فولفغانغ شتريك.. في شراء الزمن ومخاطر الاستهلاكويّة
حاوره: رشيد بوطيب
في مقال صدر في صحيفة “فرانكفورتا ألغماينه” الألمانية بتاريخ 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2014، يحمل عنوان “يساري عاقل”، كتب الصحافي الاقتصادي راينه هانك عن فولفغانغ شتريك (1946) عالم الاجتماع الألماني البارز: “إنها لحظة Lehman التي لا تريد أن تفارقه حتى يومنا هذا. لقد صنع منه يوم الخامس عشر من أيلول/سبتمبر عام 2008، الذي يعتبر رمزاً للانهيار العالمي للأسواق المالية، هو المتشكك، متشائماً كبيراً”.
وتابع: “منذ يومها تحولت كولونيا إلى “قلب الظلام” في علم الاجتماع الألماني” وهو يشير بذلك إلى إدارة شتريك لمؤسسة ماكس بلانك للأبحاث الاجتماعية. طبعاً ليس انتقاد الرأسمالية حكراً على شتريك داخل الخطاب الألماني، ولكن كما يلاحظ كاتب المقال، لم يهتم أحد بالسردية الرأسمالية قدر اهتمام شتريك بها، وطبعاً دائماً وفق نظرة نقدية، هو الذي بدأ حياته الفكرية متعاطفاً مع الشيوعية قبل أن يرتد عنها.
يطالبنا شتريك بضرورة الحذر من الطلاق الذي تؤسس له النيوليبرالية بين الاقتصاد والمجتمع، وما برح يطالب بإدماج الاقتصاد في المجتمع. إن السوق المحضة Der reineMarkt خطر على الديمقراطية والمجتمع، وهذا ما يؤكده شتريك في كتابه الصادر عام 2013 “شراء الزمن”، وهو يقف على النقيض من يورغن هابرماس الذي يعتقد بإمكانية السيطرة على الأسواق العالمية يوماً، ويرى أن الحل يكمن في سلطة المراقبة المرتبطة بالدول الوطنية. تالياً حديثه إلى “العربي الجديد”.
■ سيد شتريك، سترافقنا أسئلة كتابك “شراء الزمن: الأزمة المؤجلة للرأسمالية الديمقراطية” وأطروحاته في السنوات المقبلة، وحتى في العالم العربي. يصف “شراء الزمن” كيف أن الأزمات البنيوية التي تجرّها الرأسمالية منذ عقود تمثل خطراً على الديمقراطية. لكن أي معنى يمكن أن يقدمه هذا الكتاب لمنطقة مثل المنطقة العربية التي تعرف الرأسمالية لكن لا تعرف الديمقراطية؟
– الواقع أني، للأسف، لا أعرف الكثير عن العالم العربي. لكني لن أتحدث في ما يتعلق بالعالم العربي عن رأسمالية مكتملة التطور ولكن عن أطراف رأسمالية، هي من الممكن أن تكون في طريقها إلى رسملة كاملة، غير أنه من الممكن أيضا أن تتوفر على مقدرة للصمود ضد هذه الرسملة. إن القاعدة العامة تقول بأن المركز غير معنيّ بدمقرطة الأطراف، ولكن باستقرارها، وخصوصاً من أجل الحفاظ على إمدادات الطاقة بأثمان بخسة. كما أنه من المعروف أن الأزمات التي تضرب المركز ستنتقل أيضاً إلى الأطراف، ولكن بقوة أشد. إن الأمر يرتبط أيضاً بواقع أن لدينا اليوم قطاعاً مالياً معولماً، تحكمه الولايات المتحدة الأميركية، ويساهم في انتقال عدوى الأزمات بسرعة كبيرة. إن منافسة الصين اليوم للولايات المتحدة الأميركية قد يغير الكثير من المعطيات، لكنه أمر يظل، وإلى اليوم، ذلك المجهول الكبير.
■ ألا تعتقدون بأن النيوليبرالية وعبر خوض حروب جديدة في الأطراف، ستمنح نفسها عمراً أطول؟ لماذا أغفلتم جانب الحرب في دراستكم؟
– فقط لأنه لا يمكنني أن أكتب عن كل شيء دفعة واحدة. إن الحروب تمتلك أهمية كبيرة في أطراف الإمبراطورية الرأسمالية. إن بصمة عصرنا هي أن الأميركيين باتوا يخسرون حروبهم بانتظام، ويخلفون وراءهم في أطراف مجال نفوذهم دولا فاشلة failed states وأن العنف في الأطراف يرتدّ على المركز في شكل حرب إرهابية. إن واقع أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على القيام بدورها كحامٍ للرأسمالية، هو عنصر مركزي من عناصر الأزمة الحالية للنظام الرأسمالي.
■ ما الذي تنتقدونه في الاتحاد الأوروبي؟ هل ساهم الاتحاد في الطلاق القائم بين الديمقراطية والاقتصاد؟
– كان الاتحاد الأوروبي في بداياته أيضاً، محاولة لتطوير ودعم رأسمالية ما بعد الحرب الثانية وما تتضمنه من حضور للدولة في الاقتصاد ودولة الرفاه والديمقراطية على المستوى الأوروبي. إن هذا المشروع الديمقراطي ـ الاجتماعي فشل في عقد الثمانينيات ليحل محله باضطراد مشروع نيوليبرالي يركز على الطلب، ليضيع عبر هذا التطور “البعد الاجتماعي” للسوق الأوروبية. إن العملة الموحدة شكلت قمة هذا التطور حتى الآن: فهي تعني عملة موحدة ولكن من دون دولة موحدة، ومصرفاً مركزياً أوروبياً من دون حكومة سياسية ديمقراطية تراقبه. واليوم فإن دول الاتحاد الأوروبي، في ما يتعلق بسياستهم الاقتصادية والاجتماعية، محكومة بشراكة بين مصرفها المركزي وأسواق المال العالمية، ويظل الهدف الأساس للسياسة هو الظفر بثقة هذه المؤسسات. وترتفع في الآن نفسه داخل بلدان الاتحاد الفوارق الاجتماعية.
■ ما هي الانتقادات التي توجهونها إلى النيوماركسيين من مدرسة فرانكفورت، وخصوصاً إلى أطروحتهم عن الرأسمالية المتأخرة؟
– أوضحت في كتابي بأن أطروحة الرأسمالية المتأخرة تلتقي مع التيار الكينزي الغالب في زمنها حول فكرة أن الرأسمالية أضحت منظمة من طرف الدولة ومرتبطة بها، وأنه لا يمكننا الحديث عن رأس المال كطبقة. لقد بدا حينها أن استقرار النظام الاقتصادي والاجتماعي يرتبط فقط بحصول السياسة الحكومية على المشروعية السياسة من جهة الشعوب، أما التحولات الاجتماعية فكان يتم ربطها بالارتفاع المضطرد لمطالب الجمهور التي أضحت السياسة عاجزة عن تحقيقها. وبذلك يغفل هذا التفسير عنصراً مهماً، إذ في عقد السبعينيات كان رأس المال مَن تحرر من الرأسمالية الاجتماعية وعمد إلى تعويضها عبر الثورة النيوليبرالية التي ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، براديكالية السوق. وتقوم شرعية هذه السوق على “استهلاكويّة” مفرغة من السياسة وليس على انتماء سياسي.
■ هل نعيش اليوم نهاية الرأسمالية الديمقراطية؟
– نشهد في دول المركز الرأسمالي منذ ثلاثة عقود تراجعاً في الإقبال على صناديق الاقتراع، وعلاوة على ذلك فإن التنظيم النقابي يعرف تراجعاً في كل مكان ويمكن تسجيل التطور نفسه في ما يتعلق بنسب العضوية في الأحزاب السياسية، أما أحزاب الوسط، أو الأحزاب الجماهيرية فقد انتهت في عصر العولمة إلى نهج سياسة متصالحة مع رأس المال وفقاً للمبدأ الذي يقول بأنه لا وجود لبديل آخر. وعلى هامش هذه الأحزاب الكبرى نشهد، خصوصاً باتجاه اليمين، نشوء أحزاب احتجاجية، ما برحت قوتها تزداد، وهي غالباً ما تمثل مصالح الطبقة العاملة القديمة التي خذلتها الأحزاب الاشتراكيةـ الديمقراطية. وكما ذكرت فإن ذلك يترافق مع نمو للفوارق الاجتماعية وما مثّله ذلك من خروج لما يقرب من ربع المجتمع، في أسفل السلم الاجتماعي، من النظام السياسي والاقتصادي. وإذا لم تكن السياسة قادرة على العمل ضد انقسام المجتمع، فإنه يتوجب علينا فعلا أن نتحدث عن أزمة للديمقراطية.
■ تقول أطروحتكم بأننا لا نعيش اليوم أزمة اقتصاد ولكن أزمة سياسة. أين ترون أخطاء السياسة الحالية؟ وهل امتلكت السياسة أصلا القدرة على تجنب أخطائها؟
– لقد تحدثت عن ذلك من قبل. يتراجع باضطراد عدد الناس الذين يعتقدون بقدرة السياسة على حمايتهم من الانهيار الاجتماعي ومن عقود العمل التي تتحول باستمرار إلى عقود عمل مؤقتة، ومن تراجع الأجور وارتفاع ساعات العمل أو في قدرتها على حمايتهم من تكرار أزمة 2008، من دون أن ننسى الأزمة البيئية. إن فقدان الثقة الكبير في السياسات القائمة يقود إلى احتقار كلبيّ للفعل الجماعي المنظم لصالح ذهنية: “من يستطيع أن ينقذ نفسه، فيلفعل!”.
■ في كتابه “دستور الحرية” يكتب حايك إن البشر ليسوا فقط مخلوقات التقدم ولكنهم رهائن لديه. إنه يريد بذلك أن يقول إن الإنسانية لا يمكنها أن تتحرر من ميكانيزم التقدم. هل يعني ذلك أنه لا يمكننا النظر إلى أنفسنا في الليبرالية الاقتصادية ككائنات حرة؟ وألا يترتب عن عقيدة التقدم هذه العنصرية والحرب والفقر؟
– أعتقد أن هذا السؤال يقودنا بعيداً. لهذا سأحاول صياغته بشكل عملي. وفي هذا السياق أشير إلى الاستهلاكوية في المجتمعات الغربية “المتقدمة”، والتي بدأت وفي اضطراد بتعويض الشرعية الديمقراطية. إن الناس يعملون تحت ضغوط لم يعيشوها من قبل حتى يتمكنوا من شراء ما أمكن من الأشياء التي لا يحتاجون إليها. أما مستوى الحياة الذي يبلغونه عبر ذلك فهو يفترس الثرواث بشكل يصبح من المستحيل توسيعه ليعم البشرية جمعاء. وعلى الرغم من ذلك فإنه يتم النظر في أطراف الرأسمالية الاستهلاكية إلى حياة الأميركي أو الأوروبي على أنها هدف الحياة الذي يتوجب تحقيقه. إن صعوبة تحقيق هذا التقدم على مستوى كوني هو أحد الأسباب التي تقف خلف الفقر والنزاعات دون أن ننسى تدمير البيئة.
■ بالنظر إلى كل هذه التطورات، كيف تنظرون اليوم إلى مستقبل الديمقراطية؟
– بالنسبة لي، مثلت الديمقراطية وسيلة للناس البسطاء، تمكّنهم من إقلاق النخب الحاكمة وإرغامها على احترام ولو كان جزئياً لمصالحهم. لكن هذا لا يتحقق إلا في ظل وجود أحزاب جماهيرية منظمة ونقابات. لكننا نشهد اليوم تراجعاً في هذا المجال. ولربما لا تسمح الحقوق الديمقراطية اليوم إلا بخوض احتجاجات “شعبوية” غامضة. بقي لنا أن نأمل بأن علامات التغرب السياسي هذه، ستكون قادرة على خلق قلق سياسي واقتصادي في أوساط الطبقات الحاكمة، حتى تتخلى قليلا عن نشوتها بالنصر وتكون مستعدة للتفاوض. وإذا لم يتحقق ذلك، فهذا يعني بأن الديمقراطية قد انتهى عصرها.
العربي الجديد