فيلم المخرج السوري محمد ملص “سلم إلى دمشق”
سوريا بين الحلم والصدمة
يصوِّر المخرج السوري المعروف محمد مَلَص في فيلمه الجديد “سُلَّمٌ إلى دمشق” مأساة الصراع السوري من جميع جوانبها ومن دون اللجوء إلى عرض مشاهد عنف. “سلم إلى دمشق” فيلم ينقل رسالة عاجلة وملحة إلى البشرية. الباحثة والمنسقة الفنية الألمانية شارلوته بانك تستعرض لموقع قنطرة هذا الفيلم.
في الرابع من شهر آذار/ مارس 2014 انتشر في المنتديات الاجتماعية على شبكة الإنترنت خبر مزعج – خبر حول اعتقال المخرج السينمائي السوري محمد ملص عند الحدود السورية اللبنانية وهو في طريقه إلى بيروت، من أجل السفر من هناك إلى مدينة جنيف؛ حيث كان من المقرَّر أن يعرض فيلمه الجديد “سلم إلى دمشق” ضمن فعاليات المهرجان السينمائي الدولي لحقوق الإنسان (مهرجان الفيلم والمنتدى الدولي لحقوق الإنسان).
ولحسن الحظ فقد تم الإفراج عنه في اليوم نفسه، ولكن مع ذلك اضطر إلى إلغاء رحلته، ولم يعد بإمكانه منذ ذلك الحين مغادرة البلاد. ليست هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها المخابرات السورية تكتيك إلقاء القبض على الفنَّانين والمخرجين السوريين المؤيِّدين للثورة السورية ضدّ النظام، واعتقالهم أثناء محاولتهم مغادرة البلاد.
قد حدث شيء مشابه مع المخرج نضال حسن، عندما كان يريد السفر في أواخر عام 2011 إلى كوبنهاغن، من أجل المشاركة في “مهرجان كوبنهاغن الدولي للفيلم الوثائقي” (CPH: DOX)، وحدث ذلك أيضًا في صيف العام 2012 مع المنتج السينمائي ومدير مهرجان “دوكس بوكس” السوري عروة نيربية، الذي تم اعتقاله في مطار دمشق وهو في طريقه إلى القاهرة.
ولكن حتى وإن لم يعد بإمكان محمد ملص مغادرة البلاد بنفسه، فإنَّ فيلمه يدور الآن على الرغم من ذلك في جميع أنحاء العالم؛ فيلم ينقل رسالة عاجلة وملحة إلى البشرية – وهو أمر بات نادرًا في قضية سوريا.
“الفيلم المخفي”
يدور فيلم “سلم إلى دمشق” حول قصة شخصين شابين، يتعرَّف بعضهما على بعض من خلال العمل في مشروع فيلم ويحب بعضهما البعض، وحول سكنهما المشترك المتعدّد الألوان الواقع في مدينة دمشق القديمة. بطل الفيلم فؤاد، شاب مهووس كثيرًا بصناعة الأفلام إلى درجة أنَّ الآخرين قد أطلقوا عليه ببساطة لقب “سينما”. يتعرَّف فؤاد على الشابة غالية في بروفة مسرحية وينجذب إليها ليتبعها، بسبب اعتقاده أنَّ فيها “فيلمًا مخفيًا”. وهكذا يرغب في اكتشاف هذا الفيلم.
حياة غالية ووعيها متشابكان بطريقة غريبة مع حياة زينة، تلك الشابة التي تُقْدِم على الانتحار في عيد ميلاد غالية، وذلك بعد تلقيها نبأ اعتقال والدها. يقوم فؤاد بمساعدة غالية، التي تعتبر جديدة في مدينة دمشق، ويمد لها يدّ العون لإيجاد سكن لها. وفي آخر المطاف تنتقل غالية إلى المنزل نفسه الذي يعيش فيه فؤاد بالإضافة إلى عدد من الفنانين ومصممي الغرافيك والكتَّاب والفلاسفة – مزيج ملوَّن من أشخاص ينتمون إلى مجموعات دينية وعرقية مختلفة – وهذا أمر كان شائعًا كثيرًا في دمشق قبل الثورة، ولكنه أضحى اليوم وعلى نحو متزايد أمرًا مستحيلاً.
يجسِّد هذا السكن المشترك آمال المواطنين السوريين في التغيير السلمي، الذي كان في بداية الانتفاضة لا يزال يبدو أمرًا ممكنًا، ولكنه بات الآن مهدَّدًا بالانكسار بين الخوف والإرهاب والتعصُّب. مشاهد الاعتقالات والتعذيب والتهديد تتخلَّل هذا الفيلم الذي يُظهر بأسلوب مؤثِّر كيف تغيَّرت الحياة في دمشق؛ ولكنه يُبرز أيضًا مدى الجهد الذي يتم بذله لإيجاد الإرادة في كلِّ يوم من أجل الاستمرار في المقاومة.
لا يتم استثناء أي أحد من الأحداث. صاحبة المنزل، امرأة مسنة ومتديِّنة، تجمع جميع المستأجرين تحت سقف منزلها وتعطي كلّ واحد منهم كلمة مرور خاصة به مناسبة لفتح باب المنزل. لكنها تكون في العادة مشغولة بصلواتها. وذات مرة تنهار منفجرةً في البكاء، عند عودتها من صلاة الجمعة التي اعتادت على أدائها في المسجد الأموي؛ وتذكر لكن بصورة متقطعة وغير متصلة، الأحداث الرهيبة التي شاهدتها في الشارع. “شباب لا تزال حياتهم أمامهم …” – هذا ما تستطيع قوله بشكل متقطع قبل انفجارها في البكاء.
صورة مصغَّرة عن المجتمع السوري
ينسج ملص قصص شخصياته بعضها ببعض، وكذلك تتقاطع مساراتهم مرارًا وتكرارًا في فناء هذا البيت الدمشقي، وكثيرًا ما تظهر في وجوههم معالم القلق والخوف. ولكن هناك أيضًا لحظات من التضامن الحقيقي والأمل: على سبيل المثال مشاركة السكَّان بعضهم لبعض في مشاهدة العروض السينمائية في فناء المنزل، وتقاسمهم الذكريات وكذلك اهتمامهم المشترك حين يتم القبض على أحدهم، ميزات تميِّز حياة هذا السكن المشترك الصغير، الذي يظهر في جوانب كثيرة كصورة مصغَّرة عن المجتمع السوري.
المخرج السوري المعروف محمد ملص أثناء زيارته مهرجان دبي السينمائي الدولي قبل بضعة أشهر، بات الآن ممنوعًا من مغادرة سوريا. وعلى الرغم من منعه من السفر خارج البلاد، إلاَّ أنَّ فيلمه الجديد “سلم إلى دمشق” يدور في جميع أنحاء العالم.
نجح المخرج محمد ملص من خلال فيلمه “سُلَّم إلى دمشق” في إخراج فيلم يعرض الوضع المأساوي السوري برمَّته من دون لجوئه إلى استخدام مشاهد عنف. يعرض الفيلم أجواء الخوف والتهديد الحاضرة في كلِّ مكان، في الضجيج المسموع في الخلفية نتيجة تحليق الطائرات العسكرية والقصف البعيد، في الخوف المستمر – خوف من الاعتقالات يشتعل كلما تم قرع الباب بشدة، وفي كلِّ لحظة لا يُعرف فيها مكان وجود صديق ما، لأنَّ هذا قد يعني مباشرة أسوأ الاحتمالات. ومثلما هي الحال في جميع أفلامه فقد جاء أيضًا فيلمه هذا منسوجًا بصور شعرية تتحرَّك بين الحلم والذاكرة والواقع، وتبدو مؤثرة من خلال قوتها الرمزية.
يبدو الأمر في هذا الفيلم الذي تم تصوير الجزء الأكبر منه في أماكن مغلقة، كما لو أنَّه يريد تأكيد كلام فؤاد، الذي أهداه والده كاميرا. وقال: “اُخرج وصوِّر بها كلَّ شيء”؛ بيد أنَّه يكتشف أنَّ الأشخاص الذين يحملون كاميرات في شوارع سوريا يُعرِّضون حياتهم للخطر.
صرخة من أجل الحرية
في الواقع تم خلال الثورة السورية استهداف العديد من الأشخاص وقتلهم قتلاً متعمدًا، وبالذات لأنَّهم كانوا يحملون كاميرا في أيديهم. وخير مثال على هذا القتل المتعمد الشاب باسل شحادة، الذي كان يدرس الإخراج السينمائي وترك دراسته في الولايات المتَّحدة الأمريكية، ليعود إلى سوريا من أجل تعليم الصحفيين الشعبيين الشباب تقنيات التصوير والتحرير. لقد تم قتل باسل شحادة رميًا بالرصاص في شارع عام في مدينة حمص، وهو يحمل الكاميرا في يده. وكذلك يلعب موته دورًا في فيلم المخرج محمد ملص. فحينما يسمع حسين، الذي تم الإفراج عنه من السجن، خبر وفاة باسل شحادة، يرمي جهاز التلفزيون من النافذة، ليخلق تحطمه صوتًا يبدو مثل انفجار قنبلة.
في نهاية الفيلم يصعد حسين على سُلَّم، كان قد وضعه على سطح المنزل وجعل المستأجرين الآخرين يثبتونه، وفي هذه الأثناء يصرخ بصوت عالٍ “حرية”. يُسكِت هذه الصرخة صوتُ انفجار، وتصبح الشاشة سوداء. لا يمكن تقريبًا سرد قصة الثورة السورية بشكل أوضح: قصة حول صرخة جماعية من أجل الحرية – صرخة تم كبتها بقوة السلاح.
شارلوته بانك
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2014