوارع ….إلخ) لا تختلف جوهرياً عن حكم حركة طالبان ومشتقاتها، وهنا مبرر التسمية التي أطلقتها على هذا الحزب “حزب البعث السلفي”.

كذلك الأمر بالنسبة للأحزاب والتيارات الإسلامية في المنطقة العربية التي تعبر عن إعجابها بالتجربة التركية، لكنها في شعاراتها وممارستها تعلن عن، وتسعى إلى، وتعمل على، بناء دولة دينية على شكل الدولة الأيديولوجية للبعث وسواه، وهي بالضرورة دولة حصرية تعبر عن جزء من المجتمع فحسب وفي لحظة زمنية محددة، وسيكون لها طابع استبدادي قهري إزاء بقية فئات المجتمع.

في الدولة الحديثة هناك فصل واضح بين الدولة والحكومة/السلطة، إضافة لوجود ربط بدرجة ما، يزيد أو يخف استناداً إلى المرحلة وطبيعة الحكومة ذاتها، وهذه الدولة لا تجد أي حرج أن تُحكم من جانب حزب إسلامي أو ماركسي أو ليبرالي أو قومي أو من ائتلاف حزبي ما، طالما أن الديمقراطية السياسية بأركانها كافة (احترام الدستور الوطني، سيادة القانون، سيادة الشعب، التعددية الحزبية، حرية الإعلام، استقلالية المجتمع المدني، الانتخابات…. إلخ) هي الحكم والفيصل في كل لحظة زمنية. كل الدول الدينية هي دول فاشلة واستبدادية، أفغانستان والسودان وإيران والسعودية، تماماً كالدول العقائدية التي تدعي العلمانية (كوريا الشمالية وكوبا والاتحاد السوفياتي سابقاً، ودولة البعث في العراق وسورية).

لا زال لدينا “المعتقد” هو العنصر الأساسي في تقويم البشر والتجارب وفي النظر السياسي، وهذه الطريقة في التفكير تخلق معسكرات متعادية بين القوى والأيديولوجيات على حد سواء، فضلاً عن زيف الرؤية السياسية وخطئها. جدير بالذكر أن الكتلة الانتخابية لأردوغان وحزبه هي كتلة متنوعة ولا يمكن بالتأكيد القول أنها كتلة إسلامية متدينة، إذ إن أكثر من 60 بالمئة من أكراد تركيا قد صوتوا لأردوغان، في حين لم يصوت سوى نسبة ضئيلة منهم لحزب السلام والديمقراطية التابع لـحزب العمال الكردستاني، PKK.

السياسة والممارسة الديمقراطية في أي بلد تؤدي بالضرورة إلى تضييق دور الأيديولوجيات والمعتقدات الدينية وغير الدينية في الخيارات السياسية، وتصبح النجاحات السياسية والاقتصادية هي الحكم والفيصل في خيارات البشر، وهذا ما لم تدركه القوى الإسلامية المعتقدية والقوى العلمانية الأيديولوجية في بلداننا، وجدير بالذكر أنه كلما كان الواقع القائم استبدادياً وطارداً للممارسة السياسية كلما اشتدت النزعة الأيديولوجية والتعصب العقائدي أو الديني، وفي المآل كلما ضمر الإحساس بالوطن وبأهمية الدولة الوطنية.

هناك من ينظر نظرة تكتيكية قصيرة النظر للعلمانية التركية، بخاصة بين “الإسلاميين”، فيعتقد أنه يمكن إلغاء الطابع العلماني للدولة التركية، أي النظر إلى العلمانية التركية كمرحلة مؤقتة باتجاه بناء دولة الإسلام أو الخلافة الإسلامية. باعتقادي هذه الرؤية واهمة وقاصرة، فهذا الأمر غير ممكن من دون إلغاء الدولة التركية ذاتها، فالعلمانية والديمقراطية هما ماهية الدولة الوطنية الحديثة، ومن دونهما لا يكون هناك دولة بل طغمة، سواء كانت هذه الطغمة إسلامية أو غير إسلامية.

 للأسف معظم “الإسلاميين” لا زال خطابهم غير وطني، وغير سياسي في الحصيلة، بل ينتحلون خطاباً إسلامياً أيديولوجياً غايته التحشيد والتعبئة وراء شعارات شمولية لها طابع مقدس، وليس حل المشاكل الواقعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية،  ولم يدركوا بعد أن البشر يمكن أن تتحشد وراء هذه الشعارات بشكل مؤقت، لكنهم في المآل سيبحثون عمن يحقق لهم مصالحهم الحياتية، حتى لو كان الشيطان ذاته. يمكنك ببساطة أن تكون إسلامياً وعلمانياً في الوقت ذاته. جوهر العلمانية أن تقتنع أن هذه الدولة ليست لك وحدك، إنها لك ولغيرك، دولة الجميع.

 نقاش وتقويم التجربة التركية وفهمها بهذه الطريقة ضروري، بمعزل عن الدور التركي في الوضع السوري الذي يتعامل معه البعض بشيطنة كبيرة، والبعض الآخر بتقديس هائل، وكلاهما على خطأ.

\\ كاتب سوري \\

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى